لا جديد في أن أقول إن هناك مكانين يستطيع فيهما الأطفال أن يتعلموا. هذان المكانان هما البيت والمدرسة. إذا تعلم الطفل في البيت، فستسهل مهمة المدرسة في ما بعد. لكن (إذا) الشرطية هذه خطرة جداً، ويجب أن يضمن المجتمع أن أطفاله سيتعلمون قيم العصر الذي ينتمون إليه. والمدرسة هي المكان الضروري لتعليم قيم العصر؛ لأنها تلازم مراحل نمو الطفل (إلى 18 سنة). لا يستطيع البيت وحده أن يعلم أطفاله؛ فالتسامح والتعايش - على سبيل المثال - يكونان بين الناس، وإذا لم يكونا إلا في إطار الأسرة، فسيصبحا ضعيفين لا يعول عليهما. إن البيت الناجح في تعليم التسامح والتعايش لا يعوض أبداً فشل المدرسة وقصورها، والمجتمع لا يمكنه أن يعول على البيت وحده لتعليم التسامح والتعايش، ولا بد أن يوفر سبلاً أخرى أفضلها المدرسة. *** لا يعني الفشل في تعلّم التسامح والتعايش أن الأطفال لن يعيشوا؛ ذلك أن جزءاً من المجتمع الآن يعيش من دونهما، لكن غير المتسامحين وغير المتعيشين يتميزون بالانغلاق، وهم عبء ثقيل على المجتمع الذي يريد أن يعيش، ومن المنطقي أن يشكلوا جزءاً مزعجاً. يجب أن يتعلم هؤلاء التسامح والتعايش في المدرسة، وإذا لم يتعلموها في المدرسة فإن فرص تعلمهم خارجها قليلة. سيحاول غير المتسامحين والرافضين التعايش أن يجدوا قيمهم الخاصة، وهي عادة ما تنتمي إلى عصور قديمة. إن المثير هنا أنهم قد يلجأون إلى طرق ملتوية يعبرون بها عن قيمهم، وقد يقاومون المجتمع الذي يظنون أنه يتنكّر لقيمهم الراسخة الجذور في الماضي. وأكثر من هذا قد يقسر هؤلاء الجزء الآخر من المجتمع على قيمهم، وإن لم يفعل فقد يلجأون إلى العنف. إذا لم يجد غير المتسامحين والرافضون التعايش مساعدة في مقتبل أعمارهم فسنتوقع منهم أكثر من هذا. وإني لأذهب إلى أن المدرسة مسؤولة عن هؤلاء حين كانوا أطفالاً. على أننا لن نحمل المدرسة ما لا تحتمل؛ ذلك أننا لا نقلل من مسؤولية الأطفال من أجل أن يتعلموا، فمن دون استغراقهم في التعلم الشاق لن يكون تأثير المدرسة كاملاً. *** تساعد المدرسة الأطفال في أن يجدوا ما فقدوه في أسرهم، ولو اخترنا قيمة من قيم العصر الحديث مثالاً على هذا، فإن الطفل نادراً ما يتعلم قيمة التواصل مع الآخرين في نطاق الأسرة؛ إما لأنه وحيد، وإما لأنه يدخل في صراع مع والديه أو يدخل صراعاً مع إخوته على الأشياء. يرجَّح أن مشكلة التواصل لن تحَل على مستوى الأسرة؛ فالجماعة التي يمكن أن يتواصل معها الطفل توجد في المدرسة. هناك لن يتعامل الطفل مع الأطفال الذين يشبهونه فقط؛ إنما سيتعامل مع الأطفال المختلفين عنه، وإذ لم تعلم المدرسة التواصل فإن فرص تعلم الأطفال بعد ذلك ضعيفة. قد ينتج ضعف تواصل الأطفال عن أسباب لا يستطيعون أن يزيلوها من حياتهم؛ كالعيش غير الملائم للأسرة، والحرمان الاقتصادي... إلخ، غير أن المدرسة تستطيع إزالة هذه الأسباب؛ أعني ألا تعترف بما هو موجود خارجها من فوارق لا تنسب إلى الطبيعة؛ ذلك أن المدرسة تمثل الوحدة الكبرى في المجتمع، ويجب أن تعلم الأطفال كيف يتغلبون على الفوارق التي تعود إلى أسباب اجتماعية واقتصادية، فالأصل هو المساواة بين الأطفال؛ أنهم ولدوا متساوين. *** تحتل المدرسة عندي وضعاً فريداً لكي يتغلب الأطفال على عدم المساواة التي ترتّبت على فوارق ليست طبيعية. ويجب أن تزوَّد بأفراد (معلمين، مديرين... إلخ) مؤمنين بالمساواة ومتحمسين لها. وإذا لم يكونوا كذلك فيجب أن يكونوا كذلك؛ ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه. إن التمكّن من شيء يظهر في القدرة على تعليمه، وحيث يتواصل المعلمون والمديرون.. إلخ مع الطلاب، وحيث يتواصل الطلاب مع بعضهم البعض بغض النظر عن أي فارق اجتماعي أو اقتصادي تنمو مهارة التواصل. لقد اخترت كلمة (مهارة) متعمداً؛ ذلك أن المدارس المبتغاة يجب أن تنتقل من تعليم الفهم العام الذي يخص جماعة إلى تعليم المهارة التي تخص الفرد. لا أدعو هنا إلى أن يطغى تعلم المهارة على تعلم الفهم العام، ولا أن يطغى تعلم الفهم العام على المهارة. يجب أن يكون هناك توازن بين الإتقان والإثراء، فلو أمكن إتقان الأطفال المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب والقيم العصرية، وكل ما يثريهم فذلك خير. لكن العمر قصير، ووقت المدرسة ليس طويلاً، والمثري ليس قليلاً؛ لذلك فالأفضل أن يتعلموا ما هو أساسي جداً، وما هو مثرٍ لا فكاك منه. إن التوازي بين الإتقان والإثراء هو إحدى مهام المدرسة الأساسية. *** لا يمكن أن يتعلم الطفل بالقوة أو بالتهديد أو بالعقاب أو بالإخجال؛ لأن تأثير هذه ينقطع بزوال أداته، ينتهي أثر العقاب بزوال العصا، والإخجال بزوال الكلام.. وهكذا. لقد انتهى الزمن الذي كان يقال فيه «العلم يرفعهم، والعصا تنفعهم، ولولا سياط السلم ما حفظوا الكتب». وإذا ما كان لهذه الأدوات نجاعة في وقت ما، فلأنها تناسب التعلم القائم على الحفظ؛ أي إما أن يحفظ الطفل أو يعاقَب. وبما أن المقصود من التعلم هنا هو الفهم وليس الحفظ، فليس من المنطق أن يحاسَب أحد الطفل أو يهدده أو يخْجله أو يعاقبه لأن فهمه لم يتطابق مع فهم هذا الأحد. لا يستخدم التعلم المبني على الفهم العقاب إنما يشتغل على الحافز، ويجب أن تفترض المدارس وجود الحافز عند كل طفل لكي يتعلم. وإذا لم يكن موجوداً فيجب أن توجده. لا يمكن للمدرسة أن تنجح بالمزيد من التهديدات والعقوبات والتوبيخ؛ إنما تنجح بمشاركة الطفل ليشبع حاجاته، وفي مقدمها حاجته إلى أن يشبع عقله؛ أي أن تتيح له مجالات واسعة يستخدم عقله فيها. ناقد و روائي سعودي.