إلى المربي القدير والفاضل: عبدالله أحمد الثقفي المدير العام للتعليم في محافظة جدة. أكتب هذه المقالة بعد ربع قرن من دخولي أول حصة لأدرِّس، وبعد يوم من اجتماعنا – نحن المشرفين - مع المربي والأستاذ القدير عبدالله أحمد الثقفي المدير العام للتربية والتعليم في محافظة جدة. أكتبها بالحماسة ذاتها التي دخلت بها الحصة آنذاك، ومن وحي الحماسة لما يمكن أن تقدمه المدرسة للمجتمع السعودي حين تحدّث عنها الأستاذ القدير عبدالله الثقفي. ومع ذلك فمقالتي شخصية عن المدرسة كما أتمنى أن تكون، فقد دفعتني الأعوام القليلة الماضية إلى أن أعيد النظر في وضع المدرسة في المجتمع السعودي، فوضعها الآن مقارنة بما كانت عليه قبل ربع قرن يشير إلى الأسس التي يجب أن تقوم عليها إعادة النظر، ذلك أن المدرسة حين تمرض فالكيان - المجتمع - يمرض كله، وإذا ما تعافت يصبح ما سوى ذلك مسألة وقت وإرادة. كلما تنامى الزمن صدمت المدرسة حالي المتفائلة بما يمكن أن تقوم به، ولا أخفي القارئ أن صدمتي تطورت بالتدريج إلى عدم أمان وقلق مما يحمله المستقبل للمجتمع السعودي إذا اعتمد على المدرسة الحالية في تربية أطفاله وتجهيزهم للعيش. وكلما تنامت الأعوام انعدمت ثقتي في قدرة المدرسة السعودية - كما هي الآن - على التعامل مع القيم والقضايا المستجدة كل يوم تقريباً. لقد اتضح لي من عملي كل هذه الأعوام أن ما هو محل تقدير في المدرسة السعودية الآن كالحفظ والتلقين والرأي الواحد والمعرفة اليقينية وعسْكرة المدرسة، وطرقها الماكرة في السيطرة على الأطفال.. إلى آخره، هي نفسها التي حرمت المدرسة من أن تقدّر قيم المعرفة وقيم العصر الحديث. هل من تفسير لكل هذا الذي يحصل؟ يتطلب هذا عمقاً في التفكير أبعد غوراً مما تستطيعه هذه المقالة، ولن أكتمكم سراً أن في داخلي حفاراً عميقاً لا يكف عن العمل في الحفر، لكنني لا أعرف إلى أين يتجه النفق الذي يحفره، إلا أن هناك صوتاً مكتوماً للحفار يقول: «إن جانباً مهماً من عملية إعادة بناء المدرسة التي يحتاجها المجتمع السعودي الآن يتعلق بتصور المدرسة ذاتها». لا أعرف السبب، لكن ذلك لا يرجع إلى جهلي بعد كل هذه الأعوام تعلّماً وتعليماً، إنما لأن ما يحدث للمدرسة لم يُعرف في شكل كامل. أعرف كثيراًَ من العقول صغُرت إلى حد أنها صارت كرأس إبرة نتيجة قصْر اهتمامها على موضوع معيّن. وهذه المقالة مكتوبة لمن يستخدم عقله وسيلة للامتداد على الأرض وصوب السماء. وبتنويع المواقف، وتجريب زوايا النظر لا بد من أن تتضح أهمية إعادة بناء تصور المدرسة المرغوبة أكثر من المعلمين والكتب والوسائل والمباني المدرسية. يحتاج المجتمع السعودي إلى عملية تغيير جذري للمفاهيم التي تتأسس عليها المدرسة، وأكثر من ذلك تغيير جذري في تصوراته عن المعلمين والكتب والوسائل التي تخدم المدرسة المعاد بناؤها. *** لست أرى مكاناً خيراً من هذا المكان لأذكّر بأن كل جيل من الأجيال يحاول أن يضفي صوراً جديدة على أمانيه وأحلامه في العيش، وفي الصميم من آماله وأحلامه أن يحاول تشكيل التعليم في زمنه بما يوافق الزمن الذي يعيش فيه، ولعل العلامة المميزة للمجتمع السعودي الآن إيمانه بجدوى التعليم، ووعيه وإدراكه بأنه يجب أن يكون وسيلة لتدريب أبنائه على قيم العصر الحديث. أعرف الجدل الذي دار في الأدبيات التربوية والاجتماعية. هناك من قال إن المدرسة تتبع للدولة، وأن الهدف منها هو صهر الأفراد لتجعلهم متشابهين، لا تشبع العقل وإنما ترضي سلطة الدولة. وفي المقابل هناك من قال إن المدرسة هي أداة الدولة لنشر الفضائل المدنية. إذاً، كيف يمكن أن أتحدث عن المدرسة وموقعها من الدولة من دون أن أقع في ذم هذه أو مدح تلك؟ إحدى السبل هو أن أختار طريقاً وسطاً بين هذين الحدين، أي أن أتأمل العلاقة القائمة بين المدرسة والدولة. يجب أن أعترف بالتباين، ثم أبحث عن العلاقات بينهما، ولأعترف هنا أنها علاقة تأثر الأولى بالثانية، إلا أنني يجب أن أعترف بأن خصوبة التأمل الذي تعدنا به جدلية العلاقة خصوبة مشجعة أكثر من علاقة التأثر. إن ما يجعل الكتابة عن جدل العلاقة بين الدولة والمدرسة هو الضجة التي تحيط بها، وما هو أصعب أن الضجة قد تكون صحيحة، لذلك لن تكشف هذه التأملات إلا عن بعض سمات المدرسة المبتغاة التي يمكن أن ترعاها وتدعمها الدولة. سأركز على عدد قليل جداً من الأولويات، وأعني أن أضع حداً لضوضاء الأفكار التي تطلبها الدولة من المدرسة أو العكس، وهذا سيسمح لي بأن أركز على أفكار قليلة تحتاجها الدولة لتعيد بناء المدرسة ويعيش المجتمع السعودي عصره. لكن إذا ما عرفنا أن عمر الجيل قصير مقارنة بعمر الدولة الطويل، فإن ما قلته قبل قليل يصبح ذا أهمية كبرى. أعني أن كل جيل من الأجيال يحاول أن يضفي صوراً جديدة على أحلامه، وفي الصميم من أماني كل جيل وأحلامه تشكيل التعليم في زمنه بما يوافق الزمن الذي يعيش فيه، ومن هذه الزاوية من مصلحة الدولة أن ترعى إيمان الأجيال بجدوى التعليم، ووعيها بأن يكون وسيلة لتدريب أبنائها على قيم العصر الذي ينتمي إليه. *** لا يتطلب بناء الإنسان السعودي وتكوينه الآن مجرد تصور مدرسة مختلفة إلى حد ما عمّا هي عليه الآن، إنما يتطلب ابتكار مدرسة جديدة قادرة على أن تنمي مفهومات وقيم العصر الحديث التي يعيش فيه المجتمع السعودي مثل «الاتصال». أي أن تدرب المدرسة الأفراد على أن يشاركوا في الحياة الحديثة، وأن يتبادلوا الأفكار مع الآخرين حتى لو اختلفوا معهم في الثقافة. يعلمنا التاريخ أن في رحم الزمان أفكاراً لا بد لها من أن تولد، لذلك فمن وظائف المدرسة الجديدة التي تفتقدها المدرسة القائمة حالياً أن تنمي الوعي بأهمية «الزمن»، أي تدرب وتدفع الفرد السعودي إلى أن يتقبل التغيير، وأن يؤمن عدم تحكم الماضي في تشكيل الحاضر أو الحد من تطوير المستقبل. صحيح أن الزمن الماضي طيب في التاريخ الإسلامي، لكن الحاضر أطيب. وإذا ما كان للحاضر أخطاؤه، فهي أخطاء البشر الذين يكررون ما جاء في الزمن الماضي من دون تمحيص. أنا لا أخطب هنا، وإنما أدعو إلى أن تتبنى المدرسة الجديدة في موقفها من الحاضر نشاط الأطفال المكثّف. الأطفال الذين يستمتعون كما لو أن الحياة توشك أن تنتهي، ولا بد من أن يستمتعوا بها إلى آخر لحظة. لقد ضخمت المدرسة الحالية من إعجابنا بالماضي إلى أن قللت من الحاضر. يجب أن تسقط المدرسة الجديدة الرهبة من الماضي، وأن تُعجَب بالحاضر والمستقبل. سيستغرق التخلص من عقدة الدونية هذه وقتاً طويلاً، لكن العمل على هذا الطريق طويل، تنهيه المدرسة حين تبدأ. هناك إمكانية أن تفعل المدرسة الجديدة ما هو أكثر مثل«التنمية البدنية»، وارتباطها ببناء الشخصية الإنسانية للإناث والذكور من دون تفريق، وهو ما يُعبر عنه بالجسم السليم. لقد مضى الزمن الذي لا يعيش فيه إلا القوي جسدياً. في الماضي الذي يموت فيه الضعفاء أطفالاً. هذا عصر قاسٍ في ما يتعلق بصحة الإنسان، وزمن العجائب الذي يُشفى فيه المرء من حبّة سوداء أو رشفة عسل انتهى، ولذلك فمن المفيد أن تدرب المدرسة الجديدة الفرد على أن يحافظ على صحته. *** إنني أتخيل كيف تبدو المدرسة الجديدة نظيفة وهي تنمي وعي الفرد السعودي ب«المكان» حيث يجلس أو يستمتع. المكان المحسوس والثقافي والحضاري. وكيف يبدو الفرد ذاته وهو يحافظ على أمكنة الوطن الثقافية وعلى أدواتها بدءاً بالمدرسة ومروراً بالحديقة، واتخاذ موقف إيجابي من الآثار التي تنتشر في مساحة المملكة الهائلة، فالمكان هو امتداد الإنسان الأفقي. يسبقني عقلي إلى المدرسة الجديدة قبل أن تنشأ، وأنا أتصور أنها تخلص الفرد السعودي من القبح حين تنمي إدراكه «الفن» وتذوق الفنون الجميلة المرئية والمسموعة والأدائية، وقدرته على أن يتخيل ويتصور ويقدر القيم الجمالية وأساليب التعبير التي تعكسها الفنون المختلفة. أكثر من هذا أن يمثل مفهوم «المواطنة» محوراً ثابتاً لعمل المدرسة الجديدة، ولا بد من أن مهمة المدرسة ستبقى ناقصة من دون أن تولي اهتماماً كافياً بدور الفرد السعودي في المجتمع، وتنمية سلوكياته الإيجابية كمواطن، وتنمية مشاعره وتفكيره تجاه وطنه، واحترام الرموز التي تمثله، وأكثر من هذا المشاركة الفردية الفاعلة في مجالات مفتوحة للشؤون الإنسانية المجتمعية. في كل مرة يذهب فيها الفرد إلى المسجد ليصلي، ثم يحضر اجتماعاً بعد الصلاة مخصصاً لنظافة الحي، أو للتفكير في عمل خيري لفقراء الحي، يكون مواطناً محترماً. هذا مجرد مثل لتفاعلات المواطن اليومية التي يمكن أن يتدرب عليها الفرد في المدرسة التي أريدها. ليس الإنسان ما هو كائن، إنما هو أيضاً ما هو آخذ بالتحول إليه، يختلط الإنسان بالأمكنة وبالأمزجة، فتعيد هذه العوامل رسمه من جديد، ولا أظن أن هناك مكاناً أفضل من المدرسة في التنمية «الأخلاقية والقيمية» لكي يؤمن الفرد السعودي ب«العقلانية والإنسانية واحترام الآخر». ليس ثمة وقت متأخر على أن تدرب المدرسة الفرد على «الروح العلمية»، أي أن يحل الفرد التفكير العلمي محل التفكير الخرافي. ليس الإنسان «إسفنجة» ما إن يُضغط عليها حتى تخرج الاستشهادات بالنصوص. هناك عقل يبحث عن الأسباب والعلل. الكلمات هي العدو الأكبر للتربية، والكلمات الكثيرة لا تكشف عن شيء، والسر يكمن في العقل وليس في الكلمات. * روائي وناقد سعودي.