ينبئ الواقع السياسي الحالي، أن الشيعية السياسية وضعت «شيعتها» في قفص، وحملت الطائفة معها، إلى خط المواجهة المفتوحة مع الطائفيات والطوائف الأخرى، طلباً لهيمنةٍ مستحيلة. إن الهيمنة الطائفية العارية، من قبل طائفية سياسية ما، لا تنتج إلا دماراً بنيوياً خالصاً، وحرباً أهلية متناسلة. تقع تجربة المارونية السياسية ضمن هذا السياق. لقد ارتضى الجمع اللبناني هيمنة هذا الفريق، عندما كان متقدماً ضمن بيئته أولاً، وضمن المدى الوطني الأوسع ثانياً. لم تكن الهيمنة مفردة، بل كانت خليط مصالح، أخذت منها المسيحية السياسية بنصيب وافر، وأخذ الإسلام السياسي من تلك المصالح، مغانم ليست بالقليلة. لاحقاً، وقفت المسيحية السياسية، بقيادة المارونية، شبه عارية سياسياً، عندما رفضت معاينة المتغيرات العامة، التي أحاطت بالوضعية اللبنانية، وعاندت وكابرت، حتى تقدم لها أبناء الهيمنة البديلة، بثوب خاطوه على مقاسهم، وتركوا لها أمر تدبير حال «جسدها» مع اللباس الحديث. اليوم، تتصدر هيمنة الإسلام السياسي المشهد اللبناني، وتتمركز الشيعية السياسية في الصفوف الأمامية لهذه الهيمنة. هي نسخة جديدة أنتجتها تطورات متلاحقة، أبرزها مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، والمرحلة التي مهدت لوضع حد لمفاعيل هذا الاجتياح، أواسط عام 2000، الذي شهد انسحاب قوات الغزو من الأرض اللبنانية. موجز القول: نجح مشروع الإسلام السياسي في طرد الاحتلال الإسرائيلي، وأخفق مشروع المسيحية السياسية في رهانه على الاستقواء على الوضع الداخلي بنتائج الاحتلال. لكن الإشارة إلى هذه الخلاصة الصادمة، لا تلغي التمييز اللازم، بين كل من عقدي الثمانينات والتسعينات، من القرن الماضي. لقد كان الأول عقد صراع «الخيارات»، وكان الثاني عقد حصاد السياسات. نضيف: أن الانشطار العام الذي كان سمة للوضع اللبناني، حتى مطلع التسعينات، بدأ يخلي المكان لتوافقات لبنانية مختلفة، حول سبل استئناف مسيرة السياق اللبناني. القصد من التمييز هذا هو التنبيه إلى أن الشيعية السياسية، التي نهضت ببند «المهمة الوطنية» الأهم، أتيح لها توافق داخلي إجمالي. لذلك فإن النجاح في الميدان الوطني، المشار إليه، ليس فعلاً فئوياً أتاه فريق بعينه، بل هو، حصيلة التوافق الذي نشأ حوله وواكبه في مختلف محطاته. هل يلغي ذلك المساهمة المتميزة «لقوى التحرير»؟ بالتأكيد لا، لكن هل يعطي الفوز حق السعي إلى الهيمنة المفردة، الجواب بالنفي القاطع هو الأصوب، وفقاً لكل المعايير اللبنانية. ينقلنا ما تقدم، إلى بيت القصيد، الذي يتعلق بمسألة الشيعية السياسية، التي تحاول تكرار تجربة سابقة من الهيمنة، على اختلاف في المضامين والمعطيات. من وجوه الاختلاف، أن الهيمنة السابقة قدمت «فلسفة مختلطة» للبنانيين، يتجاور فيها الحديث والقديم، والملموس والغيبي، والمعقول والخرافي، مما وجد أصداء له في السياسة وفي الاقتصاد، وفي تعريفات «الأمة اللبنانية». هذا يعني أن المصالح وجدت تعريفاتها المختلفة، وقنواتها المتنوعة، ولامست نمطاً من «التعددية»، التي لا يقلل من شأنها النقد الجدي الذي يتناول مقولاتها وتجلياتها. في موازاة ذلك، تطرح الشيعية الحالية، على اللبنانيين هيمنة عمادها بند وحيد: القتال الدائم ضد العدو الإسرائيلي. في وصف ذلك، نقول هذا اختزال للسياق الوطني اللبناني، واستبعاد له في الوقت ذاته. هو اختزال لأنه يلغي كل المهام البديهية الأخرى، لأي اجتماع وطني سليم، وفقاً لروزنامة أهلية أحادية، تحدد سلّم الأولويات. يؤسس للاختزال العام، انطلاقاً من اختزال البيئة الأهلية الخاصة، هذا ما يطالعنا اليوم، من أحوال الطائفة الشيعية. لقد ألغي التمايز الجاد ضمن هذه الأخيرة، وجرى توزيع تمثيلها على قطبين منها، هما حركة «أمل»، و«حزب الله». اعتمدت السياسة «الإلغائية» على خلق وضعية أخرى للشيعية السياسية، من عناصرها: تكريس نزعة التفوق المستندة إلى إنجاز التحرير. تغذية الانتشاء بالإنجاز بخطب تعبوية وبتقديمات مادية. وضع المجموعة الأهلية الشيعية كلها، في مواقع الاستهداف لحرمانها من عوامل صعودها. تنمية شعور التضحية، ثم الوصول بأصحابه إلى موقع الضحية. الاقتراب، بناء على كل ذلك، من تأسيس عقلية حصار، والعيش في ظل أحكامها. هندسة البيئة الخاصة، كانت شرطاً لمباشرة هندسة البيئات الأخرى. بالتوازي، يطرح سؤال: لكن هل قدمت الأطياف الأهلية الأخرى خطباً تواصلية، الجواب بالإيجاب، لكن من ضمن الحدود الأهلية المعروفة، والممكنة، لكل طيف لبناني. على سبيل المثال: ما يطرح على ألسنة المسيحية اللبنانية، من مطالب سيادية تتعلق بالدولة وما إليها، يشكل مادة تواصل. كذلك فإن ما يطرح على ألسنة السنية السياسية، من طلب للعدالة وللحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يصلح أيضاً، كموضوع للنقاش المشترك. ما الأجوبة التي قدمت على ما ساقه هؤلاء الأفرقاء؟ ليس أقل من النزول على التفسيرات المحددة، التي تقر بها الشيعية الحالية، وتطلب النطق بمفرداتها. ما الوضعية الناجمة عن ذلك التقابل الأهلي، الذي تجد الشيعية الحالية نفسها على رأس هرمه؟ في الجواب نجد الآتي: خطر الانسداد السياسي الذي ينذر بعواقب غير مأمونة، ورهن الوضع الداخلي لعوامل خارجية، كاستمرار لنظرية الاستقواء اللبنانية المعروفة، وفرض مسلك خطر على الطائفة الشيعية عموماً، وأخذ مصالحها الوطنية إلى مجهولات شيعيتها التي تتولى شؤونها في الراهن. ماذا يرتب ذلك، على كل الذين يقاربون المصير الوطني اللبناني من مداخل مغايرة؟ أبسط القول، إن أولئك مطالبون برفض الهيمنة العارية، أنّى كان مصدرها، وعلى أولئك تقع مسؤولية كبرى، في مساجلة السياسة الاختزالية، التي تحيل البلد إلى سلاح محض، أو إلى عدالة مطلقة. وقبل هذا وذاك، تأتي مسؤولية «المثقفين» ذوي الأصول الشيعية عن رفع الصوت، في وجه النسخة القائمة من الشيعية السياسية، دفاعاً عن معنى شيعيتهم، كمساهمة أساسية في استقامة أمور المعادلة الوطنية. * كاتب لبناني