تكرس الزعامات اللبنانية وجودها في السياسة كما في الطائفة. وكلما ازدادت الطائفة تعلقاً بزعيمها، اصبحت لزعامته صفة النفوذ الذي لا يناقش. بلد لا يستطيع فيه احد أن يلغي أحداً مهما بلغت حدة الخلافات ومهما تباعدت المواقف. لا بديل عن العودة الى الحوار وإلى اقفال ملفات التهم والحملات المتبادلة. وذاكرة اللبنانيين القصيرة تعين على ذلك. اكثر قليلاً من سنة يفصلنا عن 7 أيار مع كل الاتهامات التي رافقته والذيول التي خلّفها. كاميرا مطار وشبكة اتصالات وتحذيرات من مخاطر على أمن المقاومة بسبب قرار اتخذه «رئيس الحكومة الحقيقي». مع ذلك يأتي الاجتماع بين السيد حسن نصرالله والزعيم الدرزي وليد جنبلاط ليطوي صفحة كان يمكن ان تذهب بالبلد الى المجهول. لقاء يعقد تحت عنوان الانتقال من التأزم الى التعاون. يصعب القول ان الثقة ستعود وكأن شيئاً لم يكن. لكنه على الاقل اعتراف بالاوزان وبحقيقة الاحجام. الزعامة الشيعية معقودة ل «حزب الله». ونصرالله اكد ذلك في خطابه الاخير عندما اعتبر ان المعركة الانتخابية في المناطق الشيعية كانت شكلية لأن فوز مرشحي الحزب كان مضموناً. يمكن قول الشيء ذاته عن زعامة وليد جنبلاط في الجبل. التعايش ضروري ونسيان الماضي اكثر من ضرورة في بلد الارز. بين «مصالحة» حارة حريك بين نصرالله وجنبلاط ومصالحة الجبل بين جنبلاط وبطريرك الموارنة نصرالله صفير ثماني سنوات. تفاهم ماروني - درزي قيل آنذاك انه يؤسس لولادة لبنان من جديد من قلب الجبل على قاعدة مقاومة النفوذ السوري في ذلك الوقت، واستعادة السيادة والقرار الحر، واشادة بدور البطريركية المارونية في قيام لبنان الكبير. وتفاهم شيعي - درزي اليوم، يقال انه يفتح الطريق من جديد امام عودة جنبلاط الى «قواعده»، ويكرس الهدنة الداخلية بعد الانتخابات، كما يسهل عودة الخطوط بين الزعيم الدرزي والقيادة السورية تمهيداً لزيارة محتملة لجنبلاط الى دمشق. من مفارقات «الصدف» أن تأتي المصالحة الدرزية - الشيعية على اهميتها في الوقت الذي تشهد العلاقة بين امين عام «حزب الله» والبطريرك الماروني تبادلاً للاتهامات العلنية لم يسبق له مثيل. اتهامات تتعلق بالمخاطر على الكيان وبالحفاظ على عروبة لبنان. بكركي ترى ان من واجبها التنبيه الى الخطر عندما تراه، وزعيم «حزب الله» يرى أن الاتهامات تطاول طائفته وتشكك في ولائها الوطني. ومن الصعب قراءة لقاء شيعي - درزي على هذا المستوى وفي هذا الوقت من غير النظر الى انعكاساته على التكتل السياسي الذي لا يزال ينتمي اليه الوزير جنبلاط، و «الجنس العاطل» منه بشكل خاص. لم تكن الطائفة الشيعية في اي يوم محتاجة لتدافع عن نفسها في وجه التشكيك بانتمائها الوطني. زعاماتها السياسية وقياداتها الدينية كانت دائماً الى جانب الزعامات الروحية الاخرى في لبنان صمام الأمان عندما يختل الميزان السياسي. والقيادات الروحية في الطائفة الشيعية كان لها تقليدياً موقع خاص لدى المقيم على كرسي بكركي. من السيد موسى الصدر الى السيد محمد مهدي شمس الدين الى الشيخ عبد الأمير قبلان. طوال الحرب الاهلية ظلت القمم الروحية بين قادة الطوائف هي الجامع شبه الوحيد بين اللبنانيين، واكثرها كان يعقد في مقر البطريركية المارونية. مع سيطرة «حزب الله» على شؤون الطائفة الشيعية اتخذت الأمور منحى مختلفاً من جانب معارضي الارتباطات السياسية والفقهية التي يلتزم بها الحزب والمتصلة مباشرة بسياسة الثورة الايرانية وفقهها. غير ان القرار الشيعي الذي يمسك «حزب الله» بأكثره، ليس له ما يوازيه في الجانب الماروني. فبطريرك الموارنة لم يكن يوماً زعيم طائفة بهذا المعنى، ولا يملك القوة لفرض هذه الزعامة. والموارنة لم يقفوا في اي يوم موقفاً سياسياً اجماعياً خلف زعامتهم الروحية. لهذا فإن الانشقاق الحاصل اليوم بين الموارنة حيال البطريرك ليس فريداً كما يحب البعض ان يصفه. ابرز الأمثلة من الذاكرة وقوف البطريرك بولس المعوشي ضد رئاسة كميل شمعون، رغم الدعم المسيحي له خلال احداث 1958، انطلاقاً من موقف بكركي الثابت في الحفاظ على صيغة العيش المشترك وعلى الثوابت الوطنية التي كانت في أساس قيام لبنان. لهذا استطعنا ان نسمع اصواتاً مارونية توافق نصرالله على اتهاماته للبطريرك الماروني، فيما لم يسمع اي صوت يخالفه من الجانب الآخر.