اليوم، وكنتاج للسنوات التي تلت اتفاق الطائف، تتصدر هيمنة الإسلام السياسي المشهد اللبناني، وتتمركز الشيعية السياسية في الصفوف الأمامية لهذه الهيمنة. هي نسخة جديدة أنتجتها تطورات متلاحقة، أبرزها ما شهدته مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وأهمها المرحلة التي مهّدت لوضع حد لمفاعيل هذا الاجتياح، أواسط عام 2000، الذي شهد انسحاب قوات الغزو من الأرض اللبنانية. موجز القول: نجح مشروع الإسلام السياسي في بنده الأهم: طرد الاحتلال الإسرائيلي، وأخفق مشروع المسيحية السياسية في رهانه الأهم: الاستقواء على الوضع الداخلي بنتائج الاحتلال. ضمن هذه الثنائية، تصدّرت الشيعية السياسية النجاح، وحصدت المارونية السياسية الفشل، وعلى ذلك، ترتبت كل السياسات اللاحقة. لكن الإشارة إلى هذه الخلاصة الصادمة بواقعها ووقائعها، لا تلغي التمييز اللازم، بين كل من عقدي الثمانينات والتسعينات، من القرن الماضي. لقد كان الأول عقد صراع «الخيارات»، وبلْوَرة الأساسي من نتائجها، وكان الثاني عقد حصاد السياسات، التي وسمت المرحلة الممتدة من عام 1975، وحتى عام توقيع اتفاق الطائف. وإلى ذلك نضيف: أن الانشطار العام الذي كان سمة للوضع اللبناني، حتى مطلع التسعينات، بدأ يخلي المكان لتوافقات لبنانية مختلفة، حول سبل استئناف مسيرة السياق اللبناني، في بنود استعادة الدولة والاجتماع والمكانة الدولية للبنان، وفي بند رفع نير الاحتلال الإسرائيلي، كشرط لا بديل منه، للنجاح في هذه الاستعادة. القصد من التمييز هذا هو التنبيه إلى أن الشيعية السياسية، التي نهضت ببند «المهمة الوطنية» الأهم، أتيح لها توافق داخلي إجمالي، لا يقلل من أهمية حصوله، تفاوت أسبابه. هذا للقول، أن النجاح في الميدان الوطني، المشار إليه، ليس فعلاً فئوياً أتاه فريق بعينه، بل هو، وعلى صعيد إجمالي أيضاً، حصيلة التوافق الذي نشأ حوله وواكبه في مختلف محطاته. هل يلغي ذلك المساهمة المتميزة، الأولى والأساسية، «لقوى التحرير»؟ بالتأكيد لا، لكن هل يعطي الفوز حق السعي إلى الهيمنة المفردة، والجد في سبيل توكيدها باستعمال كل الوسائط والأساليب؟ الجواب بالنفي القاطع هو الأصوب، وفقاً لكل المعايير اللبنانية. ينقلنا ما تقدم، إلى بيت القصيد، الذي يتعلق بمسألة الشيعية السياسية، التي تحاول تكرار تجربة سابقة من الهيمنة، على اختلاف في المضامين والمعطيات التي انطوت عليها تلك النسخة الغابرة. من وجوه الاختلاف، أن الهيمنة السابقة قدّمت «فلسفة مختلطة» للبنانيين، يتجاور فيها الحديث والقديم، والملموس والغيبي، والمعقول والخرافي، ما وجد أصداء له في السياسة وفي الاقتصاد، وفي تعريفات «الأمة اللبنانية». هذا يعني أن المصالح وجدت تعريفاتها المختلفة، وقنواتها المتنوعة، ولامست نمطاً من «التعددية»، التي لا يقلل من شأنها النقد الجدي الذي يتناول مقولاتها وتجلياتها. في موازاة ذلك، تطرح الشيعية الحالية، على اللبنانيين هيمنة عمادها بند وحيد: القتال الدائم ضد العدو الإسرائيلي. في وصف ذلك، نقول هذا اختزال للسياق الوطني اللبناني، واستبعاد له في الوقت ذاته. هو اختزال لأنه يلغي كل المهام البديهية الأخرى، لأي اجتماع وطني سليم، وإذا شئنا كلاماً أقل وطأة، لاخترنا عبارة تأجيل المهام بدل إلغائها، وفقاً لرزنامة أهلية أحادية، تحدد سلّم الأولويات. في التأجيل، أو في استنساب تراتبية الضرورات المجتمعية، يكمن معنى الاستبعاد، ويحضر معنى التوكيل والإنابة، في الفكر وفي الممارسة، على غرار ما حصل، وما يحصل، في الأنظمة اللاديموقراطية، التي تعطي لمجتمعاتها إجازات مفتوحة. يؤسس للاختزال العام، انطلاقاً من اختزال البيئة الأهلية الخاصة، هذا ما يطالعنا اليوم، من أحوال الطائفة الشيعية. لقد ألغي التمايز الجاد ضمن هذه الأخيرة، وجرى توزيع تمثيلها على قطبين منها، هما حركة أمل، وحزب الله، على ما بين الطرفين من اختلاف في النشأة، ومن فروقات بيّنة لدى مقاربة المواضيع السياسية. اعتمدت السياسة «الإلغائية» على خلق وضعية أخرى للشيعية السياسية، من عناصرها: تكريس نزعة التفوق المستندة إلى إنجاز التحرير. تغذية الانتشاء بالإنجاز بخطب تعبوية وبتقديمات مادية. وضع المجموعة الأهلية الشيعية كلها، في مواقع الاستهداف لحرمانها من عوامل صعودها. تنمية شعور التضحية، ثم الوصول بأصحابه إلى موقع الضحية. الاقتراب، بناء على كل ذلك، من تأسيس عقلية حصار، والعيش في ظل أحكامها. لقد مكنت هذه الوقائع، من أشرف على إيجادها، من إقفال خطاب الانفتاح على الطائفيات الأخرى، من دون أن يجد حرجاً في مساءلة، وبالاطمئنان «الكامل»، إلى غياب القراءات المختلفة، ضمن بيئته. هندسة البيئة الخاصة، كما سلف، كانت شرطاً لمباشرة هندسة البيئات الأخرى. ضمن مجال الانفتاح هذا، يطرح سؤال: لكن هل قدمت الأطياف الأهلية الأخرى خطباً تواصلية، الجواب بالإيجاب، لكن من ضمن الحدود الأهلية المعروفة، والممكنة، لكل طيف لبناني. هنا لا بأس من القول، إن الانفتاح على الآخر، بكل أبعاده، ليس «بضاعة لبنانية» معروضة، لأنه ببساطة، ليس موجوداً في خزائن الأهل. لكن هذه الخلاصة العامة، لا تنفي وجود سياسات انفتاحية حول مواضيع بعينها، تلامس المصالح المشتركة، ملامسة مباشرة. على سبيل المثال: ما يطرح على ألسنة المسيحية اللبنانية، من مطالب سيادية تتعلق بالدولة وما إليها، يشكل مادة تواصل، مع العلم المسبق، أن هذا الفريق يرى المطالب بمنظاره الأهلي الخاص. كذلك فإن ما يطرح على ألسنة السنّية السياسية، من طلب للعدالة وللحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يصلح أيضاً، كموضوع للنقاش المشترك، مع الإدراك سلفاً حدودَ العدالة وملحقاتها لدى هذا الفريق. ما الأجوبة التي قدمت وما زالت على الطروحات التي ساقها هؤلاء الأفرقاء؟ ليس أقل من النزول على التفسيرات المحددة، التي تقر بها الشيعية الحالية، وتطلب النطق بمفرداتها. ما الوضعية الناجمة عن ذلك التقابل الأهلي، الذي تجد الشيعية الحالية نفسها على رأس هرمه؟ في الجواب نجد الآتي: خطر الانسداد السياسي الذي ينذر بعواقب غير مأمونة، ورهن الوضع الداخلي لعوامل خارجية، كاستمرار لنظرية الاستقواء اللبنانية المعروفة، وفرض مسلك خطر على الطائفة الشيعية عموماً، وأخذ مصالحها الوطنية إلى مجهولات شيعيتها التي تتولى شؤونها في الراهن. ماذا يرتب ذلك، على كل الذين يقاربون المصير الوطني اللبناني من مداخل مغايرة؟ أبسط القول إن أولئك مطالبون برفض الهيمنة العارية، أنّى كان مصدرها، وأياً كان الناطق باسمها، وهم مدعوون إلى مقارعة الخطاب الأحادي، الذي يرفع كل مدنّس إلى مرتبة المقدس، وعلى أولئك تقع مسؤولية كبرى، في مساجلة السياسة الاختزالية، التي تحيل البلد إلى سلاح محض، أو إلى عدالة مطلقة. وقبل هذا وذاك، وبسبب المشهد الراهن، تأتي مسؤولية «المثقفين» ذوي الأصول الشيعية وسواهم عن رفع الصوت، في وجه النسخة القائمة من الشيعية السياسية، دفاعاً عن معنى شيعيتهم، وعن ثقافتهم، وعن استواء أمور الطائفة واستقامتها، كمساهمة أساسية في استقامة أمور المعادلة الوطنية. ليس بالإمكان الآن، وضمن الأوضاع اللبنانية المعلومة، الحديث عن بناء الدولة الديموقراطية والعلمانية، لكن من الممكن، بل المطلوب السجال ضد نزوع الهيمنة المذهبية، التي إذا نجحت أصابت المصير الوطني بأفدح الخسائر. * كاتب لبناني