زاحم السيد محمد حسين فضل الله زعامات الشيعة في لبنان على موقع المرجعية. فالآتي من الحوزة ومن العمل الاجتماعي التربوي، وجد أن تعاظم الحجم في أي مجال من المجالات يفضي إلى التحول «مرجعية» زمنية ودينية. ولئن سلط غياب السيد فضل الله الضوء على تاريخ المراجع الشيعة في لبنان وأدوارهم في تاريخ البلد هذا، إلا أنه أعاد الاهتمام إلى معنى المرجعية في الاجتماع السياسي اللبناني الذي تشكل الطائفة الشيعية عنصراً من عناصره المتعددة. غني عن البيان أن الموقع الذي احتله فضل الله في لحظة تاريخية خاصة من صعود الشيعة وانتقالهم من بؤر الحرمان قبل 1975 إلى أداء الدور الأهم، ربما، في إدارة الشأن اللبناني على خلفية نهضة أو صحوة إسلامية وشيعية، يختلف عن مواقع غيره من المرجعيات الدينية - السياسية اللبنانية. فالإطار الذي أثّر فضل الله فيه يتجاوز الحدود اللبنانية لينتشر مقلدوه ومريدوه في العديد من الدول العربية والإسلامية. ومن جهة ثانية، لم يعمل فضل الله ضمن أي مؤسسة دينية من تلك التي تعترف الدولة اللبنانية بها وتمحضها الحق في رعاية شؤون طوائفها في النواحي الشخصية والتعليمية. ومقابل ابتعاد السيد فضل الله الظاهر عن التعاطي في الشأن اللبناني اليومي متبنياً دعاوى عامة عن الحوار والوحدة الوطنية ونبذ الخلافات الطائفية والمذهبية، واهتمامه، في المقابل بشؤون «الأمة» الاسلامية وموقعها في العالم وعلاقاتها أو صراعاتها مع الغرب وإسرائيل، لم تخفف المرجعيات الدينية الأخرى من انغماسها في التعليق على الأحداث الراهنة وتدبر أمور الطائفة وحماية موقعها في النظام السياسي اللبناني. ذاك أن لفضل الله كثيراً من المنافسين الذين حالوا دون تمدد دوره السياسي. فالمرجعيات الطائفية الشيعية، قوية ونشطة، وتحتل حيزاً واسعاً من الحياة السياسية اللبنانية، مما لا يترك مجالاً واسعاً لمرجعية دينية تعمل من خارج شبكة انتاج السلطة الطائفية وتوزيعها والتي تتشارك الطائفة الشيعية بها مع باقي الطوائف اللبنانية. وتظهر المقارنة أن القوتين السياسيتين الشيعيتين حركة «أمل» و «حزب الله» أوزن بكثير في طائفتيهما من بقية التشكيلات الطائفية - السياسية، والأهم أنهما قادرتان على توحيد شيعة لبنان عبر شعارات ومؤسسات وخطاب مما تفتقر اليه المرجعيات الأخرى. خصائص موقع ودور العلامة الراحل، تختلف هنا عما قام به القادة الدينيون – السياسيون في الأعوام الماضية. السبب الأبرز هو تفتت الطوائف بين «مرجعيات» متصارعة خصوصاً في الجانب المسيحي من المشهد السياسي. فهنا كان الانقسام عميقاً بين الزعامات التي صدعتها الحرب الأهلية ونتائجها وأعوام «عهد الوصاية» السورية الطويلة، فوجدت البطريركية المارونية، الممثلة للطائفة المسيحية الأكبر والمتولية رئاسة الجمهورية وعدداً من المواقع الأهم في الدولة وفي قطاعات الاقتصاد والتربية والإعلام والثقافة، وجدت نفسها مضطرة إلى أداء دور الموجه السياسي للزعماء المسيحيين المتناحرين. ومعلوم أن البطريركية أدت مهمات كبرى في حصول الموارنة على المواقع تلك قبل الاستقلال والدفاع عنها بعد نشوء الجمهورية اللبنانية، وفي التوفيق بين التيارات المسيحية والمارونية المختلفة خصوصاً في سياق الصراع على منصب رئيس الجمهورية، بين الاستقلال ونشوب الحرب الأهلية، ثم أثناء الحرب وبعدها لتقليص آثار التشرذم المسيحي وتبعاته. وأثناء الأزمة التي نشبت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كانت البطريركية المارونية هي من منع إسقاط رئيس الجمهورية (الماروني) عبر الضغط المباشر، لاعتبارها أن خطوة كهذه، وبصرف النظر عن رأيها في شخص الرئيس، تفتح الباب عريضاً أمام استباحة موقع الموارنة في الدولة، على رغم أن دعاة دفع التظاهرات الحاشدة إلى مقر القصر الجمهوري كان من بينهم العديد من المسيحيين. الخطوة هذه التي انصاعت لها قوى «ثورة الأرز» او «انتفاضة الاستقلال»، كانت توأم موقف مشابه عبرت عنه دار الفتوى السنية بعد أعوام ثلاثة بوقوفها إلى جانب رئيس الوزراء (السني) عندما حاصرت حشود المعارضة السراي الحكومي. اتخذ حصار السراي شكلاً مذهبياً شبه صافٍ بسبب الطابع الشيعي لقيادة المعارضة مقابل رئاسة الحكومة السنية التي هبت دار الفتوى لنصرتها واقام مفتيها الصلاة في السراي، في إشارة لا تخطئها عين إلى وقوف المؤسسة الدينية – السياسية وراء ابنها المحاصر من جانب مجموعات طائفية منافسة. تظهر النماذج أعلاه تداخل المرجعية السياسية والدينية في شبكة واحدة هي شبكة الهيمنة الطائفية على الجماعات المختلفة. إذ إن ما من شيء يمنع استغلال سياسيي الجماعات للمؤسسة الدينية التي يتشاركون معها في تمثيل الطائفة المعنية حتى لو حصل ذلك على خلفية انقسام سياسي محض، على غرار المثلين السابقين. في المقابل، لا تتردد الجهات السياسية في رد الخدمات إلى المؤسسة الدينية إذا تقاطعت المصالح. لكن المرجعية، بالنسبة الى اللبنانيين، لا تقتصر على الشأن الطائفي والسياسي الفوقي، بل تنتشر أذرعها وجذورها إلى عمق الحياة اليومية بحيث يصعب تصور سير العملية التعليمية والاقتصادية والإدارية اليومية لأي من مواطني الجمهورية، من دون تدخل «المرجعية» المعنية، سواء من خلال توفير فرص العمل للمنتسبين أو تعديل سير شكوى قضائية أو حتى تأمين الرعاية الصحية لهم. هذا واقع، يتغذى من الحيز المشترك المفترض أن يشكل لحمة اللبنانيين أو دولتهم وسلطتهم التوافقية المشتركة. ونظير الخدمات التي تسديها المرجعيات المختلفة، لا يشعر اللبنانيون أنهم يدفعون غير تمديد ولاءاتهم الموروث أكثرها من عهود قديمة أو منحها لمرجعيات تفرزها التغييرات الاجتماعية السياسية منذ الحرب الأهلية. بهذا المعنى تحتل الطائفتان السنية والشيعية موقعاً رئداً في انتاج المرجعيات الجديدة. ويستند مفهوم «المرجعية» برمته إلى الحيز الوسطي الفاصل بين الفرد والدولة وتعزز المرجعيات أدوارها ووجودها على حساب الجانبين اللذين يؤلفان معادلة السياسة الحديثة، فتؤجل ظهورهما وتعيق تبلور قيمتهما بالنسبة إلى المواطن، وهذا ما زال مفهوماً مجرداً ومعلّقاً في بلادنا.