عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، تصاعدت موجة الحديث عن أهمية مراجعة المناهج الدينية على مستوى الوطن العربي، وتطرقت الآراء بين من يرى أن هذه المطالبات لا تعدو أن تكون مؤامرة غربية تستهدف وعي الأمة وهويتها، وبين من وجد في ذلك التصعيد فرصة لتصفية الحساب مع خصومه الإسلاميين، وما بين «عقدة المؤامرة» و«تصفية الحسابات» غاب صوت الوسط – كالعادة - وتحولت هذه القضية لساحة شائكة، يفضل الكثير تجنب الحديث حولها خشيةً من «مطرقة» اليمين و«سندان» اليسار. ما دفعني للكتابة حول هذه القضية هو أننا المجتمع المسلم الوحيد «في ما أعلم» الذي يُلزم فيه الطلبة بدرس مناهجَ شرعية متنوعة بين الفقه والحديث والتفسير والعقيدة، وعلى مدى 12 عاماً يتلقى الطالب حزمة متنوعة من العلوم الدينية التي تتجاوز الفرض العيني على كل مسلم لتتعمق في كثير من الجزئيات والمسائل التي هي من فروض الكفايات، وهكذا يمكن أن أصف مجتمعنا بأنه مجتمع «الفقهاء» نتيجة للسنوات الطويلة من دراسة العلوم الشرعية التي يتلقاها. في مقابل ذلك، نفاجأ بفجوة كبيرة بين المفاهيم والأفكار المتلقاة، والمُؤمن بها، والممارسة على أرض الواقع، فذهنية المجتمع الملائكي، وعقدة الخصوصية، وظاهرة التناقض بين القناعات والمفاهيم، أصبحت طاغية، لا سيما في ظل قنوات التواصل الاجتماعي التي تعكس حال المجتمعات البشرية وما تعانيه وما تمارسه، ولذا ليس مستغرباً اليوم أن نرى ونتعايش بعشرات الأقنعة والقناعات، فالقناعات التي تُمارس بشكل فردي تختلف عن تلك التي تُمارس داخل دائرة الأسرة... القبيلة... المجتمع، وما يمكن أن يُمارس خارج الحدود لا يمكن أن يُمارس داخلها، هذه الازدواجية في القناعات والممارسات تحتاج إلى دراسة وتقويم، فليس صحياً البتة أن نرى من يستميت في الدفاع عن رأي فقهي، ومع ذلك فهو لا يقتنع به ولا يمارسه، لكنّه يكتفي بالدفاع عنه، لأنه نشأ عليه، أو لأن فلاناً من الناس قال به. ربما كان من الصعب والمتعذر رصد الظواهر الاجتماعية وعلاقتها بالمناهج الدينية قبل عقد من الآن، نتيجة لطبيعة الانغلاق والعزلة التي كانت تعيشهما المجتمعات، لكن ظاهرة العولمة وتطور وسائل الاتصال والإعلام، جعلت من الاحتكاك بالآخر والتعايش معه ظرفاً ممكناً لدرس الصدام الحضاري بين ضغط الواقع وحركته، وبين الهوية التي تبلورت عبر العملية التربوية الدينية. على رغم قناعتي بأهمية التعليم الديني، وإيجابية فرض المناهج الدينية، إلا أنني أرى أن الأزمة تنشأ من تلك الطريقة التي كانت ولا تزال تعرض وتدرّس بها المناهج الدينية، التي تُسهم في رأيي الشخصي في ازدواجية القناعات، وبث مزيد من التناقضات نتيجة للطبيعة والآلية والمحتوى الذي يقدم للطالب أو الطالبة، وسأتناول هذه الإشكاليات الثلاث في هذه المقالة: المحتوى: المناهج الدينية تغرق بشكل لافت في الحديث عن الشعائر والطقوس والأحكام المبنية على رأي مدرسة فقهية واحدة، وتُقدّم للطلبة على أنها الدين بحد ذاته، وفي المقابل تغفل مناهجنا الحديث عن شمولية الشريعة، وتعدد مذاهبها ومدارسها، ولمعالجة ذلك فإن الأولى بمناهجنا الدينية أن تتركز حول الحديث عن الكليات والثوابت الدينية، وكذلك القيم والقناعات المجتمعية، والشخصية، كالصدق والأمانة والتعددية وعدم الازدواجية، التي هي كفيلة بإصلاح الشعائر والطقوس بشكلٍ تلقائي، فحين يتحول الدين، في مفهوم المجتمع، إلى مجرد طقوس وشعائر، عندها تنشأ مشكلات التناقض والأقنعة، فالحديث مثلاً عن قيمة الاحتشام والحياء، وأخلاقيات الإسلام وروحه حول هذه القيمة أولى وأكثر نفعاً من مجرد الحديث عن لباس المرأة وعلاقتها بالرجل، وحين يُبنى المحتوى التعليمي حول الحديث عن القيم والقناعات لغرسها في وعي الأجيال سيكون من السهل كمرحلةٍ لاحقة الحديث عن الأحكام والشعائر المتعلقة بذلك. الطبيعة: تغرق مناهجنا الدينية في الحديث عن الماضي والتاريخ، وتعجز العقلية الفقهية القائمة على صناعة التعليم في تحديث وتطوير طبيعة المناهج الدينية في ما يسهم في ربطها بالواقع ومشكلاته وتحدياته، فالشريعة الإسلامية جاءت للتفاعل مع الواقع والزمان باختلافه، وما أنتجته المدارس الفقهية القديمة من مناهج ومتون ومسائل، كانت ذات علاقة وطيدة بمجتمعاتها ومشكلاتها، واستحضار ذلك اليوم ربما رسخ في ذهنية الجيل أن الدين ظاهرة تاريخية لا صلة له بالحياة اليوم، فاستحضار تلك المناهج والمسائل القديمة بظروفها لواقعنا الجديد هو ما دفع الجيل أن يبقى حائراً بين واقعه، وهويته، لاسيما وهو يرى أنهما ضدان لا يجتمعان. الآلية: تعتمد المناهج الدينية على أسلوب التلقين والحفظ بعيداً من اعتماد العقلية النقدية والمتأملة، وهذا ما يدفع الجيل للتعامل مع التعاليم الدينية بشكل سلبي ومحاولة إسقاطها على الواقع من دون فهم لسياقاتها ومن دون تنقيح لمناط أحكامها، فظاهرة الانفلات من الدين ومهاجمة كل ما هو ديني إنما هو نتيجة لتلك الآلية التي تلقى فيها الجيل تعليمه الديني، فهو يرى الدين كقالب جامد لا يمكن إعمال العقل فيه، ومن ثم فهو عائق عن التطور والتحديث. من تأمل في علوم الدين سيؤمن بأنها لا يمكن أن تناقض العقل البشري السليم، ولا يمكن أن تكون عائقاً عن الفعل الحضاري، بل إنها الفاعل الأكبر الذي يمكن أن يدفع بنا لإصلاح الدين والدنيا على حدٍ سواء، وحين نرى بعض حالات التناقض والانفلات من الدين، فسببها ليس الدين بحد ذاته، ولا الجهل بالدين، ولكنها أحد المخرجات لطبيعة ومحتوى وآلية خطابنا وتعليمنا الديني، فالعجز لا يمكن أن ينسب للشريعة وتعاليمها، ولكنه عائدٌ إلى قصورنا البشري في تقديمها للناس بالصورة التي تدركها عقولهم وتتكامل مع واقعهم. * مستشار قانوني وكاتب سعودي. [email protected] @magedAlgoaid