وجه البابا بنديكتوس السادس عشر رسائل متعددة الاتجاهات الى اللبنانيين ومسيحيي الشرق الأوسط في اليوم الثاني من زيارته لبنان، غداة توقيعه الإرشاد الرسولي الذي دعا الى الحوار بين المسيحيين والمسلمين واليهود والى استئصال التطرف في المنطقة. واكتسب لقاء البابا الحاشد مع الشباب في الصرح البطريركي الماروني، والذي ضم أكثر من 25 ألف شاب وشابة بينهم وفود جاءت من مصر والأردن وسورية وفلسطين والعراق، مغزى معبّراً، بعد لقاء مع رؤساء الطوائف كافة، لا سيما الإسلامية اللبنانية في حضور القيادات السياسية كافة بدعوة من رئيس الجمهورية ميشال سليمان. وخصّ «الشباب السوري» بلفتة قائلاً لهم: «البابا لا ينساكم». وفيما يمكن القول إن المعاني السياسية لزيارة البابا لبنان والتي خاطب من خلالها مسيحيي الشرق الأوسط، كانت حاضرة بوضوح، حقق الرئيس سليمان حضوراً بارزاً بحضوره المفاجئ للقاء البابا مع الشبيبة، بعد أن كان أطلق مواقف بارزة في القصر الرئاسي صباحاً، هذا فضلاً عن أن الرسالة التي سلمها مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني لرأس الكنيسة الكاثوليكية والتي أكد فيها «أننا نصنع مستقبلنا معاً... والتعرض للمسيحيين يتناقض مع قيم الإسلام»، وثمَّن دعوات البابا للحوار والتفاهم، لقيت ارتياحاً شديداً لدى دوائر الفاتيكان. وفيما شهد القصر الرئاسي لقاء جامعاً بين البابا والطبقة السياسية والقادة الروحيين، واصطف كثيرون من المواطنين على الطريق التي سلكها موكبه، اجتمع البابا لدقائق مع كل من الرئيس سليمان وعائلته ثم رئيس المجلس النيابي نبيه بري وزوجته ثم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وعائلته، وتسنّى لكل منهم محادثته حول أوضاع لبنان والمنطقة، وأعقبت ذلك لقاءات سريعة مع رؤساء الطوائف الإسلامية. وألقى الرئيس سليمان كلمة توجه فيها الى البابا، مجدداً تأكيد توافق اللبنانيين على «تجنب التداعيات السلبية لما يحصل حولنا من أحداث وتحييد بلادنا عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية من دون أن ننأى بأنفسنا عن التزام القضايا العربية المحقة وعلى رأسها قضية فلسطين». واعتبر أن «الديموقراطية لا يمكن أن تستقيم ما لم يتحقق إشراك المكونات البشرية المتنوعة للعالم العربي، ومن بينها المكون المسيحي، في الحياة السياسية». وأوضح أن لبنان «يتمنى للشعوب العربية الشقيقة والشعب السوري بالذات ما تريده لنفسها من إصلاح وحرية وديموقراطية بعيداً من أي شكل من أشكال العنف والإكراه». (السفير السوري علي عبدالكريم علي كان حاضراً بين الوفود الديبلوماسية). وقال البابا إن «خصوصية الشرق الأوسط تكمن في التمازج العريق لمكونات مختلفة»، معتبراً أن «المجتمع المتعدد لا يوجد إلا عبر الاحترام المتبادل والرغبة في معرفة الآخر والحوار المتواصل». ورأى أن «الله اختار هذه المنطقة لكي تكون نموذجية لتشهد أمام العالم أنه بإمكان الإنسان أن يعيش عملياً رغبته في السلام والمصالحة». وقال: «إن نوعية أفضل للحياة والتطور الشامل غير ممكنة إلا في مقاسمة الخبرات والمسؤوليات ضمن احترام كل فرد». واعتبر أنه «يقتضي أن نقول لا للثأر، وأن نعترف بأخطائنا ونقبل الأعذار من دون التماسها». ورأى أن «لبنان مدعو الآن وقبل أي وقت مضى الى أن يكون مثالاً». ومساء التقى الباب الشبيبة في باحة البطريركية المارونية، حيث احتشد الآلاف منهم. وشق طريقه إليهم في سيارته، وظهرت على وجهه علامات المفاجأة من ضخامة الحشد. وألقى البطريرك الماروني بشارة الراعي كلمة أكد فيها أن «الشباب العربي يعاين أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وتتزايد مخاوفهم أمام زيادة التعصب الديني الذي لا يقبل حق اختلاف الدين ويلجأ الى العنف وسيلة لتحقيق أهدافه». وشدد على أن «على الشباب اللبناني أن يحفظ مبدأ أساسياً هو العيش المشترك». وتحدث شاب وفتاة عن الصعوبات التي يواجهها شباب الشرق، فتناولا «الفكر الأصولي في جميع الديانات والذي يعيق مسيرة حوار الأديان». ورد البابا بكلمة قال فيها: «أعرف الصعوبات التي تعترضكم بسبب غياب الاستقرار والأمن وصعوبة إيجاد عمل أو الشعور بالوحدة والإقصاء. وحتى البطالة والأخطار يجب ألا تدفعكم لتجرع العسل المر للهجرة. تصرفوا كصنّاع لمستقبل بلدكم. الكنيسة تثق بكم وتعتمد عليكم وتحتاج لحماستكم وإبداعكم». ودعاهم الى «استقبال الآخر من دون تحفظ حتى وإن كان مختلفاً في انتماءاته الثقافية والدينية والوطنية. فإعطاؤه فرصة واحترامه وإظهار دماثة الخلق تجاهه عوامل تجعلنا كل يوم أكثر غنى بالإنسانية». وإذ دعا الى محاربة بذور الانقسام، أكد أن الإرشاد الرسولي «موجه إليكم»، وطالبهم بتطبيق الرسالة التي يتضمنها. واختتم بالتوجه الى الشباب اللبناني قائلاً: «أنتم رجاء بلدكم ومستقبله. أرض الضيافة والتناغم الاجتماعي وأصحاب المقدرة الهائلة والطبيعية على التأقلم. وفي هذا الوقت، لا نستطيع نسيان ملايين الأشخاص المقيمين في الشتات ويحتفظون بأواصر قوية مع بلدهم الأصلي. شباب لبنان، كونوا مضيافين ومنفتحين، أريد أن أحيي الشبيبة المسلمة الحاضرة معنا هذا المساء. أشكركم لحضوركم البالغ الأهمية. فأنتم والشبيبة المسيحيون مستقبل هذا البلد الرائع والشرق الأوسط برمته. اعملوا على بنائه معاً وعندما تصبحون بالغين، واصلوا عيش التفاهم في الوحدة مع المسيحيين. لأن جمال لبنان يكمن في هذا الاتحاد الوثيق». وأضاف: «على الشرق الأوسط بأكمله، عند النظر إليكم أن يدرك أن بإمكان المسلمين والمسيحيين، الإسلام والمسيحية، العيش معاً بلا كراهية ضمن احترام معتقدات كل شخص لبناء معاً مجتمع حر وإنساني». ثم قال: «علمت أيضاً أنه يتواجد بيننا شبيبة قادمون من سورية. أريد أن أقول لكم كم أقدر شجاعتكم. قولوا في بيوتكم، لعائلاتكم ولأصدقائكم، أن البابا لا ينساكم. قولوا من حولكم أن البابا حزين بسبب آلامكم وأتراحكم. لا ينسى سورية في صلواته وهمومه. لا ينسى الشرق أوسطيين الذين يتعذبون. آن الأوان لكي يتحد المسلمون والمسيحيون من أجل إيقاف العنف والحروب».