لم تعد تجدي الأسباب التي تقدمها المعارضة السورية لتبرير فشلها وسوء إدارتها للمعركة ضد نظام الأسد. فالقول بأن سورية عبر أربعين عاماً لم تشهد حياة سياسية طبيعية يتم خلالها فرز طبقة من المعارضين يمتلكون أساليب وأدوات العمل السياسي، كان يصحّ قبل الثورة، أما وقد انتفض عموم السوريين والذين بمعظمهم لم يمارسوا طوال حكم البعث السياسة بوصفها أداة للتعبير عن مصالحهم، فأصبحت هذه المقولة هزيلة جداً وخارج سياق الواقع الذي خلقته الثورة. وإلا كيف نفسّر خروج الناس إلى الشوارع محركين حالة السكون السياسي، فيما المعارضون يستمرون في سكونهم، عبر تكرار مضجر لخلافات تنتمي إلى عالم ما قبل السياسة. بهذا المعنى، الثورة لم تصل بعد إلى المعارضين، هؤلاء ما زالوا في مرحلة الأسد يتبعون التكتيكات ذاتها في مواجهته لكن مع هامش دولي أكبر، وبتحديد أكثر، يمكننا القول إن الثوار على الأرض تجاوزوا نظام الأسد بشكل عملي عبر تحطيم رمزياته ووثنياته وأساليبه ومنطق إدارته للبلد. ثمة الكثير من الظواهر التي أنتجها المتظاهرون في الشارع تتجه لتكون النقيض من عوالم نظام البعث البائس (انتخابات إدارات محلية، وإدارة الخدمات العامة). في المقابل لم ينتج المعارضون المنتشرون في الخارج وكذلك عتاة الداخل أي أدوات جديدة لمواجهة نظام دمشق، لا بل استعان ساسة المعارضة التقليديون بالعدّة القديمة بكل ما تحمل من صدأ. العالم بأسره اكتشف الشعب السوري وتغنى بنضالاته وإبداعاته، لكن هذا العالم لم يكتشف المعارضة، بقيت تلك، مثل النظام الذي تعارضه، معروفة الأداء والممارسة، لا جديد عندها. صحيح أن أسماء جديدة ظهرت في صفوف المعارضة السورية، غالبها من الشريحة الشابة. لكن هؤلاء أيضاً سرعان من تسللت إليهم أمراض الكهول من شخصنة وصراعات داخلية وتنازع على المناصب. واللافت أن الأوروبيين وغيرهم من الدول المنحازة إلى جانب الشعب السوري لا يكفن عن مطالبة مكونات المعارضة السورية بالتوحد. لكن السؤال الأبرز هنا لا يرتبط بإلحاح الوحدة وضرورتها بقدر ما هو متصل بطبيعة الخلافات. على ماذا يختلف المعارضون شخصيات وأحزاباً ولجاناً وتنسيقيات؟ هذا التساؤل يردنا إلى عطب بنيوي في تركيبة المعارضة السورية، فالخلافات بين القوى المناهضة للنظام لا تتخذ منحى سياسياً ولا نجد نزاعات تتعلق بالبرامج أو الرؤى. جميعهم يتحدثون الخطاب ذاته ويطالبون بالمطالب ذاتها ويعتمدون الأساليب ذاتها، حتى التعارض الحاد الذي حصل بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج حول موضوع التدخل الخارجي اكتسب بعداً أيديولوجياً وليس سياسياً، فمعارضو الداخل معظمهم ينتمي إلى مشارب قومية ويسارية وعروبية، الأمر الذي يضع مواقفهم على النقيض من لغة المصالح والضرورات التي تفرضها السياسة. المعارضة التي لا تختلف أحزابها في السياسة ولا تتنافس على أفكار وخطط، مفضلة الصراعات الذاتية والمناصبية والشخصانية، تتعمّد عدم التوحد. فالوحدة بين المكونات المتصارعة هي بالقطع ليست انصهاراً بقدر ما هي إدارة للخلافات السياسية بكل ما تحمل من برامج وخطط وآليات. ولو اختبر ذلك بين أطياف المعارضة السورية لتبين حجم الضحالة السياسية وكمية الإفلاس المعرفي. لذلك فإن الإصرار على عدم التوحد وتقطيع الوقت بإصدار وثائق سياسية عامة يضمر تأجيلاً متعمداً لفضحية كبرى ستتكشف فصولها تباعاً لحظة يعود المعارضون السوريون إلى وطنهم بعد سقوط النظام ويبدأون بممارسة السياسة. لا يبدو أن ملامح المشهد ستتغير في الأجل القريب: ثوار على الأرض ينتمون إلى زمن الثورة ويعارضون النظام ومعارضة في الخارج تنتمي إلى زمن النظام وتعارض بعضها. وفي ظل هذين المعطيين قد يخرج أحدهم ليقول: المعارضة تعيش ظروفاً استثنائية ولا توجد بيئة سياسية حاضنة لتمارس من خلالها العمل السياسي الاحترافي. وهذا الكلام تمكن إضافته إلى جملة التبريرات التي تساق لانتشال المعارضة السورية من مستنقع الأخطاء الذي غرقت فيه، لا سيما أن ظرفاً أشد استثنائية يعيشه الشعب السوري الذي يسقط منه يومياً أكثر من مئة شهيد، إضافة إلى التعذيب والقمع والاعتقال والتهجير... * كاتب سوري