خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن العشرين، 1970-2000، أصيبت بلدان افريقيا جنوب الصحراء بكارثة، فمعظم السكان هددتهم حروب أهلية. وفي العقد الأخير، هجم وباء «الإيدز» (مرض نقص المناعة الدائم) على الأفارقة وقلص على نحو صارم الحظ في الحياة. ولخص تردي الناتج الإجمالي الداخلي اجتماع هذه العوامل وتضافر آثارها المدمرة. فلم يعصَ على المثقفين والمتعلمين الأفارقة الاجماع، في آخر هذه العقود، على ان افريقيا والإخفاق مترادفان متلازمان. وما لا يعلمه الجمهور اليوم ربما هو أن افريقيا تغيرت وانقلبت من حال الى حال. فمنذ أواخر التسعينات مال الإنتاج الإجمالي للفرد الى زيادة مضطردة. ولم يقتصر التحسن على الاقتصاد. ففي الوقت ذاته، عمدت الدول الى تنظيم انتخابات تتنافس فيها أحزاب متفرقة البرامج والقواعد الناخبة هي الاولى من هذا الصنف منذ الستينات. والحرية التي يتمتع بها المواطنون، وتتمتع بها الصحافة والاعلام، لا سابق لها. فالتقدم المضطرد على خلاف التردي المزمن يدعو الى السؤال عما حصل ونجم عنه الطور الجديد. ويجيب كتاب ستيفن رايدليت («افريقيا الخارجة من الركود – كيف تتدبر 17 بلداً امورها؟» سنتر فور غلوبل ديفليبمنت، 2010) عن السؤال مع كتب اخرى ومؤلفين آخرين. ورايدليت كان مستشار وزارة الخارجية الاميركية لشؤون التنمية وعواملها، وطلبت رئيسة ليبيريا إيلين جونسون سيرليف مشورته كذلك. ويرى الخبير الاميركي عوامل خمسة بعثت نمو افريقيا. فموجة الديموقراطية حملت الحكومات على الاقرار بمسؤولياتها أمام المواطنين. وألغت سياسات اقتصادية محسنة بعض الاجراءات الضريبية والادارية التي سمّمت حياة الأسر وحالت دون استثمار الأفارقة أموالهم في أسواقهم المحلية. وأثمر تخفيف عبء الدين ادخار موارد حُولت الى حقلي التربية والصحة. ويسرت التكنولوجيا الجديدة، خصوصاً الهاتف الخليوي الموجود في كل مكان، الاتصال بالأسواق. وأخيراً، بلور جيل يافع من القادة الأفارقة سمي «جيل الفهود» (على قول الغاني جورج أييتاي) أفكاراً ومناهج غير معهودة. ويسند رايدليت برهانه الى عشرات من البيانات التي تتناول مؤشرات وقرائن أساسية مثل مستوى المعيشة والتجارة الخارجية والحرية السياسية والتعليم ونسبة انتشار الهاتف الخليوي. وهذه المؤشرات والقرائن يدرجها في سيرورات التغير وسياقاته الميدانية وملابساته. فتنزانيا استدرجت تسجيل الاولاد في المدارس الابتدائية بواسطة إلغاء الرسوم المدرسية في العام 2000. وأدى تحرير الاسواق الزراعية في موزامبيق الى احتفاظ المزارعين بشطر من محاصيلهم أكبر من ذاك الذي كانوا يحتفظون به حين كانت الدولة تتولى وحدها الشراء والتسويق. وحلقت صادرات فاكهة المانغا في مالي منذ تبني نهج جديد في ادارة الشبكة العملانية. وتسديد علاوات الى الاطباء في رواندا أثمر تحسناً ملحوظاً في أداء الطبابة – على نحو ما أثمر إرسال رسائل قصيرة بواسطة الهاتف الخليوي الى مرضى «الايدز» والسلّ تنبههم الى أوقات العلاج، تحسناً في الشفاء. ومراكمة اجراءات من هذا القبيل قلبت الاقتصادات الافريقية رأساً على عقب. ويصف رايدليت اضطلاع بعض الشخصيات المغامرة بأدوار تركت أثاراً عميقة. ولعل جون غيتانغو، الناشط الشجاع والمناهض للفساد في كينيا، مثال هذه الشخصيات. ومثله باتريك آووآه، المجاز من سوارثمور كولدج بنسيلفينيا، وهو تخلى عن عمل مجز في مايكروسوفت وعاد الى غانا، بلده، وأنشأ هناك جامعة خاصة لا تبغي الربح، وغايتها إعداد جيل من الحكام غير الفاسدين والذين يتمتعون بروح ادارية كتلك التي تفترض في مديري الشركات ورجال الاعمال. ويدعى أصحاب الكفاءات الى الانخراط في أعمال ومحاولات يجزي النجاح فيها المبادرة والمغامرة. والعوامل الخمسة اضطلعت كلها بدور في اخراج بلدان افريقيا من ركودها. ويتساءل رايدليت عن أبرز هذه العوامل وأعمقها وقعاً. وهو لا يشك في ان الديموقراطية هي هذا العامل. فالرابط بين الحرية السياسية والنمو الاقتصادي بأفريقيا لا يتطرق اليه أي شك، وهو جلي مثل الشمس في وضح النهار: فالانظمة الديموقراطية أنجزت ما أخفقت الانظمة المتسلطة في انجازه. ومن 17 بلداً يدرسها رايدليت ثمة 13 بلداً ديموقراطياً منذ تسعينات القرن العشرين كانت وتيرة اصلاحها السياسي أسرع من الإصلاح في بلدان منتجة للنفط ومتآكلة النمو. ولا يشك رايدليت في ان الانفتاح السياسي خلّف آثاراً ايجابية ملموسة. فالانتخابات قوَّت حس المسؤولية العامة، وحسنت، تالياً، الحوكمة. وأدرك السياسيون ان إدارة اقتصادية ناجحة وإجراءات ضريبية مناسبة يمكنها تزكيتهم في الانتخابات المقبلة، فتخلوا تدريجاً عن عادات السرقة التي غلبت عليهم. والانظمة المنفتحة أتاحت فرصاً جديدة ل «الفهود»: فهؤلاء المتعلمون، وهم تلقوا إعدادهم معظم الاحيان في الخارج، لم يلبثوا ان أزاحوا «الخيول الهرمة» أو السياسيين المعمرين المتحدرين من الكفاح في سبيل الاستقلال. والانظمة الجديدة أسرع من الانظمة السابقة الى تبني تكنولوجيا المعلومات الحديثة، والاستفادة من تحسينها خدمة الأسواق والروابط السياسية بين المواطنين. وعلى هذا، سبق الاصلاح الديموقراطي عدد من الانجازات المتفرقة في حقول شتى. لكن تقديم رايدليت الديموقراطية على غيرها من عوامل التقدم والتنمية الاقتصادية لا يغفل إلا إرجاء الجواب عن السبب فيهما. فهو لا يقول لماذا وسع بعض البلدان، شأن غانا، تثبيت ديموقراطيتها في العقد الاخير من القرن العشرين، بينما أخفق بلد آخر مثل شاطئ العاج في إرساء هذا النهج في الحكم. ومن جهة أخرى، لماذا لم ترسخ الديموقراطية في هذا الوقت من دون غيرها بينما سبقت محاولات في ستينات القرن العشرين، في غانا وكينيا وسييراليون، ولم تثمر وانهارت بعد دورة انتخابية أو اثنتين. يذكّر رايدليت بالفرصة التي حضنتها نهاية الحرب الباردة حين رعت منافسة سياسية فعلية في العقد العاشر المنصرم، وكفت القوى الكبرى عن حرف «اللعبة» السياسية بواسطة تدخلها المباشر، على نحو ما صنعت الولاياتالمتحدة إبان اغتيال باتريس لومومبا، أو غير المباشر، بواسطة مبيعات السلاح والضغوط الديبلوماسية. وهذا التعليل ليس وافياً: ألم يستتب الامر للديموقراطية بأميركا اللاتينية في ثمانينات القرن العشرين والحرب الباردة في أوجها؟ قد تكون الإجابة الصائبة هي: التعليم. فزيادة «رأسمال بشري»، على قول الاقتصاديين المتكلف، تحفز مباشرة انتاجية العمل، وتثمر مفاعيل أخرى ايجابية. ولعل هذا هو تعليل دوام بعض الديموقراطيات الافريقية منذ التسعينات المنصرمة. فتوسع التعليم السريع في السبعينات والثمانينات، «الضائعة»، من وجه آخر، أرسى أركان اصلاح سياسي أدى الى تحفيز النمو. والأفارقة المتعلمون كانوا قلة حين الاستقلال، وأما اليوم فمعظم الأفارقة ذهبوا الى المدرسة. وكينيا خير تمثيل على الحال: بلغ من كان في مستطاعهم القراءة والكتابة والحساب 32 في المئة في 1970، وهم اليوم 90 في المئة. وعلى رغم بداهة الرابطة السببية بين التعليم والاصلاح الاجتماعي يقصِّر الباحثون في صوغها صوغاً واضحاً وملموساً. فذهب بعضهم الى ان التربية تحرر الفقراء والمهمّشين وتحفزهم على الانتصار لحقوقهم. ويقول آخرون ان التربية تحمل على النهج الديموقراطي وتضعف العصبية الأقوامية (الاثنية). ويزعم فريق ثالث ان التعليم، على الوجه الذي يشاع، يثبّت في نفوس الأولاد احترام السلطة الحاكمة، ويقوي الانظمة الاستبدادية والمتسلطة. وفي أثناء أبحاثي في كينيا حاولت تقصي هذه المسألة، ودرس العلاقة السببية بين التربية والمواقف السياسية. فتفحصت، مع فريقي، برنامج منح دراسية الى الفتيات في المدارس الكينية في 2001 و2002. واتخذت شكل الدراسة إعمال رائز في عينة غير عشوائية، على مثال «صيدلاني» يتوسل بجماعات اختبارية الى مراقبة نتائج الجماعة الأساسية. ومن الجماعات الاساسية درست من الفتيات الاوائل في 34 مدرسة، وحصّلنَ أفضل العلامات في الاختبارات الموحدة، وحزنَ على منح دراسية وافية، وجوائز نقدية، واعتراف مشهود. وفي الجماعة الاختبارية، أو جماعة المراقبة، درست الفتيات في 35 مدرسة أخرى ولم يفزن بأي من تلك المحفزات. فماذا رأينا؟ لدى الجماعة الأولى كان تغيّب التلميذات والمدرّسات قليلاً، وحصلن على نتائج ممتازة في روائز القراءة والرياضيات. وبعد 5 سنوات على الاختبار الاول، حصلت فتيات الجماعة الاولى- وفي الأثناء بلغن سن العشرين- على النتائج المتقدمة نفسها. وحين أردنا اختيار الآراء السياسية، لم يدل شيء على أن اللواتي حظينَ بالمنح مالت آراؤهن صوب أحكام ديموقراطية أو مدنية، أو انهن أقل تعصباً لهويتهن الأقوامية (أو العرقية). لكنهن بَدَوْنَ أكثر ميلاً الى قراءة الصحف، والى تفضيل صحيفة منها، وأوسع إلماماً بالحياة السياسية وأشد انتقاداً للمسؤولين والحال الاقتصادية. ولم تكن الشابات اكثر إفصاحاً عن آرائهن واقتراعهن، ولا أقوى انخراطاً في الأنشطة الاجتماعية الثقافية. لكنهن كن أكثر ميلاً الى عذر التوسل بالعنف. والعنف يلابس حياة الكينيين منذ ثورة الماوماو على البريطانيين في خمسينات القرن العشرين الى الانتخابات الرئاسية في 2007. وقد يكون عذر العنف ثمرة الهوية العرقية والإلمام بطبيعة الحياة السياسية الوطنية. فالتعليم قد يقود الى مجتمع أكثر ديموقراطية من غير أن يعد مواطنين ديموقراطيين. فهؤلاء يؤهلهم التعليم لانتقاد السلطة، وفي بعض البلدان (مثل كينيا) لمقاومتها بالقوة والعنف. وحيث تتوافر مشاركة سياسية أوسع، ولا تحظى السلطة بالقبول، يقوى النازع الى انخراط المواطنين في عمل مدني يسهم في ديموقراطية فاعلة وحية. * أستاذ الاقتصاد في جامعة بيركلي بكاليفورنيا، كاتب «هل حان دور افريقيا؟»، عن «فورين أفيرز» الاميركية، 11/2011، إعداد منال نحاس