نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ميزان المصير الوطني في السودان»... مشكلة الجنوب نتاج أزمات هوية وتنمية ... وديكتاتورية بلا أفق (1من5)
نشر في الحياة يوم 17 - 12 - 2010

كتاب الصادق المهدي الجديد «ميزان المصير الوطني في السودان» يأتي في فترة حرجة مع اقتراب الاستفتاء في جنوب السودان، ويعرض زعيم حزب الأمة بالمعلومات والتحليل لهوية جنوب السودان وروافد النزاع في الدولة السودانية الحديثة، مقدماً صورة للتراكمين الخبيث والحميد في مقاربة هذا النزاع عبر اتفاقية السلام تحت مظلة مجموعة دول «ايقاد».
ويركز المؤلف على التنظيمات الإسلامية وصعود تياراتها منذ الانتداب المايوي (جعفر نميري) وصولاً الى انقلاب «الانقاذ» الذي أودى بالسودان الى الحال الراهنة عند مفترق الانقسام وربما التفتت كما يرى المتشائمون، ولا يهمل الصادق المهدي الشأن الاقتصادي وترديه كواحد من أسباب الأزمة الراهنة.
وجنوب السودان الذي ينتظر موعد الاستفتاء، له مشاكله الداخلية التي يعرضها المؤلف من خلال أصوات جنوبية ودولية، كما يتناول أزمة دارفور التي يسميها «قاصمة الظهر».
أما الاستفتاء وما بعده فيحظيان بثلاثة فصول من الكتاب الذي هو في المحصلة شهادة انحياز الى الإنسان السوداني، من خلال وعيها بمشكلات وطن ومحيطه الإقليمي والتدخلات الدولية فيه، فضلاً عن إهمال معظم حكوماته المتعاقبة ما يقتضي حكم بلد غني ومتنوع من جهود ووعي.
«الحياة» تنشر فصولاً من كتاب الصادق المهدي في خمس حلقات، وهنا الحلقة الأولى:
 المشكلة التي طفحت على الصعيد السياسي في السودان وسميت مشكلة الجنوب، لا تخرج من أنها تعبير سياسي عن واحد أو أكثر من العوامل الآتية:
1 - التباين الثقافي الموروث بين الشمال القائم تماسكه على الدين الإسلامي - واللغة العربية بدرجة أقل - وبين أقاليم غاب عنها أو ضعف فيها هذان العاملان، زائداً الاختلاف المكتسب بسبب سياسة الجنوب واستحداث الثقافة المسيحية الأنكلوفونية. وهو اختلاف جديد غذته مرارة ومخاوف موروثة من عهد الرق والاسترقاق.
2 - التباين الاقتصادي والاجتماعي الذي أدت إليه التنمية غير المتوازنة والإحساس الذي زاد مع نمو الوعي السياسي لدى بعض أبناء المناطق السودانية بأن مناطقهم مهملة ومتخلفة ومحرومة.
3 - القسمة غير العادلة في السلطة في البلاد، والإحساس الذي تغلب على تفكير ومشاعر أبناء المناطق المهمشة بأن مشاركتهم في حياة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تتناسب مع حجم مناطقهم السكاني والجغرافي.
4 - النزاعات في الأقاليم التي ينتمي إليها السودان جيوسياسياً، بخاصة: القرن الأفريقي، ومنطقة البحيرات، وشرق أفريقيا، وإقليم البحر الأبيض المتوسط.
5 - وجود السودان في خريطة الاستقطابات إبان الحرب الباردة، ثم اكتشاف النفط كسلعة استراتيجية مهمة دولياً مؤخراً (البعد الدولي).
هذه العوامل كامنة بصورة أو بأخرى في كل مظاهر الصراع بين الشمال والجنوب. وهو صراع انفجر بحدة ثلاث مرات في تاريخ السودان الحديث هي:
- التمرد الأول (1955 و1963).
- التمرد الثاني (حرب أنيانيا الثانية 1975).
- التمرد الثالث: حرب الحركة الشعبية لتحرير السودان (1983-2005).
نفصل هنا روافد النزاع الأربعة، على أن نفصل في حلقة لاحقة الرافد الخامس المتعلق بالبعد الدولي.
التنوع الثقافي والفشل في استيعابه
لازم النظام السياسي السوداني الفشل في التعرف والاستيعاب الكافي لحقيقة التعدد الثقافي من ناحية، والتأخر في التعرف الى الهجنة الثقافية على مستوى الثقافات المختلفة وبدرجات مختلفة من ناحية أخرى. والواقع أن الوعي القومي السوداني في نشأته الباكرة في النصف الأول من القرن العشرين قام على هوية عربية إسلامية وثيقة الصلة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما بمركزها الثقافي الأقوى – مصر – وافترض أن كل الهويات الثقافية السودانية الأخرى سيتم هضمها لا محالة وإذابتها في هذه الهوية.
هذه المسألة تسببت فيها عوامل عدة، ويمكن أن نشير الى الآتي:
ولدت القومية السودانية الحديثة مع المهدية، فتوحيد البلاد بحدودها الحالية لم يتم إلا في العقد الأخير للعهد التركي في السودان مما جعل التركيبة أكثر تركيزاً على وانحيازاً الى الجهات التي سيطرت عليها للفترة الأطول. أما المهدية فقد كانت هبة شاملة لجميع أنحاء القطر وشارك فيها جميع أبنائه كذلك والى درجة كبيرة بالتساوي. المهدية كانت علاوة على أنها هبة قوية من الشعب السوداني، وغضبة من أجل الدين والوطن وأبنائه، كانت دعوة لتشكيل القومية الوليدة على أسس لأمة، وكانت كذلك غضبة على الحكم الأجنبي وسعياً حثيثاً لمسح أثر الغزاة من البلاد وتطهيرها منهم. وفي ناحية الهوية ركزت المهدية في المقام الأول على نقض الثقافة الغازية وكافة مفرداتها من زي ولغة وعوايد، كما ركزت على بناء الهوية السودانية على أسس إسلامية، وقد رأينا كيف عملت على نشر الثقافة الإسلامية ونفي ما رأته يناقضها في مفردات الثقافات المحلية. ولم تشغل المهدية نفسها بتحديد الهوية بالاسم، لكنها اعتمدت على الغضبة الدينية والعزة الوطنية - مقابل محاولات الغزاة مسخ الهوية السودانية. وعملت خلال ذلك على شجب التمذهب والقبلية باعتبارها عوامل مفرقة و «مبعدة من الله ورسوله». ولكن الملاحظ في الإدارة المهدية أن الرايات كانت توزع على أساس القبائل اعترافاً بالتنوع الإثني وبدوره وبضرورة مراعاته في الإدارة.
مع قدوم الغزو الثنائي وتنامي أعداد المثقفين الجدد واطلاعهم على أدب حركات التحرر الإسلامية والعربية آنذاك من ناحية، والأدب الإنكليزي وما فيه من آراء حول الهوية والذاتية المستقلة للبلدان من ناحية أخرى، نشأت تيارات مختلفة وسط المثقفين السودانيين لتحديد الهوية.
وبرز الوعي بالتنوع إثر الاستقلال وكان لدى الجماعات صاحبة الثقافات المغايرة لثقافة الوسط المهيمنة، ولحدة تلك المغايرة بين الشمال والجنوب، فقد أثمرت حرباً أهلية ضارية اشتعلت في الجنوب وتجددت طويلاً، وهي تنذر الآن بفصله عن الشمال وتكوين دولته المستقلة.
كذلك قامت لدى جماعات أخرى حركات واعية بالمظالم السياسية والتنموية والثقافية لمناطقها مثل مؤتمر البجا وجبهة نهضة دارفور. لقد سبق الوعي بين السياسيين وعي المثقفين بذلك التنوع، ففي بعض الحركات السياسية - حزب الأمة كمثال - نجد وعياً لقيادته بالتنوع الثقافي في السودان منذ نيسان (أبريل) 1964. هذا بينما كانت مدارس المثقفين الأدبية في الستينات: أباداماك - الغابة والصحراء... تتحدث إما عن التأصيل الثقافي كما في التجربة المروية (أبادماك) وهي تجربة لا تشمل كل السودان أو عن الهجنة في الثقافة السودانية - هكذا بعمومها - ويعتبر بعضها كل السودانيين غير المهجنين موضوعاً لاحقاً للتحول الى إنسان سنار الإنسان الهجين (الغابة والصحراء): أي فشل في الوعي بالتنوع!
الوعي بالهوية العربية الإسلامية
في أوائل القرن العشرين تأثر بعض المثقفين السودانيين بنداءات الجامعة الإسلامية عند الأفغاني ومحمد عبده ونظروا للهوية السودانية باعتبارها إسلامية عربية محضة. ثم بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية خبا بريق هذه المدرسة. وقد عاصرتها وعاشت بعدها مدرسة يقتات روادها على الأدب العربي ودعوات التحرر العربية عند الكواكبي وأمثاله، وظلت تلك الأفكار لدى حامليها من دون محاولات للإثبات النظري.
في عشرينات القرن العشرين اشتهر كتابان: العربية في السودان لعبدالله عبد الرحمن الضرير، والأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه لحمزة الملك طمبل. الأول ساق شواهد من العادات والتقاليد والشعر السوداني ليثبت عروبة السودان، أما الثاني فقد انزعج من نزوع الشعراء السودانيين نحو الأخيلة والمعيارية العربية ورأى ضرورة أن تظهر البيئة السودانية في شعرهم حتى يحس قارئه أنه من السودان. وأصل الخلاف حول عروبة السودان وخصوصيته مجموعتا أولاد أبوروف في مقابل أولاد الموردة الذين انقسموا أنفسهم إلى جماعتين: أولاد الهاشماب (جماعة الفجر لاحقاً) وأولاد الموردة لأسباب وصفها خالد الكد بأنها «عرقية» أي عنصرية (...).
يصنف أحمد عبدالرحيم نصر كفلكلوري أقسام الوعي بالهوية في مقاله «بحثاً عن الهوية» إلى ثلاثة: العروبية (وروادها عبدالله عبدالرحمن الضرير في المتقدمين وعبد المجيد عابدين في المحدثين) والأفروعروبية (سيد حامد حريز) والأفريقانية. يمكن أن يضاف لهذا التيار الأخير فرانسيس دينق الذي يرد الكثير من ثقافة الشمال إلى عناصر أفريقية.
وفي الثمانينات برز مصطلح «السودانوية» ليقرر أن الهوية السودانية لا يمكن وصفها بالعروبة أو الأفريقية أو الأفروعروبية، بل السودانوية باعتبارها خليطاً خاصاً بالسودان (...).
ويمكن القول بكثير من الثقة بأن النظامين السياسي والثقافي السودانيين كانا يعانيان خللاً أساسياً في ما يتعلق بالاعتراف بالتعدد الثقافي واستيعابه، ولم يتم الانتباه لهذا النقص إلا تحت قعقعة السلاح (...).
وكان عدد من الإداريين البريطانيين رأى أن جنوب السودان بعيد جداً من شماله، لذلك من الأفضل أن تطور سياسة لارتباطه بشرق أفريقيا وليس شمال السودان، وأن يكون الجنوب حائلاً دون انتشار الدين الإسلامي. وفي مذكرة قدمت للجنة ملنر طلب أن «يوضع في الاعتبار احتمال فصل جنوب السودان الأسود عن شمال السودان العربي وارتباط الجنوب ببعض بلدان أفريقيا الوسطى». وفي مذكرة أخرى نوقشت قضية اللامركزية مرة أخرى مناقشة استهدفت فصل المناطق الزنجية من المناطق العربية، واقترح إقامة الحدود بين الشمال والجنوب في اتجاه خط ممتد من الشرق إلى الغرب يتبع أنهار البارو والسوباط والنيل الأبيض وبحر الغزال». كما تم إنشاء الفرقة الاستوائية وإخلاء الجنوب من أية فرق شمالية حيث غادرت هذه الفرق منجلا في 7 كانون الأول (ديسمبر) 1917، وأصبحت الفرقة الاستوائية هي الحامية الوحيدة هناك حتى تمرد جنودها في آب (أغسطس) 1955. وفي عام 1921 لم يلزم مديرو المديريات الجنوبية الثلاث بحضور اجتماعات المديرين التي تعقد بالخرطوم وسمح لكل مدير بإقامة علاقات مع المدير الذي جاوره سواء في كينيا أو أوغندا. ثم صدر في عام 1922 قانون الجوازات والهجرة الذي أعطى الحاكم العام الحق في اعتبار أية منطقة مقفلة. واعتمدت سياسة الجنوب على ثلاثة مبادئ أساسية: تطوير الجنوب على أساس العرف والانتماءات القبلية - التخلص من الشماليين بالجنوب وتصفيتهم تدريجاً - واستخدام اللغة الإنكليزية للتفاهم (...).
ونظرت الحكومة البريطانية لأي نوع من التفاعل بين شقي البلاد على أنه سعي لسيطرة الشمال على الجنوب. جاء في خطاب للحاكم العام للمندوب البريطاني السامي في القاهرة عام 1945: «إن السياسة المتفق عليها هي العمل على أساس أن سكان جنوب السودان أفارقة زنوج يختلفون عن سكان الشمال وأن واجبنا الظاهر هو الإسراع بقدر الإمكان في تنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية والثقافية صوب اتجاه أفريقي زنجي وليس وفق الاتجاه العربي السائد بمنطقة الشرق الأوسط، والذي يتفق مع مصالح شمال السودان. ذلك أنه عن ذلك الطريق وحده يمكن إعداد الجنوبيين لمستقبل أفضل، سواء أكان مصيرهم الانضمام إلى شمال السودان أو شرق أفريقيا. وفي حالة الانضمام للشمال سيكون لزاماً على الجنوبيين باعتبارهم أقلية تقدمية التصدي لأي تغول من جانب عرب الشمال. وفي حالة الانضمام لأي من بلدان أفريقيا فإنه يتعين عليهم بذل جهود كبيرة للحاق بالأقطار المتقدمة في شرق أفريقيا». لذلك حتى حينما غيرت الحكومة سياستها من تشجيع الفصل إلى تحبيذ الوحدة بين شقي البلاد، عقب مؤتمر جوبا في 12 و13 حزيران (يونيو) 1947، تم التأكيد على وجود «مخاوف كثيرة لدى الأعضاء الجنوبيين من نوايا الشماليين والعزم على مقاومة أية سيطرة من جانبهم» (...).br /
وبهذه السياسات المقصودة فإن التباين الثقافي بين الشمال والجنوب صار جزءاً من ذهنية الصراع، والشكوك المتبادلة، وانعدام الثقة بين شقي الوطن، وباباً للتدخل الأجنبي.
المظالم التنموية
التحدي التنموي لم يواجه الى الآن بالتصميم والتعبئة اللذين يستحقهما لرفع البلاد من الفقر والبؤس. (...).
قبل مجيء النظم الشمولية السودانية كان الاقتصاد مجدياً بحيث أنه كان ينتج ما يكفي غذاء أهله ويحقق فائضاً يكفي لتمويل تنمية لدرجة معقولة. وكانت قيمة الصادرات تكفي لتمويل الواردات الضرورية وتحقق فائضاً في ميزان المدفوعات، وكانت قيمة العملة الوطنية تساوي 3.3 دولار، وكانت السياسات المتبعة تتسم بالعقلانية وتلتزم بالاعتبارات العملية. صحيح أن الأنظمة الديموقراطية يمكن أن تلام لأنها أغفلت بعض الأمور مثل إعادة هيكلة الاقتصاد بعد خروج المستعمر، وغذت المظالم الفئوية والإقليمية. ولكن في المقابل ارتكبت السياسات الاقتصادية للأنظمة الشمولية خطايا، إذ فرضت تلك الأنظمة حلولاً عسكرية للمشاكل القومية. وتعين عليها إنشاء عدد من الأجهزة الأمنية لمواجهة جبهة الحرب المدنية الداخلية مع مواطنيها. فتضاعفت النفقات العسكرية والأمنية. وإذا قرنا هذا الهدر المالي مع تدني الإنتاج المريع في النظامين الشموليين (المايوي والإنقاذي) لبطل عجبنا من العجز المالي الداخلي والخارجي المتواصل والفوضى المالية التي قادت الى النمو السرطاني للدين الحكومي والكتلة النقدية. لقد انعكست الفوضى المالية والنقدية على قيمة العملة الوطنية والتي كفى بها نحولاً أن أصبحت تساوي أقل من أربعة أجزاء من مئة جزء من السنت والذي هو جزء من مئة جزء من الدولار.
ولقد أثقل النظام المايوي ظهر البلاد بالدين الخارجي الذي أصبح نصباً تذكارياً يشهد له بالحماقة والتبعية الأجنبية. ولقد تسبب التعامل العقائدي في تعبيريه اليساري واليميني مع الاقتصاد في أذى بالغ يتحمل النظامان الشموليان مسؤوليته الكاملة (...).
لقد انحدر نظام «الإنقاذ» بالإنتاج الزراعي والصناعي في شكل مريع ومثبت في كتابي «على طريق الهجرة الثانية» الصادر عام 1998، حيث قارنت بين الأداء الاقتصادي لحكومة الديموقراطية الثالثة ولنظام الإنقاذ في سنواته الأربع الأولى وأثبت التفوق في الأداء الديموقراطي والسياسات الخرقاء التي اتبعها النظام ليهبط بالإنتاج الزراعي والصناعي في البلاد، فأضر بزراعة القطن وحطم صناعة النسيج وكذا في سائر الملفات الإنتاجية الحقيقية والتي يستفيد منها الريف السوداني. كما أن سياسات التحرير والخصخصة التي اتخذت كان فيها بعض المنطق لكنها نفذت بطريقة شائهة بحيث رفعت الدولة يدها عن كل الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة وعن دعم التموين الذي كان سائداً من قبل، في شكل لا ينفذ حتى في أكثر الدول رأسمالية ومن دون مراعاة للفقر الذي يعيشه أكثر من 95 في المئة من السكان بحسب التقديرات العالمية، كما أن الخصخصة جرت بحيث بيعت المؤسسات المخصخصة للمحاسيب بأثمان بخسة. كل هذا فاقم من تركيز الثروة في أيدي قلة وإفقار البقية، والمتضرر الأكبر كان المناطق الأقل نمواً، وقد زاد من هذا الفساد الذي استشرى وجعل السودان في ذيل الدول العربية بحسب تقديرات منظمة الشفافية العالمية من حيث الشفافية، وفي قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم. (...).
وحتى بعد أن استطاع النظام أن يستخرج النفط الذي بدأ تصديره في أواخر آب 1998 مما زاد من إجمالي الدخل القومي فإن زيادة الدخل لم تنعكس على رفاهية المواطن بل مولت خزائن المسؤولين واستخدمت لشراء الموالين داخل الطيف السياسي السوداني مما قلل أهميتها في دعم التنمية وجسر الفجوات التنموية للمناطق المهمشة، وتركت حتى مناطق إنتاج النفط نفسها من دون تنمية فحرمت من عائد أراضيها، بل كثيراً ما تسببت في حرمان إنسان المنطقة وتهجيره القسري بل ومعاناته البيئية (...).
وكانت الحكومة الديموقراطية السودانية قامت على أيدي الأحزاب السودانية يقودها الخريجون، وكان الخريجون في الغالب من مناطق الشريط النيلي الشمالي. وقد تفجرت مشكلة المشاركة في السلطة السياسية وفي الخدمة المدنية أول ما تفجرت إبان الاستقلال أثناء عملية السودنة، حيث نال الجنوبيون نصيباً متدنياً استناداً الى حجة «الكفاءة»، ولاحقاً ازدادت التظلمات من الجهات المختلفة في الشرق (مؤتمر البجا) وفي دارفور (جبهة نهضة دارفور) وفي جبال النوبة (الحزب القومي السوداني).
ومثلما أثبتنا في كتابنا (الديموقراطية في السودان عائدة وراجحة) بأن الأداء الديموقراطي عامة كان متطوراً للأفضل في كل مرة من الديموقراطية الأولى وحتى الثالثة، وأن الأداء الأوتوقراطي كان متدهوراً إلى الأسوأ في كل مرة من الأوتوقراطية الأولى للأوتوقراطية الثانية للأوتوقراطية المتوحشة الثالثة، فيمكننا أن نثبت في ملف اقتسام السلطة أن وضع الجنوبيين كان الأسوأ عشية الاستقلال ولكن مع مر الزمن كان الوعي بقضيتهم، خصوصاً مع تفجر الحرب، يزداد. هذا الوعي وجد طريقه للبلورة واتخاذ الخطوات نحو الحل في الحكومات الديموقراطية أكثر من الأوتوقراطية (...).
قامت الديكتاتورية الأولى من دون أي لون سياسي أو جهوي معين وبالنسبة للجنوب لم يكن له تمثيل في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وخلال هذا العهد تفجرت الحرب الأولى في تمرد الأنيانيا-1، ولكن العسكريين لم يكونوا يقدرون أي سبب موضوعي للتذمر ويعتبرون الأمر برمته مؤامرة كنسية تحل بطرد المبشرين ونشر الإسلام في الجنوب.
والانقلاب الثاني كان صارخاً في توجهه اليساري ومقصياً للطيف السياسي الآخر، واستند على تحضيرات الديموقراطية الثانية لحل مسألة الجنوب - ومنها قضية السلطة - وعقد اتفاقية أديس أبابا للسلام في 1972، لكن طبيعته الشمولية لم تسمح بالمشاركة الحقيقية في الحكم فأطاح بوعوده وجعل مشاركة الجنوبيين في السلطة اسمية.
أما الانقلاب الأخير فقد شابه الثاني (بتوجهه الأحادي) وإقصائه الآخرين على أسس أيديولوجية وزاد عليه وجود أسس دينية وعنصرية للإقصاء ثم انقسامه مرات عدة على أسس جهوية وقبلية، فبعد المفاصلة عام 2000 خرج على الحزب الحاكم معظم عضويته من دارفور وزادت هيمنة الوسط عليه. لاحقاً ظهرت استقطابات داخل قيادات النظام على أسس قبلية (شايقية/ جعليين). وكان من الواضح أن نظام الإنقاذ هو أشرس نظام مرّ على السودان من ناحية إقصاء المناطق المهمشة من السلطة وجعل أبناء تلك المناطق الذين يرضون بالالتحاق بالحكم مجرد أذيال. يشهد على هذا شاهدان الأول الكتاب الأسود الذي خرج الجزء الأول منه عام 2000 موثقاً لهذه المظالم البالغة للمناطق المهمشة في قسمة السلطة، والثاني ورقة منظّر النظام الاقتصادي الدكتور عبدالرحيم حمدي التي قدمت أمام مؤتمر القطاع الاقتصادي لحزب المؤتمر الوطني في بداية الثلث الثاني من أيلول (سبتمبر) 2005 والتي دعت للاهتمام بما سماه محور دنقلا - سنار – كردفان، فتلك الورقة تستند الى فرضية انفصال الجنوب وأيضاً الشرق ودارفور، وضرورة صرف النظر عن التنمية في تلك المناطق التي ستغدق عليها الأموال الأجنبية والحرص على تمويل التنمية في المحور المثلثي المذكور، هذا يعني أن الحكومة الحالية وعلى رغم ما وقعت عليه من اتفاقيات تنحو – على الأقل في ذهن بعض منظريها - لتأكيد الفوارق في قسمة الثروة والسلطة أكثر فأكثر (...).
البعد الإقليمي في حرب الجنوب
أبرمت اتفاقية السلام الأخيرة تحت رعاية دول الإيقاد، خصوصاً كينيا، ودول شركاء الإيقاد، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية. وكان تبني دول الإيقاد لمفاوضات السلام في السودان في البداية بطلب من حكومة السودان، لكنه استمر بدافع ذاتي من تلك الدول لحل القضية على أسس مرضية لتطلعات النخبة في جنوب السودان، ثم توقف حتى حركه الرافع الأميركي. وفي النهاية فإن التوسط والتحكيم في اتفاقيات السلام كانا بسند إقليمي مستحق للدور الإقليمي الكبير- بخاصة أقاليم القرن الأفريقي والبحيرات العظمى- في حرب الجنوب (...).
وكان السودان انضم منذ استقلاله للأمم المتحدة وهيئاتها المتخصصة، وللعديد من منظماتها الإقليمية. ولم يشكل الانضمام لأغلب تلك المنظمات مشكلة. لكن بعض المنظمات والاتجاهات أثارت خلافاً: الجامعة العربية ومؤتمر الدول الإسلامية منظمتان فضفاضتان تضمان دولاً أكثر درجة في التنوع الثقافي والعرقي والديني من السودان. السودانيون الشماليون غالباً ما يعتبرون أن عضوية هاتين المنظمتين أمر مسلم به، أما الجنوبيون فغالباً ما يتساءلون حولهما مما يجعل قبولهم الاستمرار فيهما ليس مؤكداً.
ووجدت أيضاً مشكلة الأفريقانية Africanity والزنجوية Negritude. وبرزت في مؤتمر «ثقافة السلام في السودان» المنعقد في برشلونة في منتصف التسعينات الإحصاءات الآتية عن السودان: 40 في المئة مستعربون - 35 في المئة زنوج - 25 في المئة عرب. ومهما كانت الأرقام الحقيقية، لا يوجد خلاف على أن المسلمين يمثلون غالبية السودانيين، وأن العربية إما هي اللغة الأم أو لغة التخاطب مع الجماعات الأخرى. ومهما تكن حقيقة الأمر، فالواجب هو: استيعاب حقيقة واقع التنوع، والتأكيد على منع التثاقف القسري، وعلى أن الهوية الثقافية لن تعطي أحداً أية أفضلية دستورية أو قانونية على الآخرين.
أفريقيا غنية بتراث متنوع. هنالك الثقافات الأفريقية المولد. والتراث الغربي الوافد إلى أفريقيا بمحتواه المسيحي. والتراث الإسلامي العربي الوافد إلى القارة. وفي أفريقيا تنوع اثني حامي، وسامي، وزنجي (بانتو) ونيلي. وفيها تنوع ديني مسيحي، وإسلامي، ويهودي، والديانات الأفريقية المولد.
هذا الطيف العريض قابل في ظل التسامح، وقبول الآخر، أن يتعايش وأن يكون قوة لأفريقيا مثلما صار التنوع قوة للولايات المتحدة. وأن يجعل الأفريقانية انتماء عريضاً. ويمكن أن ينكفئ تعريف الأفريقانية فيصبح نقمة، لأن النقاء الإثني معدوم، والسعي إليه يولد رد فعل مضاد يعزز التناقضات في القارة بمدد من التعصب والتنافر لا ينقطع (...).
ويمكن للسودان أن يكون مثالاً يحتذى به من هذه الناحية، فإما أنه أعطى صوتاً قوياً للتعايش أو يعضّد العقلية الاستئصالية.
وهناك تأثيرات خارجية عملت على تشجيع الانفصال في الخطاب الجنوبي وساهمت بصورة أو أخرى في الحرب: لقد ضمن مؤتمر برشلونة (1995) لمستقبل مشترك لدول حوض البحر الأبيض المتوسط، ضمّن في تعريفه للإقليم المتوسطي شمال السودان مقصياً جنوبه. من ناحية أخرى، عرض الرئيس موسفيني في مخاطبته لمؤتمر حركة التحرير الوطني اليوغندية NLM في 1998 رؤية لهوية بانتونيلية تمتد من جنوب السودان شمالاً إلى جنوب أفريقيا جنوباً. وقسم موسفيني الصفة الأفريقية إلى أربعة أقسام:
- الأفريقي الحقيقي بالدرجة الأولى هم السود سكان جنوب الصحراء.
- الأفريقي بالدرجة الثانية هم السود الذين هجروا الى أميركا والمنطقة الكاريبية.
- الأفريقي بالدرجة الثالثة هم سكان أفريقيا شمال الصحراء.
- والأفريقي بالدرجة الرابعة هم البيضان من أصل أوروبي سكان أفريقيا.
هذه الرؤى تغذت بمفهوم «صدام الحضارات» ورفدت بدورها النزعات الانفصالية في السودان.
وحدة السودان المنشودة لو تحققت فإنها يمكن أن تمثل حبلاً رابطاً بين المستقبل المتوسطي المشترك، والوجود الأفريقي جنوب الصحراء، والعكس أيضاً صحيح. إن ما يجري في السودان يؤثر على رقعة أبعد من حدوده بكثير (...).
وبالنسبة الى حرب الجنوب، فقد كانت دول في القرن الأفريقي، بخاصة أثيوبيا وكينيا طرفاً مباشراً في هذه الحرب منذ تفجرها في حرب أنيانيا الأولى إبان الحكم العسكري الأول، فقد فر عدد كبير من اللاجئين الجنوبيين إلى دول الجوار وأداروا التمرد منها، كما حصلوا على المساعدات من تلك الدول، بخاصة مع تصعيد حكم إبراهيم عبود للقضية في شكل مواجهة بين المبشرين وبين الإسلام، وما قام به من إجراءات حرضت الكنائس والحكومات التي على رأسها مسيحيون في دول الجوار على الوقوف بجانب حاملي السلاح الجنوبيين. وقد ورثت حكومات الديموقراطية الثانية (1965-1969) هذا الوضع وحاولت التحرك إقليمياً. (...). لشرح جهود الحكومة في حل مشكلة الجنوب. (...).
وتظهر آثار نظام نزاع الشرق الأوسط مباشرة في ما روي من تدخلات إسرائيلية لدعم حملة السلاح في الجنوب، وفي شكل غير مباشر في قضية مياه النيل والنزاع حولها في الإقليم. وغني عن القول إن شمال السودان ظل يؤكد انتماءاته العربية، ووقوفه بصلابة إلى جانب الحق الفلسطيني. وكان لذلك بالضرورة أثرٌ على سياسة إسرائيل الخارجية في المنطقة 


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.