صدر العدد السادس والثلاثون من مجلة التفاهُم العُمانية متضمناً ملفاً بعنوان: التعارف والاعتراف والمصالحة: «لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا». تحدث رئيس التحرير عبدالرحمن السالمي عن مفاهيم التعارف والاعتراف والتصالُح بين المصطلح القرآني والمصطلحات والمفاهيم الحديثة. ورأى إمكان الانفتاح بين العالمين في سياقاتٍ وشروطٍ محدَّدة. ثم بدأت مقالات المحور فكتب المفكر التونسي المعروف أحميدة النيفر عن منزلة التعارُف والاعتراف في منظومة القيم القرآنية. بدأ الباحث بقوله تعالى: «ولا يزالون مختلفين» واختلاف المفسّرين بشأنها عبر العصور منذ القرن الثاني الهجري. ثم عرض ثلاث قراءاتٍ تفسيرية لمسألة التعارف واقتضائها الاعتراف رغم الاختلاف أو بسببه، والقراءات هي: تفسير الطبري من القدماء، وتفسيري محمد عبده والطاهر بن عاشور من المحدثين. ولفتت انتباه الباحث محاولة أبو القاسم الحاج حمد المفكر السوداني الراحل في علائق الاختلاف بالحوار والتعارف والاعتراف. ومن هناك يدخل الأستاذ النيفر في رؤية العالم في القرآن، ويفضي به البحث إلى تحديد قواعد الاختلاف والاعتراف بحسب القرآن من لا إكراه في الدين، وإلى المسؤولية من خلال: ولقد كرَّمنا بني آدم، وتأتي بعدهما قيمة الإحسان المرتبطة بقيمة الرحمة الإلهية، للوصول إلى قيمة التكافؤ الإنساني بين الذات والآخر المختلف. وهذا يعني أنّ الإنسان يقع في قلب المنظومة القرآنية. أما المقالة الثانية في محور المجلة فهي للباحث التونسي أيضاً عز الدين عناية بعنوان: الإسلام والديانات الإبراهيمية بين التعارف القرآني والتجربة التاريخية. وبيان ذلك أنّ الاعتراف القرآني قائمٌ على «الكلمة السواء»، ومن طريقها بتحقيق التعارُف والاعتراف. وفي التجربة التاريخية للعلائق ما حصل ذلك، وحدثت حروبٌ ومزالق. لكنّ مقولة الكلمة السواء ما تزال قائمةً ومفتوحةً، وإذا لم يكن تجاوُزُ التاريخ ممكناً فلا أقلّ من الإفادة من تجاربه ودروسه. ودرس فضل الله محمد إسماعيل «منظومة حقوق الإنسان» بين الحق الطبيعي والتكليف الديني، كما فهمهما المفكرون المسلمون المعاصرون. والأستاذ إسماعيل هو أستاذ فلسفة السياسة بجامعة دمنهور. وقد اعتبر أنّ التأصيل على الفطرة يقترب بين مقولة الحق الطبيعي، لكنّ إسلاميي الصحوة الذين انتقدوا التغريب والمقولات الثقافية الغربية آثروا أيديولوجيا التكليف على مقولة الحق، بينما الواقع أنّ مسألة الحق تتلاقى أكثر مع مقولة الضروريات الخمس لدى الفقهاء في الأزمنة الوسيطة. ويلاحظ الباحث أنّ الفقيه المسلم يقسم الحقوق إلى ثلاثة أقسام وهي: حقوق الله، وحقوق العباد، والحقوق المشتركة بين الله والعباد. وميزة مقالة فضل الله أنها تركّز على فكرة القانون الطبيعي وتطوراتها في الغرب الوسيط والحديث. ثم تعود لتدرس منظومة الحقوق لدى الفقهاء المسلمين القدامى والمحدثين. أما الباحث التونسي محسن الخوني فيكتب دراسةً في التفاهم والحوار والاعتراف بين فلسفتي هابرماس وهونيت. وهابرماس مفكرٌ ألمانيٌّ مشهورٌ وهو صاحب نظرية الخطاب التداولي أو الحوار. أمّا هونيت فهو تلميذه وهو ينقد أستاذه لأنه يكتفي بالتاكيد على الحوار الذي يمكن أن يدور في حلقةٍ مفرغةٍ، ولذلك يضيف إليه قاعدةً أُخرى هي الاعتراف بحيث يكون ذلك من أُسُس الحوار الهادف. وقد راجت مقولة هونيت في العقدين الماضيين. ومن منطلقٍ فقهيٍّ بحث الفقيه اللبناني محمود هرموش «أسباب وآداب الاختلاف والتفاهم في الفقه الإسلامي». وهو يذكر أنّ الاختلاف بدأ الحديث عن قواعده وشروطه على أثر وفاة النبي صلواتُ الله وسلامهُ عليه. وهو جائزٌ بل مستحبٌّ في الفروع لأنه يصبح من مقتضيات الاجتهاد. ويضاف لذلك آدابٌ مثل الإنصاف والانتصاف والنزاهة والموضوعية وتقصُّد الوصول إلى الحق وليس الجدال المحض. وقدمت الباحثة اللبنانية المعروفة سعاد الحكيم دراسةً في «قيم المعرفة والسعادة بين ابن طُفيل وابن باجه». وابن طُفيل هو صاحب حكاية حي بن يقظان الذي يصل إلى الحقيقة والسعادة على جزيرةٍ نائية، أمّا ابن باجة فهو صاحب كتاب «تدبير المتوحد». وكلا الباحثين يعتبر المعرفة سبيلاً للسعادة؛ لكنْ كيف تحصُلُ المعرفة؟ هناك ثلاثة أنواعٍ منها: المعرفة الفطرية والمعرفة بالتعلم والتجربة والمعرفة اللدنّيّة. وبين هذه المفاهيم والسياقات تقدم الدكتوره الحكيم بحثاً رائعاً في أواليات المعرفة والسعادة لدى الفلاسفة والصوفية. أما رضوان السيد فقد قدّم دراسةً بعنوان: النُخب الدينية وأدوارها المستجدة في التفاهم والاعتراف. وما تزال لدى النُخَب الدينية في المؤسسات ودُور التعليم أربع مهام: قيادة العبادات، والفتوى، والتعليم، والإرشاد العام. وقد كانت للمؤسسات الدينية القائمة تجارب سلبيةٌ مع السلطات ومع الحزبيات الإسلامية في القرن العشرين. ووسط الظروف والسياقات الجديدة لا بد من تجديد المضامين والأساليب لكي تعود للدعوة قيمتها الباقية، ويظلّ الدين عاصماً للمجتمع من الانقسام من طريق المؤسسة الجامعة غير الحزبية وغير التابعة. ويعتمد عبدالسلام الطويل في دراسته عن «الدين والدولة في سياق التفاهُم والاعتراف» التجربتين الغربية والإسلامية في آفاق التفاهم وليس التجاذب أو محاولات الإلغاء. وهو يقرأ الحلَّ العلماني بإيجاز ثم يتبسط في إيضاح المأزق في العالم الإسلامي مستشهداً بآراء برتران بادي صاحب كتاب: الدولتان في الغرب والإسلام، وكتاب برهان غليون: الدولة والدين. وبعد انقضاء بحوث المحور تعرض المجلة في باب الدراسات بحثين لكلٍ من علي العَلَوي ومحمد المنتار. وهما بحثان فقهيان وفي الاجتهاد. فبحث العلوي عنوانه: ترجيح ابن الرامي البنّاء في كتابه: الإعلان بأحكام البنيان- وبحث محمد المنتار عنوانه: مقاصد الشريعة وتدبير الاختلاف. وكتاب ابن البنّاء هو في بحوث العُمران وتنظيم المدينة الإسلامية في الأزمنة الوسيطة. بينما يهتم المنتار بمآلات علوم المقاصد في الأزمنة الحديثة. وفي باب «وجهات نظر» هناك ثلاثة بحوث في القيم: التعليم وتأسيس منظومة القيم لأحمد زايد، والقيم والمتغيرات الاستراتيجية لعبد الإله بلقزيز، والقيم والمشكلات الأخلاقية المعاصرة لصادق جواد اللواتي. ويشرح أحمد زايد الفرق بين القيم والأخلاق، والعلائق بالتعليم في زمن العولمة. أما بلقزيز فيدرس تطورات مسألة القيم في النظام الدولي من ميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإلى القانون الدولي الإنساني. في حين يستظهر اللواتي وجود مشكلاتٍ كبرى ذات طبيعة أخلاقية في العلائق بين الغرب والإسلام. وفي باب «آفاق» تقدم أستاذة الفلسفة بمصر أمل مبروك عبد الحليم بحثاً بعنوان: فلسفة الصورة. فتستعرض تأويلات الصورة من أرسطو وإلى الفلسفات الحديثة والمعاصرة، وتورد في هذه السياقات نظراتٍ نفّاذةً تستحق الاعتبار. فالإدراك الحسي هو تمثُّل لأشياء حاضرة حضوراً فعلياً، أمّا الخيال فإنه تمثُّلٌ لتلك الأشياء في غيابها! أمّا مؤرّخ العصور الوسطى حاتم الطحاوي فيدرس في مقالةٍ بعنوان: «أوروبا والمسلمون: صورة الآخر في رؤية أسيرين مسيحيين لدى المسلمين من القرن الخامس عشر الميلادي». والبارز في عروض هذه المقالة أو الدراسة أنّ المهمَّ أحياناً ليس المعرفة بل الوعي الذي يمكن أن يستقر على مقولاتٍ مسبقة. وفي باب «مدن وثقافات» تعرض الباحثة مديحة الجلاصي لمحةً عن المساجد الأثرية في محافظة مسقط بسلطنة عُمان. وهي تعتمد في ذلك على كتاب باولو كوستا، وبعض الاستطلاعات العُمانية. لكنها لا تعرف الكتاب الحديث الصدور عن التاريخ الفني والعُمراني بعُمان للدكتور عبدالرحمن السالمي وبعض الباحثين الألمان. وفي باب «مراجعات» يكتب محمد سعيد الحجري عن مؤتمر الفكر الإباضي الثالث بجامعة نابولي بإيطاليا، والذي أُقيم بين 28 و30 أيار (مايو) 2012 على مدى ثلاثة أيام. وقد اعتنى الباحثون في المؤتمر على وجه الخصوص بعلم الكلام الإباضي. وقدموا ستاً وعشرين ورقةً، كان من أبرزها ورقة الأستاذ ألفريد ماديلونغ بعنوان: «الإباضية والمعتزلة في الإسلام المبكر». والمعروف أنّ للأستاذ مادلونغ دراسات ممتدة عن المتكلم الإباضي من القرن الثالث عبدالله بن يزيد، كما له دراساتٌ في نصوص كتب السير العُمانية، وتأثيراتها في العقائد. أما الأستاذ جوزف فان أس فقد ألقى محاضرةً بعنوان: «الهوية الإباضية والسياسة الإمبراطورية في العصر العباسي الأول». ويرى فان أس أنّ ظهور الدولة في عالم الإباضية أثّر كثيراً في علم الكلام وفي الاجتهاد الفقهي وفي بقاء فرقة الإباضية إلى اليوم. وكتب الأستاذ جون ولكنسون عن «فكر الاعتدال والتطرف في المرحلة الإباضية المبكرة». وهو يرى أنّ قيام الدولة انعكس اعتدالاً في الطروحات. بينما ألقى رضوان السيد دراسةً بعنوان: «الإباضية من الحركة إلى الدولة، المنظور المقارن». وقد قرأتُ الثبات والاستقرار عند الإباضية بين المشرق والمغرب من خلال: الحركة السرية، فالاتجاه الكلامي، فالمذهب الفقهي، فالنظام السياسي. وبعد هذه المحاضرات الرئيسية الأربع تحدث عشرون باحثاً في موضوعاتٍ مختلفة من البصرة وإلى عُمان وإلى المغرب، وتناولوا جميعاً قضايا عَقَدية في التأسيس والتطور. وعلى سبيل المثال فإنّ الدكتور عبدالرحمن السالمي تحدث عن خَلْق القرآن عند الإباضية، وتحدث صالح البوسعيدي عن مفهوم السنة لدى الإباضية، وتحدث الياباني كوندو عن الولاء والبراء والوقوف، وتحدثت ماريا أموريتي عن الجهاد. وآثر آخرون الحديث عن نصوصٍ مثل كتاب ابن سلاّم وعقيدة تبغورين وسيرة خالد بن قحطان. وتناول فريقٌ رابعٌ شخصيات إباضية حديثة مثل نور الدين السالمي ومحمد بن يوسف أطفيّش. وفي آخر أبواب المجلة: الإسلام والعالم، ترجمت المجلة بحثين، الأول لخالد بلانكنشب عنوانه: «المفاهيم المتشابهة للحرب والسلام بين الغرب والإسلام». وقد تتبع الباحث بالفعل مسائل الجهاد والحرب العادلة والتكليف الإلهي والمسؤولية الدينية والأخلاقية، عارضاً عند كل مسألةٍ آراء الفقهاء وكُتّاب مؤلّفات الجهاد والسير عند المسلمين، وتقديرات الكهنة واللاهوتيين والمؤرّخين عند المسيحيين في العصور الوسطى. وبعد شرحٍ مستفيض ينتهي الكاتب (وهو أميركيٌّ مسلم) إلى أنه لا يمكن لومُ المسلمين على المفاهيم والممارسات التي يحمل الغربيون مثلها سواء أكانت ذات أصولٍ دينية أم قومية أم إثنية. أمّا المقالة الثانية المترجمة في باب: الإسلام والعالم، فهي لعباس بارزكار، بعنوان: الخطاب والهوية - دراسة الإسلام في أميركا. وهي مقالةٌ مفيدةٌ يعرض الكاتب فيها لتطورات المفاهيم والطرائق في دراسة الإسلام في الولاياتالمتحدة. فقبل أربعين عاماً كان الإسلام الأميركي يعني المسلمين السود، ويشير إلى تلك المزائج من العقائد المتنافرة والطهورية. أما اليوم فإنّ المشهد الإسلامي بأمريكا صار شديد التنوع، ومن شبه القارة الهندية إلى المسلمين الأسيويين، فالمسلمين الأفارقة، والمسلمين العرب. وتجمع كثيراً من هؤلاء جمعيات، لكنّ الوعي الديني والسياسي متفاوت فميا يتعلق بالهوية، وفيما يتعلق بالانتماء، كما أنه يختلف من جيلٍ إلى جيل. ويقسّم الكتاب الخطابات الرئيسية لدى المسلمين الأميركيين إلى إبراهيمية أميركية، وفعالية تأهيلية اجتماعية، وخطاب سلفي-سني، وخطاب التقليديين الجدد، وخطاب الإصلاحيين التقدميين. وهو يثني على دراسات Richard Martin في السنوات العشر الأخيرة، والتي حاولت نشر وعيٍ جديدٍ بالوجود الإسلامي في الولاياتالمتحدة.