الطوابير المتراصة أمام السفارة الأميركية في حي «غاردن سيتي» في القاهرة لم تتأثر. الأعداد كبيرة، والملامح متشوقة، والآمال عريضة... بين طامع في تأشيرة زيارة، ربما تتحول إلى دعوة إقامة، وبين حالم بالبطاقة الخضراء التي تنتشله من غياهب المشكلات التي تحيطه، وبين مخطط لزيارة الأعمام والخالات علهم يعرضون عليه الزواج من إحدى بناتهم والإقامة معهم في البيت والبحث له عن فرصة عمل أيضاً. أشعل الشباب الثورة المصرية، وحدث ما حدث، وسقط النظام، وبدأ نظام جديد يدق حجر الأساس، وضلعت الولاياتالمتحدة بين الحين والآخر بأشكال وألوان وأنماط مختلفة على مدى الفترة الانتقالية السابقة، ولاقت ردود فعل متباينة من الشباب الثوري وغير الثوري. فما أن بدأ نجم جماعة «الإخوان المسلمين» في البزوغ على المشهد السياسي، وبدأت برامج زيارات أعضاء الكونغرس والمسؤولين الأميركيين خلال الأشهر الماضية تحوي زيارات لمقر حزبها «الحرية والعدالة» – أو ربما ساهمت في بزوغ هذا النجم – حتى بدأت الدوائر الشبابية في مناقشة هذا الدور غير المفهوم. البعض اعتبره أمرأ طبيعياً لدولة عظمى تود أن تطمئن على مصالحها في ضوء التغييرات الحادثة في دولة استراتيجية مثل مصر، والبعض الآخر لم يشعر بارتياح تجاه هذه الزيارات، ولا سيما أن جميعها كان ينتهي بما يشبه الغزل الموجه للجماعة ولرموز حزبها «الحرية والعدالة». لكن المثير هو أن شباب الإخوان المسلمين الذين يكونون عادة على أهبة الاستعداد لصب جام انتقادهم وغضبهم لأية زيارة قادمة من نصف الكرة الغربي التزموا الصمت التام تجاه هذه الزيارات المكوكية والإشادات. واتضح هذا الاتجاه نحو التزام الصمت وعدم التعليق على الزيارات الأميركية وما قد يصحبها من تصريحات كانوا في ظل النظام السابق يصنفونها تحت بند «التدخل السافر في شؤون مصر الداخلية» أثناء زيارة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الأخيرة لمصر ولقائها الرئيس الإخواني محمد مرسي. ففي الوقت الذي اشتعلت انتقادات الشباب غير الإخوانيين وغير المنتميين لتيارات الإسلام السياسي تجاه الزيارة والتصريحات الأميركية الوردية المصاحبة لها، التزم شباب الإخوان المسلمين الصمت في البداية، لكنهم حشدوا طاقاتهم وشحنوا إبداعاتهم وشنوا حرباً ضروساً ضد كل من تجرأ وانتقد زيارة كلينتون وإعجابها المائل للغزل بالإخوان وتدخلها الموصوف ب «السافر» في شؤون مصر! هذه التغيرات الشبابية الحادثة تجاه الولاياتالمتحدة غير مسبوقة. القوى الشبابية الليبرالية باتت تعادي الولاياتالمتحدة. رموز شباب الثورة الذين سعت أميركا إلى دعوتهم إلى بلاد «العم سام» عقب ثورة يناير لتكريمهم والاستماع إلى تجربتهم الثورية الرائعة في إسقاط نظام فاسد، وهي الرموز التي كانت على رأس قائمة الشخصيات التي يلتقيها أعضاء الكونغرس والمسؤولين الأميركيين أثناء زياراتهم الكثيرة لمصر بعد الثورة، باتوا وكأنهم غير موجودين في محيط الاهتمام الأميركي. القوى المسيحية الشبابية التي نظمت تظاهرات ودعت إلى احتجاجات بعضها كان على أبواب السفارة الأميركية في القاهرة للمطالبة بدعم أميركي لمواجهة المشكلات التي تعرض لها المسيحيون في مصر في أحداث عدة بعد الثورة لم تعد أميركا تلتفت لها لحين إشعار آخر. الغريب أن شهر العسل الموقت بين جماعة «الإخوان المسلمين» والولاياتالمتحدة الأميركية، وهي حال الحب والوئام التي أثرت سلباً في علاقتها ببقية الأطراف المصريين لم تؤثر كثيراً في الطوابير المتراصة على أبواب السفارة ولا على أحلام السفر والهجرة! مروان مصطفى (27 سنة) يحاول جاهداً البحث عن فرصة هجرة إلى الولاياتالمتحدة على رغم أنه يشعر بغضب شديد من الموقف الأميركي الداعم والمؤيد للإخوان في مصر. ويقول: «أميركا دولة عظمى ولا مجال للحديث عن مصالح الدول الأخرى أو عن ضمان مستقبل واعد لها إذا تعارض ذلك ومصالحها، وهو ما نراه يتجسد حالياً في الدعم الأميركي للجماعة. إلى ذلك فإن أميركا دولة براغماتية، ولو تمنع الإخوان عن تحقيق مصالحها يوماً ستكون أول من ينقلب عليهم. وأنا أحلم بالهجرة إلى أميركا، ليس حباً في كلينتون أو أوباما أو الرئيس الأميركي المقبل، ولكن أملاً في حياة أفضل». لا أمل محلياً حلم الحياة الأفضل الذي راود كل أطياف الشباب المصري أثناء الثورة والأسابيع القليلة التي تلتها، اصطبغ بصبغة مصرية ربما للمرة الأولى منذ عقود طويلة. تقول منة الله حلمي (22 سنة): «قبل الثورة كان الحديث عن مستقبل أفضل وحياة كريمة هو الوجه الآخر لحديث الهجرة وخصوصاً أميركا. لم يكن أحد يحلم بمستقبل وردي في بلده مصر. كان الأمل مفقوداً تماماً. لكن عشنا طيلة أيام الثورة وبعدها حلماً محلياً جميلاً عن مستقبل رائع وحياة كريمة في بلدنا، لكن للأسف تبدد هذا الحلم وعاد أدراجه إلى بلاد العم سام بعد ما أسفرت الثورة عن دولة دينية». لكن هشام عبد اللطيف (25 سنة) يعترض بشدة على ما تقوله حلمي، «فلا الثورة أسفرت عن دولة دينية، بل أسفرت عن فوز التيار الأكثر تنظيماً بالرئاسة، وهو ليس فوزاً أبدياً بل سيحتكم إلى صناديق الانتخابات بناء على الأداء». يقول: «لست متعجباً من موقف أميركا تجاه الإخوان، وأعتقد أنهم كانوا سيتخذون الموقف الداعم نفسه لو جاء حازم أبو إسماعيل رئيساً، لأن هدفهم هو تحقيق مصالحهم بغض النظر عن الأسماء أو التيارات. السياسة لا تعترف بالعواطف ولا بالمبادئ والقيم. ولكل من كان يعتقد أن «ماما أميركا» ستهب لنجدته حين يطلب العون، أعتقد أن الدرس المستفاد للجميع هو أنها لن تهب إلا لنجدة نفسها». وسواء هبت أميركا لنجدة نفسها أم لنجدة آخرين لإنقاذ نفسها، تظل علاقة أميركا بأحلام الشباب علاقة وثيقة، حتى لو كانت مبنية على أساس متين من «الحب – الكراهية». يكرهونها لكن يحلمون بالهروب إليها، خصوصاً عندما تضيق بهم السبل في بلدهم. هي علاقة متناقضة وغير مفهومة، لكنها ليست وليدة اليوم أو الأمس. يقول محمود علي (19 سنة) ساخراً: «الطريف أن غالبية من يصدعون رؤوسنا بالغرب الكافر أو بأميركا الانتهازية أو الحضارة الغربية المادية يتمسكون بتلابيبها. فالمرشح الرئاسي السابق أمه أميركية، والرئيس المصري الحالي لديه إبنان يحملان الجنسية الأميركية ورئيس الوزراء الجديد يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة أميركية. إذاً كلنا نحبها حتى لو كرهناها!».