بين الخطاب الانتصاري لأمين عام حزب الله عن قصف البارجة الإسرائيلية خلال حرب تموز وخطابه الأخير المطبوع بعجز كامل تجاه الخاطفين وتجاه الوضع الإقليمي المستجدّ، تحولٌ عميق لصورة حسن نصرالله وصورة عن وضع حزب الله في المستقبل القريب. وهذا الانزلاق من هيئة الأخ الجبار إلى هيئة الأب العاجز عائد إلى تحولين مترابطين، يتحمل حزب الله جزئياً مسؤوليتهما. التحول الأول مرتبط بالانتقال من الفرضية البسيطة القائمة على «المقاومة مقابل الاحتلال»، التي حكمت الخطاب الأول، إلى فرضية جديدة قائمة على انهيار العرّاب البعثي وغموض والتباس الصراعات الطائفية. وقد شكّل صعود حزب الله كمشروع بديل عن الدولة اللبنانية والممثل الحصري لطائفته التحول الثاني بين هذين الخطابين. ونتيجة ذلك الصعود جاءت عكس ما توقعه مسؤولو حزب الله، حيث أن قوتهم المقاومة سريعاً ما تبين أنها هشاشة وضعف في السياسة. وهذا ما نبّه إليه، بطريقة ملتوية، سيد المقاومة عندما تحدث عن معادلتين في لبنان، معادلة المقاومة ومعادلة السلم الأهلي. فقد لاحظ نصرالله، بعد خمس سنوات من الاقتتال السلمي والعنفي، أن اللغة السياسية في لبنان لغة مزدوجة، لها مستوى سياسي، تتصارع فيه مفاهيم كالمقاومة والسيادة والفساد، وآخر طائفي، غالباً ما تكون نتيجته صراعاً أهلياً عبثياً. ولهذا الحيز قدرة تسطيحية، تلغي الفروقات السياسية والمعايير الأخلاقية والتضاريس الاجتماعية التي تشكل شرط السياسة المدنية أو حتى سياسة المقاومة، لتستبدلها بتشابك ومحاكاة يقضيان على السياسة وإمكانيتها. غير أن الأمين العام، وإن اعترف بوجود مستويين للسياسة، أخطأ بتصنيف علاقتهما. فعكس طرحه القائم على فصلهما، فإنّ هذين المستويين متداخلان بأشكال مختلفة، بما يخرج عن التبسيط الطائفي الذي يلخص واحداً بالآخر، أو عن الشعارات السياسية التي لا تلاحظ أن كلمة «مقاومة» أصبحت مرادفاً عند الكثيرين لكلمة «شيعة». وتمييز نصرالله بين «سلاح المقاومة» و«فوضى السلاح»، وإن كان لذاك التمييز معنى في الماضي، أصبح، وبخاصة بعد 7 أيار، ساقطاً، ولا يقرأ إلاً من هذا الباب الطائفي. فالسياسة اللبنانية في السنوات الأخيرة بقيت تماهي بين هذين المستويين، وهو ما لم يلحظه نصرالله إلاّ في خطابه الأخير. لقد انتهى هذا الالتباس عندما وضع حزب الله النزول إلى المستوى الطائفي البحت على الطاولة، مع استقالة طائفية من الحكومة ثم اقتحام عسكري لمناطق الطوائف الأخرى. بقي الطرف الآخر يحاول ملاقاته، ولم يتمكن من اتمام تلك العملية إلاّ بعد بضع سنوات. ومع استكمال النزول إلى هذا المستوى وبروز منافس عسكري لحزب الله، أقفلت دائرة التشابك، حيث انتهت مرحلة 7 أيار بجغرافيا من العنف، أصبح من الصعب الخروج منها. ورغم استدراك الجميع خطورة الحرب الأهلية، يبقى أن بنية الاقتتال قد أُسست ودائرة العنف قد أقفلت ومن الصعب إعادة فتحها على أفق غير عنفي. والأزمة سياسية بامتياز، رفعت تحدياً في وجه الطبقة السياسية وخبرتها «الحوارية». غير أن الحلول المعهودة لم تعد تجدي. فالخيار «الفاشي»، القائم على دعم الجيش، من قبل من أفرغه من كل معانيه حتى سيطر عليه، لا أفق سياسياً له، ولا نفع منه إلاّ تأجيج النزاعات الطائفية. لكن هذا الخيار ليس وحيداً في عدم جدواه. فمشاريع الحكومات الأحادية اللون أصبحت مستحيلة أيضاً. فمع إعادة التوازن بين الطائفتين السنية والشيعية، لم تعد حكومات «اللون الواحد» قادرة على الحكم، أو حتى على تقطيع المرحلة القادمة، المتمثلة بانهيار النظام البعثي، مع كل ما يفترضه ذلك الانهيار من تحولات. وإذا اعتبرنا أن الحكومات أصبحت خارج التنافس السياسي، فالانتخابات غدت تفقد أهميتها، كون نتائجها لن تؤثر على موازين الحكم. ومن ينتظر الانتخابات لكي يعزز موقفه في التعيينات من هنا أو مناصبه الوزارية من هناك، خارج عن السياسة. غير أن الأزمة الكبرى التي تواجه النظام اللبناني هي أن أساليبه المعتادة للتعاطي مع الأزمات فقدت قدرتها على تذليل الأوضاع. فحكومات التكنوقراط أو الوسطيين أو الحياديين غير قادرة على ضبط الوضع. كما أن سياسة «النأي بالنفس» أصبحت مستحيلة في صيغتها الحالية، وتتطلب إعادة تموضع قد يكون من الصعب إتمامه. أما الحوار وطاولته، فمضيعة من الوقت لا تقدّم أكثر من تبريد للأوضاع، كون شروطه لم تستكمل بعد. و«الهوبرة» حول «الوحدة الوطنية» التي واكبت قضية المخطوفين ليست إلاّ إشارة إلى الفارق الشاسع بين جدية الأزمة وسطحية التعاطي معها. فعندما تغلق دائرة العنف على نفسها، ويصبح الدوران العنفي والعبثي أفقها الوحيد، تستعين المجتمعات بكبش فداء لكسرها، والانتقال بالتالي إلى مرحلة سلمية. وغالباً ما يكون «الغريب» هذه الضحية المفترض بها الخروج من دوران العنف المسيطر على تلك المجتمعات المأزومة. غير أن اللبنانيين استنفدوا الغرباء في محاولاتهم للخروج من العنف، مُحوِّلين إياهم إما إلى جزء من المجتمع المأزوم، كما أصبح الوضع مع السوريين أو الفلسطينيين، أو مُسخِّفين مخزونهم القرباني، كما مع الغرب أو إسرائيل. ومن هنا، بات الطريق الوحيد للخروج من الأزمة الحالية يمر من خلال التضحية الذاتية كأساس لكسر دوران العنف. ففي أزمة الثقة العميقة التي يعيشها لبنان، أصبح من الضروري للطرفين المتصارعين، قبل بدء أي حوار، أن يقدم واحدهم تضحية مؤلمة وصريحة للطرف الآخر ومن خلاله للمجتمع المأزوم، كإشارة إلى ثمن الخروج من هذا الدوران العبثي. وبغير التبديد الأساسي للروايات المتقابلة من قبل أصحابها، لا شيء يمكنه كسر الدائرة الحالية المحكمة الإغلاق، وفتحها على ما يمكن أن يكون أفقاً سلمياً. * كاتب لبناني