يبدو حي العباسية القاهري من أعلى «كوبري 6 أكتوبر» أشبه بالعروس الحزينة. حركة إعادة الأمور إلى مقاليدها، والبلاطات المكسورة إلى الرصيف والأعمدة المخلوعة إلى السياج، تجري على قدم وساق. السكان يتنفسون الصعداء بعد انتهاء الموقعة التي سقط خلالها مئات الضحايا، لكن شعوراً ثقيلاً بالهم والقلق يخيم على الجميع. كان يفترض أن يكون الشعور السائد هذه الأيام تشويقياً وليس تنفيرياً أو تحذيرياً. فماراثون الدعاية الانتخابية للمنصب الأبرز في مصر بدأ رسمياً. فرحة اللافتة الإعلانية الضخمة على مطلع الكوبري تبخرت في الهواء. شهور طويلة من الإثارة تكبدتها اللوحة العملاقة. لونها الأزرق الزاهي بعبارة «الرئيس» البيضاء كان محور أحاديث أصحاب السيارات وركابها الذين يؤدون طقس اجتياز الكوبري (الجسر) مرة واحدة على الأقل يومياً. وحين حانت اللحظة الحاسمة ليكشف الستار عن المرشح «الرئيس» الواقف خلف اللوحة، دقت طبول «الزحف» نحو وزارة الدفاع لتفسد بريق الإثارة. وظهر المرشح رئيس الوزراء المخلوع الفريق أحمد شفيق الملقب عنكبوتياً ب «البلوفر الأزرق» مصوباً نظراته الحادة إلى عيني كل من يصعد الكوبري منافساً «الموناليزا» في نظرتها الشهيرة المعنونة «انتبه فهي تراقبك!». رقابة شفيق لمرتادي الكوبري لم تحسب حساب القدر الإعلاني الذي سخر من شعار حملته «الأفعال وليس الكلام»، إذ طغت عليه في الخلفية لوحة أكبر حجماً وأشد بأساً لإحدى شركات الاتصالات الداعية للكلام في مقابل «14 قرشاً فقط للدقيقة». لكن أسعار اللوحات الإعلانية التي ستفجر حتماً مساءلات حول كلفتها وخرقها الحد الأقصى المحدد للإنفاق تتعدى القروش الزهيدة للمكالمات الهاتفية، وتتنافس في ما بينها على استقطاب اهتمام الناخبين المثقلين بهموم «العباسية» المرشحة للتكرار مع قرب موعد الانتخابات. ومع اقتراب اليوم الموعود، يزاح الستار يومياً عن مزيد من اللوحات الرئاسية، لكن هذه المرة لقطة جانبية للمرشح عمرو موسى ناظراً إلى السماء، وكأنه يشخص ببصره بعيداً عن كتابات «غرافيتي» تطارد ملصقاته بعلامة «فلول»، أي معادٍ للثورة والتغيير. ويأبى القدر الإعلاني إلا أن يتدخل مجدداً، ويجد موسى نفسه في مواجهة إعلان ضخم عن تحميل برنامج تغيير أرقام الهواتف المحمولة تحت شعار «لما نقول تغيير، يبقى التغيير في كل حاجة». لكن التغيير الذي حلم به المصريون يعاني تعثراً شديداً، وما زال يقف عند حدود الدعاية الانتخابية الرئاسية الصاخبة التي لم يعتادوها من قبل. فالباص البرتقالي ذو الطابقين بات من المشاهد المعتادة في شوارع القاهرة الكبرى. «ألتراس أبو الفتوح» يمتطون الباص الذي بات السمة المميزة لحملة عبدالمنعم أبو الفتوح، وهم يبذلون جهداً خارقاً لتبدو الحملة بمظهر شبابي صاخب ينافس معارضيه الذين يتداولون في ما بينهم دعابة انتخابية قوامها ان «أبو الفتوح إسلامي متشدد صيفاً، ليبرالي مدني شتاءً، ثائر نهاراً، يميل إلى الجماعة ليلاً». خفة الظل التي خفتت حيناً احتراماً للدماء التي سالت في العباسية فرضت نفسها مجدداً بسبب فداحة الكوميديا غير المقصودة، فبعدما أمطر مستخدمو الفضاء الإلكتروني مرشح جماعة «الإخوان المسلمين» وذراعها السياسية حزب «الحرية والعدالة» محمد مرسي بنكات ترتكز على تشبيهه بدولاب العجل الاحتياطي «الاستبن» الذي لجأت إليه الجماعة بعد عطب قانوني أصاب المرشح الأصلي خيرت الشاطر. وأعيد طبع عدد كبير من ملصقات الشاطر بعد استبدال الصورة والاسم، لكنها خرجت مذيلة بعبارة «خيرت الشاطر صاحب مشروع النهضة». ولم يكن أمام مسؤولي التنكيت سوى إضافة كلمة لتصبح «صاحب صاحب مشروع النهضة». أما أصحاب وأنصار المرشح السلفي المُبعد حازم صلاح أبو إسماعيل الذين شكلوا نواة اعتصام العباسية قبل ان ينضم إليهم آخرون، فيتعاملون مع ملصقات أبو إسماعيل باعتبارها «بركة» لا تجوز إزالتها. لكن بعضهم فوجئ بدعاية مضادة جاءت رداً على ما قيل بأن سبب عدم ظهور مرشحهم مع أنصاره في العباسية يعود إلى إصابته بشد عضلي، إذ انتشرت دعابة سرعان ما تحولت إلى «غرافيتي»: «أبو إسماعيل مالوش ذنب، أبو إسماعيل عنده كرامب»، اي شد عضلي. وذاع صيت ملصق إلكتروني مستوحى من حملته الشهيرة «سنحيا كراماً»، فظهر أبو إسماعيل رافعاً ذراعيه كعادته، ولكن هذه المرة واقفاً خلف جثة أحد أنصاره الغارقة في الدماء ومذيلة بعبارة: «سأحيا كراماً». ومن لوحات المرشح حمدين صباحي بابتسامته العريضة، إلى شبح ابتسامة على وجه سليم العوا مؤكداً قيمة العدل في برنامجه، ومنهما إلى خالد علي المعتمد في شكل أكبر على دعاية ال «غرافيتي» المجانية، وبضع ملصقات لأبو العز الحريري، يحاول المصريون جاهدين أن يعيدوا ضبط مؤشراتهم الفكرية بعيداً من هموم معركة العباسية إلى دهاليز الدعاية الانتخابية. لكن شعوراً كامناً بالقلق يعتري الجميع خوفاً من أن تتحول دعابة اليوم إلى مأساة الغد. يقول أحدهم للآخر: «ومنذ وقع الشهداء، نهتف: يانجيب حقهم (الشهداء) يانموت زيهم»، فيسأله الثاني: «وجبتوا حقهم؟»، فيأتي الرد: «لأ، بنموت زيهم».