ليس هناك الكثير من الذكريات الطيبة التي تجمع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مع أنقرة، وليست الأزمة الأخيرة المتمثلة في تبادل الاتهامات بالطائفية والتدخل في الشؤون الداخلية للعراق بينه وبين نظيره التركي رجب طيب أردوغان سوى تعبير عن طبيعة العلاقة الحقيقية بين الطرفين والتي حاولت أنقرة – التي تعتبر المالكي امتداداً واضحاً للنفوذ الإيراني في العراق - أكثر من مرة إخفاءها والتغطية عليها من أجل مصالحها الاقتصادية في العراق ومن أجل الحفاظ على استراتيجية المسافة الواحدة من جميع مكونات الطيف العراقي لإبراز الفرق بين المقاربة التركية والمقاربة الإيرانية في العراق. إذ لا يمكن أردوغان أن ينسى كيف تصرف المالكي معه في أول اختبار جمعهما عام 2007، حين كانت حكومة أردوغان تواجه أخطر امتحان لها إذ كانت تحارب على جبهات عدة، فمن ناحية كان الجيش يعد لانقلاب عسكري من خلال إقامة دعوى لحل حزب أردوغان الحاكم، ومن جهة أخرى كان حزب العمال الكردستاني يكثف هجماته الدموية على مخافر الجيش التركي على الحدود العراقية التركية في هجمات لم تخل من رائحة تواطؤ – أو على الأقل تخاذل – قيادات عسكرية تركية، ضغطت بكل قوتها حينها على حكومة أردوغان من أجل إرسال الجيش إلى شمال العراق ودخوله في مستنقع جديد هناك رداً على تلك الهجمات التي بدت مفتعلة توقيتاً وتأثيراً، كل ذلك حدث فيما كانت علاقات أنقرة مع واشنطن ما زالت تحت رحمة المحافظين الجدد الذين لم يخف صقورهم حينها رغبتهم في التخلص من «الإسلاميين» في تركيا. في ذلك الظرف العصيب حاولت أنقرة الاستنجاد بالحكومة العراقية من أجل مساعدتها في لجم حزب العمال الكردستاني، والتعاون ولو صورياً مع حكومة أردوغان في المجال الأمني وتوقيع اتفاق تعاون أمني من أجل تخفيف الضغوط العسكرية على أردوغان وتحييد خيار إرسال الجيش إلى شمال العراق. حينها خرج المالكي ليتذكر سيادة العراق ويحذر من إرسال الجيش التركي، وطرح التفاوض على الاتفاق الأمني بهدوء ومن دون استعجال في إطار زمني مفتوح لم يكن لدى أنقرة مجال لتحمله وانتظار مراحله، بل إن المالكي (الذي وصفه مسعود البرزاني في زيارته الأخيرة لواشنطن بالديكتاتور) حاول أن يعطي تركيا درساً في الديموقراطية مطالباً أردوغان بحل القضية الكردية سلمياً. مع ذلك وبعد أن تجاوزت أنقرة تلك الأزمة، سعت لتحسين علاقاتها مع بغداد لأسباب عدة من بينها: العامل الاقتصادي والفائدة التجارية التي ستعود على الشركات التجارية والصناعية التركية نتيجة العمل مع سوق العراق، وكذلك من باب السعي إلى موازنة الدور الإيراني في العراق، وهنا فإن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو لطالما تغنى بأن تركيا بإمكانها التحدث والتواصل بثقة مع مختلف الفصائل العراقية من دون استثناء، بينما بعض جيران العراق – في إشارة واضحة إلى طهران – لا يستطيعون التحدث إلا مع حلفائهم العراقيين، وأن المسؤولين الأتراك يمكنهم زيارة البصرة و كربلاء كما الموصل وبغداد وأربيل من دون حساسية أو مشاكل، فيما مسؤولو «بعض جيران العراق» لا يستطيعون زيارة الموصل وعشائرها أو الأنبار، وأن الدور التركي في العراق مبني أساساً على مساعدته على إعادة بناء بنيته التحتية وتحقيق الرفاهية لمواطنه وضمان الاستقرار له من خلال إشراك جميع مكوناته من دون استثناء في الحكم وحل الخلافات بينها بعيداً من العنف، بينما يقتصر دور «آخرين» على تسليح الحلفاء وتمويلهم وزيادة العداوة مع الخصوم. وما كان لهذه المعادلة التي يتحدث عنها داود أوغلو أن تتحقق على الأرض من دون مد الجسور مع المالكي بصفته رئيساً للوزراء. وبينما كان المسؤولون العرب يترددون في زيارة بغداد ويحجمون عنها، وإذا ما زاروها رفضوا الإقامة على أرضها لأكثر من يوم واحد، فإن الرئيس التركي عبدالله غل ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو تعمدا في زياراتهما اصطحاب زوجتيهما والإقامة ليلة في بغداد من أجل بث رسالة دعم وثقة بحكومة المالكي. بل إن رئيس الوزراء أردوغان تجنب زيارة مدينة كركوك والأقلية التركمانية هناك بناء على موقف من المالكي الذي اعتبر أي زيارة تركية رسمية لكركوك دعماً للأقلية التركمانية وتدخلاً في الشأن العراقي. الشعرة الأخيرة على رغم ذلك، كان المالكي يتصرف مع أنقرة على وقع إيقاع العلاقات التركية - الايرانية والتركية - السورية، وكانت الانتخابات البرلمانية العراقية في 2010 هي الشعرة الأخيرة التي انقطعت بين أنقرة والمالكي بعد تأييد تركيا تحالف قائمة العراقية بزعامة أياد علاوي وتجنيد الدعم لها، وذلك لسببين، الأول رداً على سياسات المالكي تجاه تركيا، وثانياً رغبة من أنقرة في أن يحكم تحالف علماني العراق من أجل تجاوز خطر الحرب الطائفية الذي كان وما زال يهدد العراق. وعلى رغم فوز قائمة العراقية بزعامة أياد علاوي، فوجئت أنقرة بتفاهم إيراني - أميركي على تولي المالكي الحكومة من جديد، لتأمين خروج «نظيف وسليم» للقوات الأميركية من العراق نهاية 2011، أي أن تولي المالكي منصبه الحالي وفق المفهوم التركي جاء بناء على صفقة دولية تمت خلالها مراعاة المصالح الإيرانية والأميركية وليس مصالح الشعب العراقي أو احترام نتائج الانتخابات التي يفترض أنها ما يميز العراق الديموقراطي الجديد عن تاريخه السابق. عندها، طلبت أنقرة من قائمة العراقية وكل من أياد علاوي ونائب الرئيس طارق الهاشمي العمل كمعارضة قوية في البرلمان، لكن فشل حلفاء أنقرة العراقيين في تشكيل جبهة معارضة قوية، واستئثار المالكي – بدعم واضح من طهران – بمعظم مؤسسات الحكم وبالأخص الأمنية منها، أديا إلى إحباط جهود تركيا لعودة الاستقرار والتوازن في التمثيل الطائفي والسياسي إلى العراق، وهو ما مهد لبداية فترة من البرود بين العاصمتين. وتفاقمت الأزمة مع المالكي بعد قراره تصفية جبهة المعارضة واستصدار قرار القبض على الهاشمي في قضية دعم للإرهاب، والهاشمي هو الحليف الأقرب لأنقرة التي أقنعته عام 2005 بالمشاركة في الانتخابات بالنيابة عن العراقيين السنّة، ودفع ثمن موقفه هذا من دم إخوته وأقاربه الذين اغتالهم تنظيم القاعدة. تبع ذلك – أو بالتوازي معه - تضييق من الحكومة العراقية على الشركات التركية وحركة النقل التركية لبضائعها عبر العراق، إذ إن طول الأزمة السورية، وإغلاق الطرق البرية عبر سورية أمام البضائع والتجارة التركية أثرا في الاقتصاد التركي نوعاً ما. وسعى المالكي هنا كي لا يكون العراق منفذاً بديلاً للشاحنات التركية إلى الخليج، في موقف غير مبرر، وإنما يصب في مصلحة دعم السلطات الحاكمة في سورية، من دون الالتفات إلى العائدات الجمركية التي قد يستفيد منها العراق نتيجة تحويل خط سير الشاحنات التركية إلى أراضيه. كما كان واضحاً أن تصعيد المالكي تصريحاته في إطار رده على أردوغان الذي اتهمه بالأنانية السياسية وإثارة الطائفية، جاء متزامناً مع التوتر الذي شاب العلاقة بين أنقرةوطهران على خلفية الملف السوري، فهذا الاتهام التركي للمالكي ليس بجديد ولكن الجديد هو رد المالكي وتصعيده (سبق أن اتهم أردوغان المالكي بالطائفية نهاية العام الماضي، لكن أحزاباً شيعية عراقية تدخلت للوساطة سريعاً ولم يصعد المالكي حينها). هذا الخلاف الذي وصل حد تهديد طهران بإقصاء تركيا من الوساطة حول ملفها النووي وتحويل مكان المفاوضات مع دول خمسة زائدة واحدة من اسطنبول إلى بغداد أو بكين، جعل أنقرة ترى في حديث المالكي رسالة إيرانية بلغة عربية عراقية، وكأنه يتحدث بالنيابة عن طهران ودمشق معاً، فكان رد أردوغان أن تركيا لن تسمح للمالكي بالاستعراض، وامتد الخلاف إلى تبادل العاصمتين رسالتي احتجاج عبر السفيرين. الاستراتيجية التركية تجاه كل من العراق وسورية خلال السنوات الخمس الأخيرة كانت تركز على توثيق العلاقات مع هاتين الدولتين من أجل موازنة النفوذ الإيراني في المنطقة واستعادة العراق دوره العروبي من جديد (إضافة طبعاً إلى المصالح الاقتصادية التي أنعشت الاقتصاد التركي)، لكن التطورات تسير بعكس هذا التمني التركي، وما عاد ممكناً إخفاء المشاعر الحقيقية مهما سعت أنقرة إلى تجنب مواجهة مباشرة. وعلى الأغلب فإن الخلاف والسجال بين أنقرة والمالكي سيستمران ما دامت الأولى ترى في سياسات الثاني هدماً لاستراتيجيتها في العراق، وطالما رأت فيه ناقل رسائل إيرانية وسورية.