اجتماع الرئيس العراقي جلال طالباني والزعيم الشيعي مقتدى الصدر ورئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني ورئيس البرلمان أسامة النجيفي وزعيم قائمة «العراقية» إياد علاوي في إربيل يوم السبت، قد لا يطوي صفحة المؤتمر الوطني الموعود في عاصمة الإقليم لحل الخلافات. بل قد يهدد العملية السياسية برمتها في هذا البلد. ويهيل التراب على ما بقي من «اتفاق إربيل» الذي عقد قبل نهاية العام 2010 وسهل قيام الحكومة الحالية بعد مخاض استمر ثمانية أشهر. الاجتماع ضم خصوم رئيس الوزراء نوري المالكي الذي كان حضوره سيؤشر إلى بداية تسوية لكثير من القضايا العالقة بين الكتل... والمكونات المذهبية والعرقية أيضاً. من قضية نائب الرئيس طارق الهاشمي إلى قضية تقاسم العائدات النفطية واستكمال تنفيذ اتفاق تشكيل الوزراء. إلى ما بات معزوفة يومية مثل: البحث في السبل الكفيلة بتفكيك الأزمة، وتعزيز العملية الديموقراطية وتفعيل آلياتها. باتت إربيل بعيدة كثيراً عن بغداد في السياسة كما في الجغرافيا. ولن يكون بمقدور مقتدى الصدر أن يتوسط. أو أن تنجح وساطته بسهولة. عبرالعراقيون الحدود بصراعهم. وإشراكهم الجيران في الأزمة يعمقها ويعقدها ويضيف إليها عناصر تزيد الانقسام والتشتت بدل تسهيل الحلول. المالكي لم يتأخر كثيراً في الرد. اجتاز الحدود إلى إيران التي رأى رئيسها أحمدي نجاد أن التحالف مع بغداد يشكل قوة لن يكون بعدها مكان في المنطقة لأعداء البلدين. ومعروف من هم أعداء الجمهورية الإسلامية. هم أعداء المالكي نفسه الذين يتشكلون تباعاً، من أهل الداخل ومن الجيران. الذين «قاطعوا» قمة بغداد، أو لم يقيموا لها وزناً. الذين استقبلوا الهاشمي في جولته السعودية - القطرية - التركية. والذين استقبلوا بارزاني في واشنطنوأنقرة، وهو يلوح بأن استقلال كردستان «آت لا محالة»، وأن الاستفتاء عليه «قد يجري آخر الصيف». فيما لم يتردد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من اتهام نظيره العراقي ب «إذكاء التوترات الطائفية والمذهبية بين السنّة والشيعة والأكراد». لم يزر المالكي طهران لإبداء دعمه زيارة الرئيس نجاد جزيرة أبو موسى وإذكاء غضب الدول العربية والخليجية خصوصاً التي أثارتها الزيارة. لم يزر المالكي طهران للبحث في الملف النووي الإيراني. هذا ملف إيراني بامتياز. قد يكون اكتفى بالتفاهم على أسلوب إدراة المحادثات التي ستستضيفها بغداد بعد أسبوعين. زار العاصمة الإيرانية للبحث في سبل مواجهة التكتل الجديد الذي استضافته إربيل قبل يومين وكل الخصوم الذين يساندون هذا التكتل... وعلى رأسهم تركيا. فزعيم «دولة القانون» يراقب كما جميع القادة العراقيين كيف أن الأزمة السورية بدأت تتجاوز التخوم والحدود. وقد يكون العراق وأزمته السياسية - قبل لبنان وأفضل منه - ساحة مواجهة رديفة للمواجهة الدائرة في المدن والأرياف السورية. ويدرك وحلفاؤه في الداخل والخارج أن سقوط النظام في دمشق سيضع مصير العراق على المحك، ويحوله ساحة نزال كبرى بين مشروعين في المنطقة، بين كتلتين إقليميتين عربية وإيرانية، وبين الغرب من جهة وروسيا وحلفائها من جهة أخرى. العراقيون باتوا يدركون جيداً، وهم يراقبون زعماءهم يتنقلون بين أنقرةوطهران وعواصم أخرى، أن التوتر بين طوائفهم ومذاهبهم ومكوناتهم، بات أكثر فأكثر جزءاً من التوتر المتصاعد بين تركيا وإيران. ويدفع نحو مزيد من الاصطفاف المذهبي في الإقليم كله. من جنوب اليمن إلى كردستان... ودول الطوق. وهو استقطاب يتبلور دولياً أيضاً. فبينما تحاول الولاياتالمتحدة وشركاؤها الغربيون التكيف مع موجة التغيير في العالم العربي والسير في ركاب الحركات الإسلامية السنية، اختارت روسيا الوقوف في الخط المواجه، مع ما سماه بعض العرب «الهلال الشيعي»، من إيران إلى لبنان مروراً بسورية والعراق. وتشعر تركيا هذه الأيام، وهي تراقب الحركة الإيرانية في جنوب اليمن وشماله وفي البحرين ووسط بعض الكتل و»الجزر» الخليجية وفي سورية ولبنان، بأنها قد تخسر دورها في الشرق الأوسط، إذا تعذر التغيير في سورية، وإذا مشى العراق في ركاب إيران... وسورية أيضاً، كما يحدث هذه الأيام. وهي تواجه امتحاناً قاسياً في هذه المرحلة يشي به ارتباك أردوغان و»تهديداته» التي يوزعها شمالاً ويميناً. ولا تخفي أنقرة مخاوفها من أحتمالات تقسيم سورية، أو وقوعها في حرب أهلية وفوضى مديدتين. لأن أوضاعها الداخلية في هذه الحال لن تكون بمنأى عن تداعيات مثل هذا التطور والتحول الجذري في الأزمة السورية. كما أن دعمها الكتل السنية والكردية في العراق يظل قاصراً عن إقامة التوازن الفاعل لمواجهة التأثير الإيراني ما لم يحدث التغيير المطلوب في دمشق. وتشعر تركيا هذه الأيام بأن العراق تحول يوماً بعد يوم خصماً لها في المنطقة. فيما تواجه سياستها في الإقليم عقبات وحواجز بفعل التطورات في الأزمة السورية. وتخشى أن يؤدي ذلك إلى ضرب كل ما حققته ديبلوماسية أحمد داود أوغلو من انجازات في السنوات الماضية. بالغت ديبلوماسيتها في تغليب الجانب الاقتصادي على الإيديولوجي في بناء «سياسة صفر مشاكل» مع جيرانها. اندفعت نحو إعادة تشكيل علاقاتها مع المحيط لدعم موقعها وتجارتها وأهدافها السياسية لاعباً لا بد منه في الإقليم، من البلقان إلى وسط آسيا وحتى شمال أفريقيا وعمق شبه الجزيرة العربية. لكنها اكتشفت أن الإيديولوجيا في ذروة الصراع المذهبي لها الكلمة الأولى في تحديد مسار اللعبة في الإقليم. لذلك تذكرت أخيراً عضويتها في «الناتو». وسارعت إلى الاستنجاد بحضن الأطلسي من جهة، وبالحضن السني من جهة أخرى. اكتشفت أن لا مكان لقواسم مشتركة في المنعطفات والتحولات الكبرى. لا مجال للتوفيق بين العضوية في «الناتو» والعضوية في «تحالف الممانعة» الذي رغبت طهران في جرها إليه. أمام صدود بغداد وطهرانودمشق، قد لا يبقى أمام أنقرة سوى أبواب كردستان العراق. المالكي يشدد الرباط مع دولتين تخضعان لأقسى العقوبات. بدا مقبولاً حتى الآن أن يكيف سياسته مع سياسة إيران وسورية، ولكن ما قد يشكل مجازفة غير محمودة ربطه اقتصاد العراق باقتصادين متهالكين يعانيان ما يعانيان من الحصار، لأنه قد يعرض بلاده لضغوط وربما عقوبات. خصوصاً إذا فشلت المحادثات الخاصة بالملف النووي وإذا تعثرت خطة كوفي أنان في سورية. ولكن إذا قيض للجمهورية الإسلامية التي نجحت في امتصاص تداعيات حربين أميركيتين على المنطقة، أن تحكم قبضتها على العراق ليتجاوز تحالفهما السياسة إلى النفط، فإنها ستشكل أكبر تحد ليس للنظام العربي فحسب بل لموقع تركيا ودورها في الشرق الأوسط الجديد. فبعد ثلاث أو أربع سنوات يصبح في مقدور العراق أن يصدر نحو ستة ملايين برميل يومياً. وإذا أضيفت هذه إلى ما تنتجه إيران، أكبر مصدر بعد السعودية في «أوبك»، يمكن تخيل هذه القوة النفطية وقدرتها على المساومة وممارسة الضغوط. حتى الآن تعتمد تركيا سياسياً على ما انتجه وينتجه «الربيع العربي»، ونفطياً على روسياوإيران. فهل تجازف في هدم الجسور مع بغداد وطهران معاً بالتوجه نحو كردستان، سياسياً ونفطياً؟ معروف أن ثمة خلافاً على قانون النفط وتوزيع العائدات. بين حكومتي المالكي وكردستان. وأن الأكراد ذهبوا بعيداً في بناء سياسة نفطية مستقلة عملوا عليها من سنوات. إلا أن مشكلتهم الكبرى هي حاجتهم الدائمة إلى موافقة بغداد على شبكاتهم وأذون التصدير عبر هذه الشبكة. ومعروف أن بارزاني فضل قبل سنتين التحالف مع الكتل الشيعية التي لم تكن بدورها ترغب في التجديد لولاية ثانية للمالكي، لكنها بالتأكيد لم تكن لترغب في منح كرسي رئاسة الوزارة لإياد علاوي لأسباب كثيرة ومعروفة، وجوهرها أن تظل «شرعية» قيادة البلاد في البيت الشيعي. لكن جنوح زعيم «دولة القانون» إلى ترسيخ مركزية سياسية وعسكرية واقتصادية أثار مخاوف الكرد الذين لا تزال ذاكرتهم حية بكل الصور المؤلمة من السياسات المركزية وطغيانها. فضلاً عن أن رئيس كردستان وجدها ربما فرصة للإفادة من تفكك المنطقة من أجل تحقيق مزيد من التقدم للقضية الكردية... نحو مزيد من الاستقلال. والسؤال هل تذهب تركيا بعيداً في تحالفها مع بارزاني؟ هل تؤيد قيام كيان كردي مستقل إذا كان هذا الكيان يساعدها على تفكيك حزب العمال الكردستاني في إطار صفقة أو مقايضة؟ وهل يساعدها هذا على كبح طموحات أكراد سورية الذين لم ينخرطوا في الحراك الداخلي، وهم يريدون الاعتراف بحقهم في إقامة كيان قد يتجاوز الحكم الذاتي إذا انهارت سلطة دمشق، علماً أنهم كانوا الحاضن الفعلي لحزب العمال وخزانه البشري سياسياً وقتالياً؟ وهل تخوض مع بارزاني معركة مرحلية للحؤول دون إمساك إيران بالورقة العراقية فقط؟ أو هل تستطيع الانقلاب على سياستها القديمة حيال القضية الكردية التي كانت دافعاً وراء تقاربها مع سورية وإيران لكبح طموحات الكرد، وضمان حماية وحدتها واستقرارها؟