كان من الملفت ألاّ تسعى أنقرة الى تكذيب أو تبرير أو حتى مواربة ما تسرب – أو سُرّب – عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من أن تركيا لن تدعم أي جهد لحل الأزمة السورية يبقي على الرئيس بشار الأسد في مقعد الحكم. تم تسريب هذا التصريح خلال الاجتماع المغلق لاجتماع أصدقاء سورية في اسطنبول بحضور 83 دولة، والذي قرر تقديم مختلف أنواع الدعم للمعارضة السورية عدا السلاح. عودتنا الديبلوماسية التركية على تلافي أي خطأ غير مقصود أو تأويل، لكن أنقرة تركت هذا التسريب ينتشر كالنار في الهشيم، على الرغم من أنه يشير الى تناقض فاضح في المواقف وتصعيد غير مسبوق، فعدا عن أن هذا التصريح يمكن اعتباره تدخلاً صارخاً وغير مقبول في الشأن الداخلي السوري ويتعارض مع الإجماع الدولي في مجلس الأمن والجامعة العربية والقائم على ضرورة أن يختار السوريون وحدهم من دون تدخل خارجي النظام الذي يحكمهم، فإن هذا التصريح يتعارض أيضاً مع موقف تركيا – في العلن – الداعم لخطة المبعوث الدولي والعربي إلى سورية كوفي أنان والتي تدعو الى حوار في سورية يفضي الى حل سياسي سلمي للأزمة هناك. لكن الأهم من هذا كله هو أن التصريح والتسريب يشيران إلى أن تركيا باتت خصماً للرئيس بشار الأسد ونظامه، وربما لمن يدعمه أيضاً، وهي رسالة قرأتها دمشق بشكل واضح وصحيح، ما دفع بسفيرها لدى الأممالمتحدةبشار الجعفري الى القول إن تركيا أعلنت الحرب على سورية، متجاوزاً بذلك الخط الذي سعت دمشق للحفاظ عليه منذ بداية الأزمة أو الثورة، وهو عدم التعرض لتركيا أو الرد على انتقادات مسؤوليها التي وصلت أحياناً إلى حد توجيه الإهانة الشخصية لرموز النظام. الرسالة التركية ذاتها كانت أيضاً موجهة الى واشنطن وتل أبيب، بعد أن ترسخت قناعة لدى أنقرة بأن التردد الأميركي في حسم الملف السوري يقف وراءه عوامل عدة أهمها المصلحة الإسرائيلية التي يهمها بقاء الوضع السوري على هذه الحال لأطول فترة ممكنة، قبل أن تحصل على ضمانات من المعارضة ببقاء الحال مع الجار الإسرائيلي على ما كان عليه في عهد الأسد، وألا يؤدي تغيير النظام الى توتر العلاقات على الحدود وفي الجولان. والحديث المتداول حالياً عن أن واشنطن قلقة من وصول الإسلاميين الى الحكم في سورية أو وقوع حرب أهلية طائفية هناك لا يقنع أنقرة، لأن التعاون الأميركي مع الإخوان المسلمين في مصر مفضوح على رغم محاولة بعض الأطراف انكاره، كما أن المجلس الوطني يقيم في أحضان تركيا ولا يخرج عن قولها أو طوعها، وكذلك العلاقة قوية جداً بتنظيم الإخوان المسلين أقوى التنظيمات على الأرض السورية، والجيش التركي منتشر على الحدود، وفي كل ذلك ضمانات معقولة لضمان الا تقوم المعارضة بهجمات انتقامية أو حملة تطهير عرقي ضد طوائف بعينها في حال سقوط النظام. الحديث عن الخوف من الإسلاميين في سورية قد يقلق دولة مثل روسيا التي ما زال جرحها الشيشاني رطباً، لكن واشنطن وتل أبيب يقلقهما سوء العلاقات حالياً بين أنقرة وتل أبيب واحتمال استخدام تركيا الملف السوري ضد تل أبيب في حال تسلّم المجلس الوطني و الإخوان المسلمون – وكلاهما موال لأنقرة – الحكم في دمشق. بالطبع لا يفكر أحد في أن العداء الديبلوماسي بين أنقرة وتل أبيب قد يفضي الى دفع أنقرة الى توتير الأجواء في المنطقة عسكرياً، فتركيا ملتزمة أمن اسرائيل وأردوغان يكرر مراراً أن خلافه مع الحكومة الإسرائيلية وليس الشعب الإسرائيلي. لكن، لتوضيح هذه النقطة بشكل أفضل، فلنفترض أن كل ما حدث ويحدث في سورية جرى في ظل استمرار ربيع العلاقات التركية - الإسرائيلية، وأن مشكلة سفن مرمرة لم تقع، لكان حينها من الأسهل الحصول على ضوء أخضر من تل أبيب وواشنطن بإسقاط النظام السوري لاعتمادهما على الصديق التركي في التأثير بل ربما لجم طموح – أو أحلام - المعارضة السورية وتوجيهها بعد اسقاط النظام. لكن التوتر الذي طغى على العلاقات التركية - الإسرائيلية خلال العامين الماضيين، واتهم بعض المسؤولين الأتراك إسرائيل بطريقة غير مباشرة بدعم هجمات حزب العمال الكردستاني على الجيش التركي وعرقلة مشاريع التصنيع العسكرية التركية، ناهيك عن الخلاف الكبير على تقاسم ثروة النفط والغاز التي ظهرت في شرق المتوسط بالقرب من جزيرة قبرص، كل هذا يجعل الحكومة الإسرائيلية قلقة من أن تكسب أنقرة حليفاً إسلامياً في دمشق، لأن ذلك يعني أن انتقادات أردوغان وتهديداته لأسرائيل قد تسمع بعد ذلك من درعا ودمشق وليس من أنقرة. نحو جبهة تركية – إيرانية هذا من جانب، ومن جانب آخر، في تصريح أردوغان هذا وتسريبه رسالة أخرى الى طرف آخر هو إيران، فبعد الطلاق البائن الذي وقع بين أنقرةودمشق، يبدو أن شعرة معاوية بين أنقرةوطهران باتت مهددة بشكل أقوى مما سبق، إذ ان زيارة أردوغان لطهران أثناء عودته من القمة النووية في كوريا الجنوبية حملت في طياتها الكثير من التحدي والخلاف، مما بات يصعب اصلاحه أو اخفاؤه وراء تصريحات ديبلوماسية منمقة، اذ ما عاد ممكناً الفصل بين موقف تركيا من النظام السوري وعلاقة أنقرةبطهران، وقد حاولت تركيا الفصل بين الأمرين كثيراً تجنباً للتوتر مع ايران، لكن دفاع طهران عن حليفها السوري بات أهم – ربما – من الحفاظ على ما تم بناؤه من ترميم للعلاقات مع تركيا خلال حكم حزب العدالة والتنمية، فأردوغان لم يلق الترحيب المناسب في طهران، وأثار تأجيل أحمدي نجاد لقاءه أردوغان بحجة المرض الكثير من التساؤلات والتكهنات، خصوصاً أن الذي ادعى المرض كان قد استقبل في اليوم نفسه نائب وزير الخارجية السوري فيصل مقداد. كما أن دفع أردوغان للسفر الى مدينة مشهد لمقابلة المرشد الأعلى كان تجاوزاً للأعراف الديبلوماسية وانتقاصاً من قدر الضيف التركي، ومحاولة ديبلوماسية لعرقلة هذا اللقاء بحجة وجود المرشد خارج طهران، ولم يكتف المرشد بذلك وإنما سارع بالإعلان أن طهران ستدعم الأسد ونظامه، وذلك بعد ساعتين فقط من مغادرة أردوغان، في تحد واضح وردّ قوي على زيارته و الرسالة التي جاء يحملها. وفتح المرشد بعد ذلك الباب لأركان نظامه بدءاً من علي لاريجاني رئيس البرلمان الى العسكريين، لشن حرب تصريحات قوية ومباشرة على تركيا واجتماع اصدقاء سورية الذي استضافته واصفينه باجتماع اعداء سورية، والتهديد بقصف ما قالوا انها قواعد عسكرية أميركية سرية داخل قواعد الجيش التركي في حال تدخل الجيش التركي في سورية. ولملاحظة ما حصل من تطور سلبي على العلاقة التركية - الإيرانية يمكن أن نتذكر كيف أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو سارع الى الاتصال قبل ثلاثة أشهر تقريباً بنظيره الإيراني علي أكبر صالحي لمطالبته بتصحيح تصريحات مسؤول عسكري ايراني هدد بضرب رادارات الناتو الموجودة في تركيا في حال تهديدها أمن ايران أو في حال تعرض ايران لهجوم اسرائيلي، وكان لداود أوغلو ما أراد، أما اليوم فإن هذه الآلية من «التواصل الاجتماعي» بين الوزيرين ما عادت قادرة على تجاوز هذا القدر من الخلاف، فاتجهت أنقرة الى استدعاء السفير الإيراني والاحتجاج على التصريحات الإيرانية، اذ ما عاد للودّ قدرة على اذابة الخلاف الذي يتعاظم ككرة الثلج، وهذا ما دفع ربما الرئيس عبدالله غل الى أن يطلب من جيشه في كلمة ألقاها في الأكاديمية الحربية أن يكون مستعداً لحرب قد تندلع في المنطقة يكون مركزها طهران، في إشارة إلى استعداد أنقرة الى تفعيل مؤسستها العسكرية ضمن خططها السياسية الإقليمية من أجل «اعطاء تركيا الوزن الذي تستحقه في موازين المنطقة» كما قال غل الذي تحدث محذراً وليس محفزاً، كما بدا أردوغان في منتهى الانزعاج من طرح طهران بغداد أو دمشق عنواناً مقترحاً لعقد اجتماعاتها مع الدول الخمسة زائد واحد في شأن ملفها النووي وإقصاء تركيا عنها، حيث قال أردوغان إن حديث طهران بهذه اللغة «يعني الخروج عن أصول الديبلوماسية وهو أمر لا يليق»، وكل ذلك بعد قرار أنقرة – ربما رداً على اسلوب الضيافة الإيرانية في زيارة أردوغان الأخيرة – تخفيض وارداتها من النفط الإيراني بنسبة 20 في المئة. حقيقة الموقف التركي لكن، لماذا تبدو أنقرة مصرة الى هذه الدرجة على اسقاط الأسد؟ الجواب يكمن في حسابات اقليمية معقدة يطول شرحها، لكن الأهم هو اقتناع أنقرة بأن نظام الرئيس الأسد غير قابل للإصلاح بدليل محاولات عقد ما سمي بالحوار الوطني التي بدت هزلية في حضورها و نتائجها، والقوانين الإصلاحية التي لم تنفذ على الأرض، وأخيراً الدستور الذي وضعه الأسد والذي تؤكد مواده رفض النظام مشاركة أي جهة معارضة الحكم، والمهم أيضاً أن أنقرة اقتنعت بأن الأسد الذي كان يحافظ على توازن في علاقاته بين أنقرةوطهران، اختار السير في الطريق الإيراني في هذه الأزمة الخطيرة معلناً أن علاقته مع تركيا كانت تكتيكاً بينما علاقته مع ايران هي الاستراتيجية الباقية. أما على صعيد العلاقة بين أنقرة والمعارضة السورية، فإن على الطرفين أن يفكرا جيداً ما اذا كانت هذه العلاقة قد تجاوزت ما يمكن أن تحمله، حتى لا يتحول المجلس الى «حماس» جديدة تبحث عن تمويل ومقر، وتتحرك في ظل من يمنحها هذين العنصرين. ليس من مصلحة المجلس الوطني أن يظهر في صورة المجلس المسلوب الإرادة لمصلحة دول تدعمه أو تموله، اذ تسبق تصريحات هذه الدول – احياناً – تصريحات مسؤولي المجلس لتحديد موقفه من أي موضوع أو اقتراح، وعلى المجلس أن يؤكد – بالفعل لا بالقول – استقلالية قراره، وأن يرسم لنفسه خطاً واضحاً. من الضروري الإشارة الى هذا الأمر بعد ما حدث ليلة انعقاد اجتماع المعارضة في اسطنبول لتوحيد موقفها وصياغة وثيقة العهد، وهو الاجتماع الذي شابته الانسحابات والاحتجاجات، لينتهي «بوساطة تركية « في اللحظة الاخيرة، ضغطت على المجلس لقبول مطالب المنسحبين بإعادة هيكلة المجلس من أجل انقاذ مؤتمر اصدقاء سورية الذي كان ينتظر خروج وثيقة العهد تلك، كي تقدم أنقرة المعارضة السورية أمام العالم موحدة ومسيطرة – أو هكذا يراد لها أن تصور – على الجيش الحر والمنشقين على الأرض. وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يقول إن سياسة تركيا تجاه سورية يحركها الضمير الذي بات عنصراً من سياسة تركيا الخارجية في العقد الأخير، وهو أمر يمكن أن نلمسه في أكثر من مشهد وأكثر من حادثة، لكن هذه العلاقة الملتبسة بين أنقرة والمعارضة السورية تشجع خصوم تركيا على ترويج فكرة أن كوفي أنان بدأ بوضع أسس حل سياسي للقضية السورية يقوم على انشاء اتفاقية «طائف» جديدة تتقاسم فيها الطوائف السورية الحكم ( كما في العراق ولبنان)، وأن تركيا من خلال تصعيدها الحالي انما تسعى الى حجز كرسي لها في تلك المفاوضات المفترضة باسم المعارضة السورية السنية أو كضامن لها، حتى يكون لتركيا ثقل وحصة في مشروع «سورية الجديدة». قد يبدو هذا السيناريو بعيد الاحتمال أو موغلاً في الافتراض، لكن، في حال دفعت التطورات المنطقة الى التحرك بهذا الاتجاه، فسيكون من المناسب حينها تذكير أنقرة مجدداً بتصريح أردوغان المسرب عن رفض بلاده دعم أي حل يبقي الأسد رئيساً للبلاد.