عوّدنا «مهرجان الربيع»، سواء في القاهرة أو في بيروت، على اكتشاف مواهب موسيقية استثنائية وفرق فريدة غير تجارية لكنها مغمورة، خصوصاً من الشرق، مثل عليم قاسيموف وإيفا بيتوفا وكميليا جبران وكايهان كالهور وخالد جبران وغيرهم. وبتنا ننتظر هذه التظاهرة التي تنظم كل سنتين، معوّلين على مبرمجي المهرجان الذين نثق بذوقهم وخبرتهم في البحث عن فنانين غير تقليديين وغير استعراضيين. فما أن سمع الجمهور اللبناني المهتمّ بالموسيقى، باستضافة «المجموعة التركية الكلاسيكية» بقيادة عازف العود نوري كاراديرمللي، التي تقدّم الموسيقى التراثية التركية بقالب شرقي كلاسيكي، حتى تهافت إلى مسرح دوار الشمس في الطيونة (جنوببيروت)، كي لا يُفوّت الفرصة عليه. فللموسيقى التركية وقع خاص على قلوب العرب وأسماعهم، نظراً لمدى التأثير والتأثر الحاصل بينها وبين موسيقانا العربية، في الماضي وفي الحاضر. الأتراك يستعملون التعبير العربي «يا ليل» وما تفرع منه مثل «يالاللي». ويستعمل العرب في الغناء العربي حتى اليوم، كلمات «جانم» و«أفندم» و«آمان» للاستعطاف. كما اشترك الشعبان مع الإيرانيين في توحيد أسماء درجات السلم الموسيقي أو أسماء المقامات الموسيقية أو المصطلحات الغنية. ودخل الغناء التركي البلاد العربية من طريق التهاليل المستعملة في المساجد، وقبيل صلاة العيدين... وكان للمعهد الموسيقي في إسطنبول المعروف ب «دار الألحان التركية» دور أساسي في تطوّر الموسيقى التركية والموسيقى الشرقية على حد سواء، حيث كان قبلة العديد من الفنانين العرب، وأقيمت فيه أبحاث ساهمت في تطور الموسيقى العربية. ونلاحظ أن هذا التداخل الثقافي البارز بين الموسيقى التركية والعربية، مكّن من ازدهار وتطور الموسيقى على يد عبده الحمولي ومحمد عثمان، كما ساهم في تهذيب التواشيح والقدود وتبادل ترجمتها بين الشعبين، إضافة إلى تأثيره في القوالب الآلية مثل البشرف والسماعي واللونغا وغيرها، ما مكّن تطوير التخت الشرقي. لكن «المجموعة التركية الكلاسيكية» التي عزفت أكثر من 8 مقطوعات تراثية تركية تحمل في طياتها روح الموسيقى الإيرانية والبلقانية والهندية والعربية، إضافة إلى أغنيات لعبد الحليم حافظ وفيروز، خيّبت آمال جمهور «مهرجان الربيع» الذي لم يجد في الحفلة التميّز والفرادة التي اعتاد عليهما في مسرح دوار الشمس، كما افتقد في الكتيّب الذي وزّع عليه برنامج الحفلة وأسماء المقطوعات والمقامات. وعلى رغم براعة العازفين نوري كاراديرمللي (عود) ونديم نالبانتوجلو (كمان) وبارباروس إركوز (كلارينت)، وإسمت كيزيل (إيقاع)، وفولكان كيبري (قانون)، من الناحية التقنية والميكانيكية، إلا أن حفلتهم افتقدت الروح المرهفة والهارموني الجماعية، ما عرقل التواصل بينهم وبين الجمهور إلى حدّ ما. فكان تركيز كل واحد منهم على آلته والدقة في عزف النوتة الصحيحة، يجعلهم أغراباً على الخشبة. لا ابتسامات متبادلة ولا نظرات ولا حتى تفاعل يشي بروح الجماعة بينهم، ما يُشعر المستمع بشيء من الانزعاج. لكن بعض الارتجالات وخصوصاً من كمان نديم نالبانتوجلو (46 سنة)، لوّنت الحفلة بشيء من الحيوية. فهذا العازف الذي بدا على وجهه الغضب وعدم الارتياح منذ ظهوره على المسرح، كانت نغماته المتردّدة تدلّ على موهبة عتيقة وهو يتراقص على الكرسي البلاستيكي. لكن ابن بلدة كيركلاريلي التركية والذي تتلمذ على يد عازفة الكمان الروسية ناتيانا أفاناريف وديفي إرليه وبرونو ليسفي، سرعان ما تحدّى الغضب وأطلق لنغماته الارتجالية العنان. وهذا ليس مستغرباً منه كونه كان عازف الكمان الأول في «أوركسترا الجاز الوطني» لثلاث سنوات، واشتهر بارتجاله المبهر وموهبته بالمزج بين أنواع موسيقية مختلفة، ما دعا الملكة إليزابيث إلى دعوته ليعزف منفرداً في حفلة خاصة نظّمتها في بريطانيا. لكن الجمهور الذي قرأ في الكتيّب الذي وزّعه القيمون على المهرجان، سِيَر العازفين الغنيّة والجوائز التي نالوها، كان يتوقّع المزيد. وعلى الأرجح، ستعوّض حفلة الخميس المقبل التي ستحييها «أوركسترا نساء طوسي» من زنجبار، بفرادتها وكسرها لنمط الغناء التقليدي للنساء، على جمهور موسيقى الشعوب في المهرجان.