إذا كان الأدب الواقعي، والواقعي الاشتراكي وأدب الأبطال الإيجابيين والنهايات المظفرة السعيدة، قد انتشر في بلدان عدة، انتشار النضالات العمالية والسياسية، ليختفي خلال العقود الأخيرة من السنين، غير مأسوف عليه إلا من قلة من اصحاب الحنين، فإنه كان سائداً خلال عقود طويلة، وعلى الأقل منذ نهايات القرن التاسع عشر. غير انه لم يكن وحده في ميدان الأدب المناضل... بل كان مجاوراً لتيار بدا، ذات حين، اكثر منه تطرّفاً، بل ادب كان ينظر إليه - هو نفسه - نظرته الى ادب مبرجز (من بورجوازي) لا يهتم بالكادحين كما يجب. وهذا الأدب الأخير كان له اسم في ادبيات ذلك الزمان، ربما كان منسياً في زماننا هذا. الاسم كان «الأدب البروليتاري» - علما أن البروليتاريا، لمن نسي هذا المصطلح، تعني الطبقات الكادحة الدنيا في المجتمعات، تلك الطبقات التي باسمها ثارت نضالات كثيرة واندلعت ثورات عاتية، وعدت بأن تقوم لها ذات يوم ديكتاتورية هي ديكتاتورية البروليتاريا -. هذا كله قد يبدو اليوم جزءاً من الماضي، غير ان ثمة نصوصاً ادبية تنتمي إليه لا تزال حية حتى من دون ان تكون فاعلة. وهذه النصوص موجودة بوفرة، وعلى الأقل في ادبين اوروبيين كبيرين هما الأدب الإيطالي والأدب الفرنسي. وفي فرنسا خصوصاً لا يزال لمثل هذا الأدب أعلامه المرموقون ولا يزال له قراؤه. ومن بين هؤلاء الأعلام الكاتب هنري بولاي، الذي اشتهر خصوصاً برواية ضخمة يقرب عدد صفحاتها من 400 صفحة، وتعتبر من نتاجات الأدب الشعبي الفرنسي. وهذه الرواية هي «الخبز اليومي» التي صدرت في العام 1931، ثم عاد مؤلفها وأردفها بثلاث روايات اخرى، تشكل معها رباعية يقرب عدد صفحاتها من ألفي صفحة. تتحدث «الخبز اليومي» في شكل خاص عن اوضاع الطبقة العاملة الكادحة في باريس بدايات القرن العشرين. وهي تنطلق للحديث عن ذلك من بعض فصول السيرة الذاتية لهنري بولاي نفسه، حيث يلاحظ بسرعة، ما إن تقرأ الفصول الأولى من الرواية، وتقارن بسيرة حياة الكاتب، ان هذا الأخير إنما يروي هنا احداث حياته، وعيشه وبيئته الاجتماعية... وبخاصة من منظور فوضوي/نقابي، لا يرى مجالاً لمسايرة حتى الأحزاب «البورجوازية» التي تنطق عادة باسم الطبقة العاملة، كالأحزاب الشيوعية والاشتراكية وما شابهها. ان الكاتب يموضع روايته هذه على يسار هذه التيارات جميعاً، مقدّماً صورة فسيفسائية يومية تعيشها بروليتاريا لا تجد سوى التضامن والتعاضد في ما بينها، رداً حتى على خيانة الأحزاب الناطقة باسمها لها. تدور احداث الرواية في باريس بداية القرن العشرين، كما اشرنا، وتحديداً في الدائرة الخامسة عشرة من العاصمة الفرنسية، تلك الدائرة التي كانت منطقة شعبية بائسة خلال تلك الحقبة، والتي امضى فيها هنري بولاي نفسه طفولته وصباه. إذاً، فالرواية هي قبل أي شيء آخر رواية عن طفولة الكاتب في ذلك الحين... لكنها ايضاً، وأكثر من هذا، رواية تؤرخ للحياة الصعبة التي كانت تعيشها الطبقة العاملة هناك. فما هي المقومات الرئيسة لتلك الحياة؟ بكل بساطة واختصار، البؤس وعنف الاستغلال الطبقي. ولكن اسوأ من هذا ايضاً: العنف الذي يمارسه أبناء تلك الطبقة تجاه بعضهم بعضاً وقد أغرقهم الفقر وتناول المخدرات، في بؤس ويأس ما بعدهما بؤس ويأس. اما البيئة الأساس التي تدور فيها الأحداث فهي ورشات البناء التي كانت ناهضة - في تلك المنطقة مؤذنة بانبعاثها اجتماعياً بعد حين - والتي كان العمال ينكبّون على العمل فيها، من دون ان تكون لهم اية حماية اجتماعية او صحية، ما يعني ان حوادث العمل كانت شيئاً مألوفاً وعادياً، لا يتوانى عن إنتاج قتلاه وجرحاه ومشوّهيه بصورة دائمة. غير ان ثمة من بين السكان والعمال من يحاول ان يتجاوز بؤس اوضاعه ليحاول ان يعيش حياة كريمة عمادها التعاضد في غياب أي عون سلطوي او خارجي. وهكذا مثلاً لدينا هنا عائلة لولو، حيث الأب نجار والأم تقشّش الكراسي في البيت لحساب الآخرين... إننا هنا إزاء عائلة بسيطة تحاول ان تدبر عيشها اليومي بكرامة وأن تمنع أياً كان من استغلالها. وتظل الأوضاع هكذا، حتى اليوم الذي يصاب فيه الأب بحادث في العمل، فلا يكون من رفاقه العمال إلا ان يسارعوا الى الالتفاف من حوله لدعمه في شكل يتجلى فيه حب الإنسان لأخيه الإنسان. إن الأب هذا نقابي/فوضوي (وهو الاسم الذي كان يطلق في الأدبيات الاشتراكية على نوع من المناضلين النقابيين المستقلين الذين كانوا يعرفون ايضاً ب «الفوضويين»، علماً أن هذه الترجمة العربية المتخذة لكلمة anarchistes لا تفي تماماً بالغرض، حيث ان «الفوضويين» هؤلاء، وعلى غير اتساق مع المعنى المعهود للمصطلح العربي، يعرفون شيئاً من التنظيم النقابي ملموساً). المهم هو ان اصابة الأب والتفاف الرفاق من حوله يوفّران للكاتب، الذي كما قلنا يسترجع هنا ذكريات طفولته ويتحدث عن ابيه من دون ريب، فرصة لوصف الحياة والنضالات اليومية التي تعيشها تلك الطبقة من الناس. وهنا لا يفوت الكاتب ان يرينا فئات اخرى من الاشتراكيين، خصوم الفوضويين/النقابيين، من دون ان يشيطن تلك الفئات، اذ انه يقدم إلينا كل هؤلاء المناضلين وهم يسعون، معاً وبالتنافس في ما بينهم، من اجل حياة افضل. ان هذا كله يجعل من هذه الرواية، من دون ادنى ريب، شهادة حية على زمن وعلى بيئة، ما يذكّر الى حد ما ببعض اجمل روايات الأدب الطبيعي التي كتبها اميل زولا عند نهاية القرن التاسع عشر، بل ان نهاية «الخبز اليومي» تبدو شديدة القرب، مثلاً، من إحدى اهم روايات زولا، أي «جرمينال» التي تصوّر حياة عمال المناجم في الشمال الفرنسي... مع فارق اساس يكمن في ان زولا يصف الأحداث من موقع المشاهد المتعاطف، إنما من الخارج، فيما من الواضح ان هنري بولاي يصف الأحداث من موقع الملتزم الشاهد المنخرط في النضال، على رغم طفولته، هو الذي كان في ذلك الحين - مثل بطله لولو -، طفلاً في العاشرة من عمره تقريباً. والمقاربة مع «جرمينال» زولا تأتي من ناحية ان «الخبز اليومي» ذات الأسلوب الحي والواضح، والصورة البانورامية لحركة مجتمع بأسره، إنما تختتم احداثها على موجة الإضرابات العمالية الصاخبة التي تلت، في فرنسا، كارثة مناجم «كوريار» التي حدثت في العام 1906، وأسفرت يومها عن سقوط ما لا يقل عن 1200 قتيل: اذ عند النهاية، وبعد سلسلة الإضرابات يعود العمال الى المبنى من دون ان يحققوا أي مكسب. مكسبهم الوحيد يكون في اكتشافهم بعضهم بعضاً، وفي عودتهم من نضالهم مرفوعي الرؤوس آملين من المعارك المقبلة و «النضالات التي ستتواصل» ان تؤمّن لهم الانتصار في ثورة «فوضوية /نقابية»، عارمة. هنري بولاي الذي يكاد يكون نسياً منسياً في ايامنا هذه، كان خلال النصف الأول من القرن العشرين يعتبر المحتل الأول، وربما الوحيد، لبناء ادبي صارخ هو الأدب البروليتاري الفرنسي. ومجده هذا كان بفضل «الخبز اليومي»، ولكن ايضاً بفضل الأجزاء الثلاثة الأخرى التي تؤلف في نهاية الأمر رباعية جديرة بالقراءة، حيث انه بعد الجزء الأول اصدر رواية «ملعونو الأرض» عن النضالات العمالية بين 1906 و1910، ثم «خبز الجنود» تليها «الهاربون» عن نضالات الجنود البائسين خلال الحرب العالمية الأولى، وبولاي الذي ولد في العام 1896، رحل عن عالمنا في العام 1980. [email protected]