«ليبيا: حرب أهلية قد تنتهي بالتقسيم» (الحياة، 5/3/2011). وما حدث في الأيام الأخيرة وما يمكن أن يحدث يؤكّد هذه المخاوف. وفي التفاصيل أن زعماء قبائل وسياسيين ليبيين في منطقة «برقة» على الحدود الليبية–المصرية أعلنوها إقليماً فيديرالياً اتحادياً واختاروا الشيخ أحمد الشريف السنوسي رئيساً ل «المجلس الانتقالي». ما هي خطورة وأهميّة هذا الحدث؟ هو يمثل أول حركة انفصالية بعد القضاء على حكم معمّر القذافي الذي تواصل على مدى إثنين وأربعين عاماً، ثم إن «اقليم برقة» يقع في شرق البلاد، حيث توجد أكبر كميّات للنفط في الأراضي الليبية. أما رئيس المجلس الانتقالي الشيخ أحمد السنوسي فهو ابن عم ملك ليبيا السابق ادريس السنوسي، وكأن ليبيا أو قسماً منها راوده الحنين الى الملكية، بعدما شهد أهوال النظام الجمهوري وأكثر تحديداً «نظام الجماهيرية»! وإضافة الى النزعة الاستقلالية، أو الانفصالية للحكم الذاتي لدى فريق ليبي في شرق البلاد، فإن الثروة النفطية التي تتميّز بها هذه المنطقة جعلت ممثل «الجبهة المركزية» مصطفى عبدالجليل يسرع لإعلان رفضه الفكرة وتعهد بمقاومتها بالقوّة. كذلك ما إن أعلن السنوسي عن هذا التحرّك حتى ساور شركات النفط القلق والخشية من اضطرارها الى التفاوض مع فريق ليبي جديد غير السلطة الرسمية التي لا تزال تكافح لتثبيت حكمها في ليبيا وهي مجرّدة من كل الوسائل لفرض هيبتها وسيطرتها على البلاد. وإذا كان النظام الليبي المركزي قد فوجئ بهذا الإعلان عن انفصال «اقليم برقة» فهو لا يملك الكثير من الوسائل لقمع هذه الحركة الاستقلالية او الانفصالية، سمّها ما شئت. وأمّا إعلان مصطفى عبدالجليل عن مقاومة هذا التحرك بالقوّة، فهو يعني وصفة جاهزة لنشوب حرب أهلية جديدة في ليبيا. أما رئيس الوزراء الليبي عبدالرحيم الكيب فقد دعا إلى حماية الدولة من «أشباه الثوّار» وإنهاء سيطرة المسلحين على مقار الحكومة. وعندما سئل رأيه عن الاستعداد لإعلان برقة إقليماً فيديرالياً، أجاب... «نحن نشعر بأننا لسنا في حاجة إلى الفيديرالية ولسنا مضطرين لها ونتجه الى اللامركزية، ولا نريد العودة 50 سنة الى الوراء»... ومن دون ابتسار ما يمكن أن تسفر عنه هذه الخطوة من تداعيات على «ليبيا الجديدة» وعلى المنطقة في وجه الإجمال يمكن التوقف عند الأفكار الرئيسة التالية: أولاً: إن بعض الثورات والصحوات والانتفاضات التي يشهدها العالم العربي في هذه الفترة الانعطافية من تاريخه وما يُطلق عليه حركياً «الربيع العربي»، أفرزت، حتى الآن على الأقل، تناسل حركات انفصالية، تجنح نحو السيطرة على القرار الوطني بقطع النظر عن صوابية هذا التفكير من عدمه. ثانياً: إن الإعصار التقسيمي الذي يعصف بالمنطقة قد أنتج «طبقة جديدة» من الحالمين بالسلطة، حتى لا نقول في التسلط. ولعلّ جنوح بعض التحركات إلى مصادرة السلطات بالقوّة، جعل الجماعات ترتكب الأخطاء والحماقات التي اعتمدتها طبقة من الحكّام العرب على مدى العقود الأربعة الماضية بمعنى التفرّد والاستئثار في صنع القرارات. وعليه، فإن ما نشهده وما يمكن أن نشهده قريباً ليس حلاً لإشكالات عدة أصابت دول المنطقة بالشللية والتمتع بمغانم السلطة والانتقال من حالة فساد الى حالات أخرى لا تقل خطورة عمّا شهده العالم العربي. ثالثاً: مع إعلان «إقليم برقة» في ليبيا حالة من الحكم الذاتي! وأوجه جديدة من الفيديراليات التي تندرج تحت شعار التفتيت والتقسيم، والعمل على خلق مناخات تجعل من حالة التقسيم ليس الحلّ الأفضل، بل هو «الحل المتاح» في هذه الفترة المضطربة. وهنا يطرح السؤال المحوري: بين وحدة الشعوب بالإكراه، والتعايش بالضرورة، أي صيغة هي قابلة للحياة والصمود بوجه الرياح والأنواء العاتية التي تضرب المنطقة طولاً وعرضاً، أفقياً وعمودياً؟ وطالما أننا نجول في الشأن الليبي الذي فرض نفسه بفعل التطوّرات الأخيرة من بعث للملكية! واحتكار للسلطة، فإننا نتذكر احد «الأقوال المأثورة» لسيف الإسلام معمّر القذافي عندما قال عند اندلاع الثورة مخاطباً الليبيين: «نحكمكم أو نقتلكم... إن بديل معمّر القذافي سيكون الحرب الأهلية أو تقسيم ليبيا»! وكأن هذه النبوءة قد تحققت. ومع بروز النزعة التقسيمية والانفصالية في ليبيا، طرح الوضع الليبي نفسه من جديد على الصعيد الدولي. ففي خطوة مفاجئة تمّ الترتيب على عجل للقاء عقد بين الرئيس باراك أوباما ورئيس وزراء ليبيا عبدالرحيم الكيب في البيت الأبيض. وأفادت المعلومات بأن البحث تركز على نقطتين، الأولى: كيفيّة مواجهة «التمرّد في شرق البلاد حيث توجد الكميّة الأكبر من النفط، وضرورة التعجيل في إجراء انتخابات لمعرفة اتجاهات الرأي العام في ليبيا بعد التغيرات التي حدثت». وفيما أعلن مصطفى عبدالجليل أنه لن يقبل ب «انسلاخ» برقة عن سائر التراب الليبي، واستعادة الوحدة حتى ولو بالقوّة، تراجع عن اللهجة التصعيدية، مخففاً من وطأة ما هدّد به لمواجهة «الانفصاليين». كذلك سُجل موقف لافت من جانب روسيا، حيث اتهمت موسكو على لسان مندوبها الدائم في مجلس الأمن السفير فيتالي تشوركين بتلقي «معلومات مفادها أن في ليبيا وبدعم كامل من السلطات، مركز تدريب خاصاً لمتمردين سوريين، ويُرسَل هؤلاء الأشخاص لاحقاً الى سورية لمواجهة الحكومة». وهنا تقفز من جديد عمليات التداخل والتشابك بين ما تشهده سورية، والأوضاع في مناطق عربية أخرى. فماذا عن آخر التطوّرات على الساحة السورية؟ يبدو أن حالة من الإرباك الشديد تخيّم على مختلف الأطراف المعنية بالوضع في سورية، وهذه الحالة مردها الى أن الثورة في سورية أنهت عامها الأول وتدخل عامها الثاني وما من بوادر للحسم في هذا الاتجاه أو ذاك. وفي سياق حراك دولي جديد حول «الحالة السورية» ومع إعلان فلاديمير بوتين، الرئيس المنتخب: «إن مسألة منح الرئيس بشار الأسد اللجوء السياسي ليست مطروحة على بساط المناقشة في روسيا». وكأن تصريحات بوتين تشير الى التعاطي مع الرئيس الأسد على أنه جزء من الحل وليس فقط جزءاً من المشكلة. في هذا الوقت يصل الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان الى دمشق في بداية مهمّة «وساطة أممية» بعدما فشلت كل الطروحات السابقة، وحال الفيتو الروسي والفيتو الصيني دون تمكّن مجلس الأمن من إصدار أي قرار بإدانة النظام في سورية حول كل ما يجري. وفي سياق متصل، أعربت المملكة العربية السعودية عن «استهجانها ورفضها التصريحات الروسية التي تتهم فيها الرياض بدعم الإرهاب في سورية». وجاء في الرد السعودي: «إن الاتهامات الروسية مبنية على افتراضات خاطئة، وأن التصرّف الروسي أعطى النظام السوري رخصة للتمادي في ارتكاب الجرائم». ومع هذا الحوار الحاد والساخن بين الرياضوموسكو تبلغ العلاقات السعودية – الروسية أدنى المستويات، وهي تأتي في أعقاب إعلان الملك عبدالله بن عبدالعزيز «أن الحوار لم يعد مجدياً مع نظام بشار الأسد... وكان يمكنكم التشاور معنا قبل استخدام حق الفيتو». إن الكثير من المعطيات التي تداخلت في الأزمة المشتعلة في سورية يؤشر بوضوح الى أن لم يعد في الإمكان استئثار الغرب الأميركي منه والأوروبي بالحل وفي معزل عن «صفقة غربية – روسية» ترسم معالم تقاسم النفوذ للآتي من السنين ربما. وفي انتظار حدوث أو إحداث أي اختراق في الأزمة السورية يبقى عداد الموت في حالة تسجيل كامل ومتواصل للضحايا الى أي فريق انتموا. ومع سقوط كل الرهانات التي عُقدت في هذا الاتجاه أو ذاك، على كل الأطراف السورية والعربية والإقليمية والدولية أن تعمل على إعادة النظر في مختلف الرهانات التي اعتمدت في السابق والتي لم تؤدِ الى أي حل سوى المزيد من التأزيم وبقاء سورية والمنطقة في عين العواصف العاتية التي تعصف في مختلف الأرجاء. ومن ليبيا «الموحّدة» أو «المُقسمة» الى دمشق مروراً بسائر العواصم والنتائج واحدة مهما تعدّدت الوسائل والأساليب، يبقى شعار المرحلة: كلّنا في الهم شرق... وشرق والخيار سيبقى، وحتى إشعار آخر: «العيش في وحدة صورية ولو بالإكراه والعيش أو التعايش بالضرورة». * إعلامي لبناني