عام مضى على الثورة الشعبية في سورية، لم يقدّم خلاله المجتمع الدولي إلا العبارات الجوفاء والتصريحات النارية مثل: «إن النظام فاقد الشرعية»؛ و«إن على بشار الأسد التنحي»؛ والكثير من التنديد، والشجب، والامتعاض؛ والتعبير عن القلق، والصدمة، والاشمئزاز. ولا يلوح في الأفق القريب حل جذري للأزمة السورية يمكن أن يؤدي إلى إسقاط النظام، كما أن خروج المظاهرات السلمية يومياً يفضي إلى مزيد من الشهداء؛ بل إن قرارات مجلس الأمن والجامعة العربية والمؤتمرات التي عُقدت من أجل الشأن السوري، كان الضوء الأخضر ليزيد النظام من همجيته ووحشيته في القتل والاعتقال بشكل تصاعدي، حتى تجاوز عدد الشهداء يومياً 100 شهيد. من أسباب ازدياد وحشية النظام خفوت صوت المطالبات الدولية بالتدخل العسكري في سورية، وسقوط نظرية المراهنة على انضمام جيش النظام إلى الشعب، أو الانقلاب العسكري، كما حصل في حالتي تونس ومصر. ولأن العسكر دولة مختبئة في كُمِّ الدولة، فقد كانت الحاجة إليها منطقية وماسَّة، لضبط انتفاضة لم تستطع الاستيلاء على السلطة من واقع أنها ثورة، ولمنع الفوضى بعد اهتزاز النظام، وفقدانه لبعض أذرعته الأمنية الأخطبوطية. ولكن إنزال النظام لجيشه الطائفي ضد الثورة الشعبية، وقتل المتظاهرين السلميين، والتنكيل بهم، والتمثيل بجثثهم، وتشريدهم من بيوتهم، وانتهاك أعراضهم، سيؤدي في النهاية إلى حمل الشعب السلاح، والاشتباك مع النظام في حرب شوارع كما حصل في ليبيا. الشعب السوري عموماً، وشباب الثورة خصوصاً كانوا منقسمين في شأن ضرورة حمل السلاح لمواجهة شراسة وهمجية ووحشية أمن النظام، إذ وصل الأمر، خلال مداهمات الأمن منازل المتظاهرين، إلى الاعتداء على أعراضهم؛ ما اضطر الكثير منهم إلى حمل السلاح للدفاع عن أعراضهم. بل إن القنوات الفضائية المناهضة للنظام كانت أيضاً منقسمة بين موضوع عسكرة الانتفاضة، أو الاستمرار بشكلها السلمي الحالي. فبعضها لا يفتأ، منذ بداية الثورة، يعرض بعض آراء المناوئين للنظام، الذين ينادون بحمل السلاح ضده؛ بسبب مقتل واعتقال أهاليهم، والاعتداء على أعراضهم. والحقيقة أن هذا الأمر يعدّ مبرراً لأشخاص فقدوا عزيزاً، أو انتهكت أعراضهم. إن الموقف المشين والصمت المريب الذي لا يزال يتبناه المجتمع الدولي تجاه الثورة السورية، هو الذي شجع رجال الثورة السورية على حمل السلاح. إذ تبين لهم جلياً أن تركيا، التي كان عليها الأمل والمعتمد في دعم الشعب، ليست إلا ظاهرة صوتية. والكل يذكر تهديد رئيس الوزراء التركي أردوغان للنظام السوري قبل خمسة أشهر بأنه سيمنحه مهلة 15 يوماً فقط، وإلا سيتدخل لحماية الشعب السوري، وأنه لن يسمح بحماة أخرى. وقد حصل ما هو أفظع من مجازر حماة بكثير في مدينة حمص وغيرها من المدن. إن فشل قرارين لمجلس الأمن لإدانة النظام السوري، بسبب «الفيتو» الروسي الصيني. والمؤتمر الدولي الذي انعقد أخيراً في تونس باسم «أصدقاء الشعب السوري»، الذي كانت قراراته الفارغة من المحتوى سبباً لغضب الأمير سعود الفيصل وانسحابه منه. ثم تلاه تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، التي تعللت بأن سبب رفضها طرح تسليح الشعب السوري، بأن الغرب يخشى من أنه بذلك يسلح القاعدة ومنظمة حماس، ثم تلاه تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بمطالبة الغرب بتخفيف الضغط على النظام السوري، والذي فضح نظرية النظام التي تفيد بأنه دولة ممانعة. كل ذلك أظهر جلياً خيانة المجتمع الدولي للشعب السوري. رؤية المعارضين لعسكرة الثورة تتلخص في أن اللجوء إلى عسكرتها ربما يحمل بعض السلبيات، خصوصاً أن الرأي العام العالمي لا يزال متضامناً مع الثورة السورية السلمية، ولا يلتفت إلى أكاذيب النظام، ولم تنطل عليه اللعبة، بأن المتظاهرين يحملون السلاح ويقتلون رجال الأمن، ويقطعون الطرقات، كما أن قصص السلاح المصادر من المتظاهرين، لا يبدو أنها تمر على المهتمين بالشأن السوري. بما في ذلك تمثيليات جنائز الجنود التي تبث على التلفزيون السوري، إذ يذهب المحللون إلى أن بعضها لعناصر من الجيش والأمن رفضت إطلاق النار على المتظاهرين، أو أنها جثث لجنود النظام الذين يقصفون المدن والقرى ليل نهار، أو الذين يسعون إلى القضاء على عناصر الجيش المنشق. كما أن بعض المعارضين لطرح عسكرة الثورة يخشون بقاء السلاح في أيدي المدنيين بعد سقوط النظام، ما سيؤدي إلى فوضى عارمة، كما حصل في ليبيا بعد سقوط النظام الليبي. إن من أهم أسباب ضرورة عسكرة الثورة السورية إيقاف حرب الإبادة البشرية الجماعية الواسعة التي ينتهجها النظام في كل مدينة، وقرية، وحي، بحجة محاربة الإرهاب. فمشروعية الدفاع عن النفس، باعتبارها حقاً مشروعاً مقدساً، أقرته الأديان السماوية والكتب المقدسة، كما أقرته القوانين الوضعية والمواثيق الوطنية في مختلف دول العالم. إن الثورة الشعبية في سورية تجاوزت فكرة الإصلاح، الأمر الذي يدركه النظام الذي أخذ يهرب إلى الأمام بتعزيز منظومة القمع والقتل، بدليل الدبابات التي أدخلها إلى كل المدن السورية من دون استثناء، ومن الصعب الحديث عن مآلات الثورة الشعبية السورية بعد دخول العامل الدولي على الخط، ولا شك أن التدخل الغربي لا يمكن استبعاده، لكن الشعب السوري لا يزال متردداً في تكرار السيناريو الليبي. لكن تعويل النظام على تحويل الثورة الشعبية إلى تمرد مسلح، ومن ثم إصراره على هذا المسار على نحو غير مقنع للداخل والخارج، مع تصعيد آلة القمع، قد يسهل لعبة التدخل الخارجي، سيما أن أطرافاً في المعارضة السورية في الخارج قد لا تجد في الأمر غضاضة بسبب قناعاتها الخاصة، ومواقفها من النظام. المتابع للشأن السوري يلاحظ أن عدد الضباط والجنود الذين ينشقون يومياً عن الجيش في ازدياد؛ بل إن هؤلاء الضباط والجنود شكلوا ألوية وكتائب مسلحة، وأسسوا لأنفسهم قيادة عمليات على الحدود التركية السورية، وداخل الأراضي السورية. هذا الأمر ربما يدعو إلى التفكير إلى أن التدخل الدولي سيستعين بهذه الكتائب المنشقة في المستقبل القريب، لجعلها تحت مظلة حماية جوية، للدخول إلى الأراضي السورية (رأس حربة) في مواجهة الجيش المؤيد للنظام، للبدء في تحرير الأراضي السورية من سلطة النظام رويداً رويداً، كما حصل في ليبيا. * باحث في الشؤون الإسلامية.