عشرات القتلى والجرحى كانوا يسقطون في سورية بينما كان كات ستيفنز (يوسف) يُنشد ليل السبت–الأحد، للسلام والمحبة والأمل في مجمّع «بيال» في وسط بيروت أمام حوالى 4 آلاف شخص. ملايين الأمهات كن يصلِّين في الأسِرّة، في الملاجئ أو في خيم النازحين، كي يخفظ الله أولادهن من الرصاص والاعتقال والبطش، حين دعا ستيفنز الله وصلّى على الخشبة اللبنانية «كي يكون الشعب العربي بأمان مهما كانت الظروف، لأن هناك كثيراً من الضحايا». لفظ العبارة بنَفس مَلْؤه التقوى والحب والأمل، هو مؤلف الأغاني والمغني البريطاني الذي أسلم عام 1977 بعدما أهداه أخوه الأكبر نسخة من القرآن الكريم بالانكليزية حين كان يرقد في البيت بعد حادث مرّوع كاد يودي به. ثم أدى أغنيته الجديدة المستوحاة من الانتفاضات والثورات: «يا شعبي» (my poeple)، على خلفية صورة عملاقة على الشاشة تظهر علامة النصر، مهدياً إياها الى «كل الاحتجاجات في العالم». كلمات الأغنية البسيطة الداعية الى الحرية وعدم انتهاك الكرامة الانسانية، تأخذك وسط موسيقى الروك الى الصور الحزينة التي بالكاد تصلك عن أهلك وأقربائك وأصدقائك وجيرانك في سورية، فتُشعرك بالأسى، خصوصاً لأنك غير قادر على فعل شيء سوى التعاطف معهم واتخاذ موقف مشرّف قد تعبّر عنه على «فايسبوك» أو «تويتر». تنقلك كلمات الأغنية، مثل: «هم لا يحتاجون سوى الخبز والملابس... قسطاً من الراحة والعيش في سلام... التوقف عن الخوف والخروج من السجن... لا تسرقهم، لا تشهر البنادق بوجههم...»، الى صور العائلات الهاربة من منازلها تحت الرصاص في حي باب عمرو، الى أصوات الأطفال الجائعة في درعا، الى برد المنفيين الى خارج أوطانهم، الى الذين عُصّبت عيونهم في عتمة الزنازين المرعبة. أغنية «يا شعبي» التي قال ستيفنز إنها «عاطفية رائعة مبنية على أحداث الربيع العربي»، وسجّلها على مقربة من المكان الذي سقط فيه جدار برلين الذي كان يفصل بين غرب المدينة وشرقها، والذي كان هدم في بداية التسعينات من القرن العشرين، رمزاً لسقوط الانظمة الشيوعية، قد تكون رسالة ليس فقط الى اصحاب الفساد والظلم والى مطلقي البارود والى الحكم العسكري في مصر وسورية وفي كل مكان، بل ايضاً الى كل مواطن يسعى الى تحسين عيشه لرفع الصوت عالياً في وجه الديكتاتورية. كما يمكن اعتبارها رسالة واضحة الى المتطرّفين الاسلاميين ليحذوا حذو هذا الرجل المسلم الذي اتّخذ من الدين وسيلة للارتقاء بالأخلاق والدعوة الى الحب والمحبة والسلام بلغة الموسيقى، وليس إلى قمع المبدعين والفنانين وكمِّ أفواههم. ففي الوقت الذي يرتاب المواطنون العرب من مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، يأتي ستيفنز ليعطينا صورة عن الإسلام المعتدل، من خلال أغان مثل «قطار السلام» و«الابن والأب» و«منتصف النهار» و«موون شادوو» و«ظل القمر» و«برية العالم» و «طريق مغني» و«في كل مرّة أحلم»، وغيرها من الأغاني التي تجمع قديمه وجديده وتتغنى بالحب والعشق والهيام والحياة والحلم والتأمل والحرية. وفي مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية، استبعد صاحب «كأس أخرى» أن يؤدي الربيع العربي الى صعود التطرف الاسلامي. من هنا، يمكننا اعتبار حفلته في بيروت في هذا الوقت بالذات، رسالة الى كل المسلمين، المعتدلين والمتطرفين منهم، كي يتعمّقوا بدينهم أكثر ويعرفوا أن ليس في الدين إكراه ولا قمع، بل فيه فنّ راقٍ. الروك «الخطابي» ليس سهلاً ستيفنز أبداً. فعلى رغم إبداء سعادته العارمة لوجوده بين جمهوره المخضرم والشاب في آن، بدعوة من «مهرجانات بيت الدين»، لم يكتف بعظته عن فلسفة الحياة، بل عاقب الحاضرين لتأخرهم عن موعد الحفلة على طريقته. ففي منتصف الحفلة، التي دامت تقريباً 90 دقيقة وقسّمت الى قسمين، قرّر أن يأخذ استراحة قائلاً: «سآخذ استراحة قصيرة لأنني في لبنان. لقد تأخرتم في الحضور الى الصالة، وأنا سأرد عليكم بهذه الاستراحة». فجلس الى طاولة صغيرة وارتشف القهوة ثم قال: «إني أتقدم بالسن»، وأردف واعظاً: «في الحياة نوعان من القصص، قصص المغادرة وقصص العودة. الحياة اشبه بطريق، والمهم في هذا الطريق أن يعرف الانسان من أن أين يأتي، وأحياناً عليه أن يتوقف ويُجري تقييماً ليرى هل هو في الاتجاه الصحيح، وهذا ما فعلته أكثر من مرة في حياتي. عندما لا تجري الامور كما يريد الإنسان، عليه ان يتوقف ويفكر أين يريد ان يذهب فعلاً، وأنا محظوظ لكوني حظيت بفرصة القيام بذلك اكثر من مرة». وبعد هذه الكلمات أبدى الجمهور اللبناني امتعاضاً بعض الشيء، لأنه ربما ملّ العظات والخطابات، لكنه استعاد حيويته مع أغنية «مون شادوو» التي أعلن ستيفنز أنها ستدرج ضمن استعراض موسيقي ضخم سيضم معظم أغانيه الشهيرة وأخرى جديدة، وينطلق في حزيران (يونيو) المقبل في أستراليا.