النهايات في أفلام ثيو آنغلوبوليس (مات أول من أمس عن 76 عاما) كانت دائماً مفتوحة، كما كانت نهايات مصيرية في الوقت نفسه. وكان هو واحداً من الذين عرفوا في السينما كيف يربطون المصير المغلق بالنهاية المفتوحة على الأبدية. من هنا لم يكن غريباً أن يحمل واحد من أجمل أفلامه عنوان «نظرة أوليس» ويحمل آخر عنوان «الأبدية ويوم واحد». ولكن، لماذا نستخدم في الحديث عن مؤسس السينما اليونانية الجديدة وأحد كبار الكبار بين فناني أوروبا صيغة «كان»؟ ببساطة لأن سائق دراجة نارية أرعن لا يملك لا نظرة أوليس ولا حس الأبدية المدهش، وضع حداً لحياة كانت الأغنى طوال العقود الأخيرة... لحياة شبه صامتة في تفرسها في الزمان والمكان، لكنها غزيرة الكلام في «حكيها» البصري عنهما. فطوال ثلث قرن تقريباً كانت سينما آنغلوبولس تكاد وحدها أن تكون تاريخ اليونان وتشعّب تضاريسه... نشيده ومأساته... انكساره والمقاومة... الحقيقية أعني. أي تلك التي تقولها لغة السينما وتتلقفها لغة الحياة. أول من أمس، إذاً، انتهت حياة هذا الفنان الكبير الذي لم يمنعه شكله «الصيدلانيّ» من أن يكون في جوهره سينمائياً من النوع النادر... والمقلّ كذلك. ولئن كانت سينما آنغلوبولوس تشكّل الشاهد الأكبر على تاريخ اليونان الحديث، من زمن الحرب إلى زمن المقاومة والدكتاتورية العسكرية والديموقراطية المزيفة (وأفكر هنا بأفلام مثل «اسكندر الكبير» و «رحلة الممثلين» و «أيام 36»، وصولاً إلى «مربي النحل» و «خطوة البجعة المعلقة»، مروراً بثلاثية تاريخ اليونان «اليني» وقبل أن نشاهد أخيره «البحر الآخر»)، فإن البعد الأعمق في شخصيته كما في سينماه كان في تلك النظرة التي حمّلها لشخصياته الأساسية. ولعلّ رمزها الأعمق تمثل في عنوان فيلمه الأشهر «نظرة أوليس»... ينظرها ممثله الرئيسي هارفي كايتل وهو واقف فوق سطح المركب العائد به من رحلة البحث عن أول الأفلام اليونانية... الفيلم الذي كان تحول أسطورة، وعبره كانت مساهمة آنغلوبولوس في مئوية تاريخ السينما، كما عبر عنها مارتشيلو ماستروياني في «القفزة» الأخيرة في «خطوة البجعة المعلقة». ولكن، لأن هذا المخرج الكبير الراحل وهو بعد في عزّ عطائه وعمره، كان الامتزاج لديه كلياً بين حياته وسينماه وتاريخ السينما وتاريخ بلاده، يكاد يكفينا أن نتذكر اليوم منه شخصياً نظرته أثناء تسلّمه «السعفة الذهبية» في مهرجان كان عن رائعته «الأبدية ويوم واحد». يومها حين اعتلى الخشبة ليتلقى الجائزة حدث أن قفز إلى الخشبة نفسها زميله الإيطالي روبرتو بينينيي ليتلقى هو الآخر جائزة النقاد. ولكن، إذ وقف اليوناني جامداً يعبر بنظرته المكان كله والحاضرين جميعاً وتاريخ بلاده بأسره، راح الإيطالي يقفز كالقرد ضاحكاً صاخباً في مشهد استثنائي. كان من الواضح أن المهرج الإيطالي سرق المشهد كله من المبدع اليوناني... غير أن هذا الأخير لم يبالِ بل راح ينظر إلى زميله مبتسماً مثل طفل يدهشه ما يدور حوله، لكنه يكتفي بالتحديق من دون حراك، كأنه أوليس يحدق ويحدق مكثفاً ما يجري، مفكراً كيف يمكنه توظيف ذلك في فيلم مقبل.