يقدم لنا تاريخ السينما أسماء مخرجين مبدعين اتجهوا في أفلامهم نحو فلسفة الحياة؛ ينسجون حولها نظراتهم العميقة التي تتأمل في الموت ومأزق الوجود الإنساني، ومن بين هؤلاء يبرز السويدي إنغمار بيرغمان مع السوفييتي أندريه تاركوفسكي واليوناني ثيو آنغلوبوليس كأكثر من طرق هذه الأفكار وبتركيز شديد في أفلامٍ مؤلمة وثقيلة على النفس، من نوع "الختم السابع"، "المرآة" و"الأبدية ويوم". وقد ارتبطت الجدية والكآبة بهذه الأفلام حتى أصبح مجرد ذكر فكرة الفيلم كافياً لتصور الشكل الذي سيظهر عليه. وإذا كانت هذه هي القاعدة العامة فإن لكل قاعدة استثناء. ويتمثل هذا الاستثناء في فيلم رائع يتناول فكرة الموت وعبث الحياة لكن بأسلوب ناعم ورقيق.. وجميل؛ في تناقض بين الشكل والمضمون، يفتح الباب واسعاً للتأمل في تفاهة الحياة قياساً إلى الموت الذي يحيط بنا من كل جانب. عنوان الفيلم هو (مساء-Evening) وتلعب بطولته النجمة الكبيرة ميريل ستريب إلى جانب غلين كلوز، باتريك ويلسون وكلير دانس. ورغم ما يوحي به اسم الفيلم من شاعرية ونعومة إلا أنه يقدم الحياة عارية عن كل تجميل. فالحياة في هذا الفيلم تظهر تافهة لا تستحق كل جهد يبذل من أجلها لأن الموت هو الحقيقة الكبرى وهو النهاية الأكيدة لكل خططنا وآمالنا. هنا نتابع قصة فتاة جميلة وهي تحضر إلى حفل زواج صديقتها فينشأ بينها وبين العريس الجديد علاقة حبٍ يفشل بسببها الزواج وينتج عنها عداء مطلق بين البطلة والعروس المنحوسة. وخلال يومين، هي فترة حفل الزواج، تتألم الشخصيات وتعاني من الواقع الجديد الذي فرضته علاقة الحب الطارئة. لكن كل هذا لا قيمة له أمام الموت، كل الخطط والمشاريع.. والمؤامرات، كل مشاعر العداء والكره، والتنافس، بين الصديقتين، كل هذا سيتلاشى وكأنه لم يكن عندما يقفز الفيلم بأحداثه إلى خمسين سنة إلى الأمام ليصور الفتاتين الجميلتين وقد بلغتا سن الشيخوخة وترقدان على سرير الاحتضار تنتظران نقطة النهاية، الموت. عند هذه النقطة تظهر تفاهة الحياة وتفاهة كل ما يبذل من أجلها لأن النتيجة واحدة سواء عليك أكافحت أم تكاسلت، أحببت أم كرهت، فأنت في طريقك إلى التلاشي. إنها نتيجة مؤلمة لكنها "الحقيقة" يقدمها الفيلم بأسلوب ناعم وفاتن تظهر فيه الحياة كما لو كانت وردة جميلة تُشع نضارة وتألقاً ثم في لحظة تضمر وتموت وتتلاشى.. وكأن شيئاً لم يكن.