تقترب الصبية الحسناء من المخرج الفلسطيني نصري حجاج بخطوات واثقة، تتلاءم مع شيء من الغضب يعلو وجهها وهي تثبّت نظراتها فيه. كان حجاج قد انتهى من عرض فيلمه «كما قال الشاعر» عن محمود درويش على جمهور مهرجان أضنة، ونال من التصفيق ما أثلج قلبه، وفاجأه. لذلك حين اقتربت الصبية التركية، استعدّ للرد على تحيتها وإعجابها بالفيلم. ولكن، بدلاً من الثناء، ارتسمت علامات الاستياء على وجهها وراحت تحتج على شيء في الفيلم، لم يدرك حجاج ما هو أول الأمر. فهي كانت تتكلم بعجلة وبشيء من الغضب يمنع وصول كلماتها إليه. لكنه سرعان ما فهم. «أين هي دولة كردستان هذه؟»، قالت. وفي سؤالها احتجاج على وجود الشاعر الكردي شيركو بيكوس في أحد مشاهد الفيلم، يقرأ بلغته الأم، مقاطع من قصيدة لدرويش. كان الشاعر الكردي واحداً من شعراء كبار ينتمون الى جنسيات مختلفة يقرأ كل منهم مقاطع مترجمة الى لغته لأشعار درويشية (البرتغالي خوسيه ساراماغو، النيجيري بول سوينكا، الأميركي مايكل بالمر، الفرنسي دومينيك دوفيلبان - عرّفه الفيلم بصفته شاعراً لا رئيس وزراء فرنسا السابق -، والإسرائيلي اسحق لاؤور... بين آخرين). بيد ان احتجاج الصبية انصبّ على الكردي دون سواه. وسرعان ما ذهبت الأسئلة في هذا الاتجاه. «أين صوّرت هذا المقطع؟»، سأله أحد الشبان غامزاً من قناة المخرج بما أن لا وجود لدولة اسمها كردستان في عرفه. «لماذا لا يوجد شاعر تركي في الفيلم؟»، قال شاب ثالث، وكأن في الأمر مؤامرة كردية... أسئلة لم تخطر على بال حجاج الذي بمقدار ما فوجئ بالمضمون فوجئ بكونها صادرة عن شبان يافعين. وسرعان ما وجد نفسه يدافع عن أمر لم يخطر في باله أن يدافع عنه، هو المثقل بقضية شعبه. «صوّرت في السليمانية، شمال العراق»، قال رداً على سؤال الشاب، قبل ان يجد نفسه يبرر ذاك «الإثم» بالقول: «تعمدت استضافة الشاعر الكردي شيركو لأنه ترجم أشعار محمود درويش من العربية إلى الكردية، كما ان محمود درويش كتب قصيدة مشهورة عن الأكراد». جواب بدا غير مقنع للفتاة وزملائها. فهم، على رغم حداثة سنّهم، ينتمون الى أزمان قديمة بعض الشيء... أزمان كان فيها كثر من الأتراك يرفضون الاعتراف بأن للأكراد لغة... بل انهم موجودون أصلاً. بالتالي، بدا واضحاً وكأن هؤلاء، نوطة ناشزة في جو المهرجان السينمائي الذي يحضرونه: فكيف يمكن عقلاً تركياً متحجراً من هذا النوع ان يحتج على وجود شاعر كردي في فيلم، ويقبل بالتالي كل ذلك التكريم الذي خصّ به المهرجان، سينمائي اليونان الأول والأكبر: تيو انجيلوبوليس... ذاك المبدع الذي انصب كل اهتمامه في أفلامه على تاريخ اليونان بالتحديد، ومن يعرف تاريخ اليونان في القرن العشرين يدرك انه ارتبط الى حد بعيد بالعداء مع تركيا. ومع هذا، كان في انتظار انجيلوبوليس احتفالية كبرى في المهرجان. فإضافة الى البرنامج الذي خصّص لعرض مجموعة من أبرز أفلامه («رحلة الى كيثيرا»، «مربي النحل»، «خطوة اللقلق المعلقة»، «تحديقة يوليسيس»، «الأبد ويوم واحد»، «ثلاثية المرج الباكي»، «رماد الوقت»)، كان جمهور أضنة على موعد مع حلقة نقاش مع المخرج اليوناني، فضلاً عن معرض صور للقطات خالدة من أفلامه... بما ان «كل لقطة، من كل مشهد، من أي فيلم حققه، تعبّر عن رؤيته الفنية والفكرية، وتعكس شخصيته الفنية، على نحو يتعذر محوها او إزالتها»، كما يقول الناقد البحريني أمين صالح في كتابه المميز «عالم تيو انجيلوبوليس السينمائي: براءة التحديقة الأولى». «بدعة» عنوانها فلسطين لكنّ تكريم انجيلوبوليس لم يكن «البدعة» الوحيدة هنا. على الأقل في نظرة الفرع الذي تنتمي اليه الصبية ورفاقها من الشعب التركي. ففلسطين بدورها بدت بدعة، على الأقل لفئات كانت منذ زمن بعيد مرتاحة لنسيان القضية الفلسطينية وللعلاقة مع إسرائيل، كمفتاح للعلاقة مع الغرب. فإذا بفلسطين تنصبّ عليها بغتة... ليس في الأخبار السياسية، ولا في أحداث محيّرة (أسطول الحرية)، بل أكثر من هذا، في عالم الفن السينمائي؟ وهكذا، لم يكن غريباً ان يملأ الجمهور التركي صالات عروض الأفلام الفلسطينية («الزمن المتبقي» لإيليا سليمان، «المر والرمان» لنجوى النجار، «مفتوح مغلق» لليانة بدر، «كما قال الشاعر» لنصري حجاج، «مرفأ الذكريات» لكمال الجعفري، «قلبي لا يخفق إلا من أجلها» للبناني محمد سويد، «عيد ميلاد ليلى» لرشيد مشهراوي، «راشيل» لسيمون بيتون، و«عايشين» لنيكولاس فاديموف)... أو ان يصفق الحضور طويلاً بعد انتهاء أحد العروض.... أو ان يقف شاب متحمس بعد عرض أحد الأفلام التسعة الخاصة ببرنامج «فلسطين... توق الى السلام» ليعلن استعداده لأي شيء في سبيل عودة الحق الى أصحابه. ولم يكن التصفيق من نصيب الأفلام الفلسطينية فحسب، إنما كان للأفلام الإسرائيلية حصة أيضاً. ولكن، ليس أية أفلام، إنما تلك التي تعادي الإيديولوجية الصهيونية، ونعني بها «يافا ميكانيكية الليمون» لإيال سيفان، و «لبنان» لصامويل ماعوز. ولا شك في ان اختيار هذين الفيلمين لم يكن صدفة. فالفيلم الأول يفضح زيف الدعاية الصهيونية من خلال سرقة إسرائيل لليمون يافا ليصبح ماركة مسجلة باسم «جافا». وللوصول الى هدفه، يستند المخرج الى أفلام إسرائيلية قديمة ساخراً من البروباغندا التي حاولت إسرائيل تصديرها الى العالم. فالليمون في هذه الأفلام ليمون «جافا» والإسرائيليون بكامل لياقتهم البدنية وإشراقهم أثناء فترات القطاف. كما انهم في الاستراحة لا يفوّتون حلقات الرقص التي تمدهم بالحماسة لمواصلة العمل. أما بناتهم فيرتدين السراويل القصيرة والملابس التي تبدو مواكبة للموضة مقابل بؤس الفتيات الفلسطينيات اللواتي يظهرن دوماً عمالاً عند الإسرائيلي. ومن خلال هذه الحكاية يدنو المخرج الإسرائيلي من كذبة ما عرف بالعودة الى أرض الميعاد. فلا يجد حرجاً بالقول صراحة ان هذه الفكرة صهيونية خالصة، ولا أساس لها من الصحة بما ان اليهود القدامى لم يتركوا ارض فلسطين إلا بخيارهم الشخصي. لو لم تفعل سوى هذا وإذا كان إيال سيفان واضحاً الى هذه الدرجة في انتقاده الصهيونية، فإن مواطنه صامويل ماعوز انطلق من تجربته الخاصة يوم كان جندياً أثناء اجتياح لبنان عام 1982، ليقدم مرافعة ضد الاحتلال. صحيح لم ير بعضهم في هذا الفيلم أكثر من محاولة إسرائيلية للعب دور الضحية... وصحيح أيضاً ان كثراً ما إن يجدوا أنفسهم أمام عمل إسرائيلي - وإن كان مناهضاً للصهيونية - حتى يبدأوا النبش بين السطور بهدف الوصول الى مراد الفيلم الفعلي... لكن ما لا يمكن التغاضي عنه هو ان هذا الفيلم يفصل بين دولة إسرائيل التي يصوّرها كدولة مغتصبة للأراضي اللبنانية، وبين الجنود الإسرائيليين الذين وجد بعضهم نفسه في حرب ليست حربه. ولم يخش المخرج تصوير لحظات ضعف أو جبن الإسرائيليين الأربعة القابعين في الدبابة حيث تدور كل حوادث الفيلم من منظارها. كما لم يخش تصوير حلمهم بترك كل شيء وراءهم والعودة الى احضان أمهاتهم. واضح هنا اننا نكاد نجد أنفسنا أمام نوع من السينما جديد: سينما مغايرة لسينما التبرير أو التعاطف السياسي والأيديولوجي المسبق مع قضية انسانية. كذلك سينما لا شأن لها بالرد على سينما القبضات المرفوعة التي عهدناها في فترة سابقة من بدايات السينما الفلسطينية. انها مجرد سينما تقول تجربة وتفضح ممارسات وتكاد تبدو في نهاية الأمر متأثرة بأنواع جديدة من السينما الفلسطينية التي برزت في السنوات الأخيرة باحثة عن الإنسان وراء القضايا ومقدّمة الإسرائيلي إنساناً يخطئ، ويعتذر عن أخطائه. أو هذا على الأقل ما وصل الى الجمهور التركي الذي شاهد هذه الأفلام كما شاهد الأفلام الفلسطينية المقابلة وبدا عليه وكأنه كان منذ زمن في انتظار خطاب من هذا النوع ملاحظاً كيف ان السينما، وعلى غير توقّع، بدأت ترسم للمنطقة وإنسانه صورة لم تخطر أبداً في البال. وهذا ما دفع ناقداً الى القول: لو لم تفعل السينما سوى هذا لاستحقت ان تعتبر من أشرف الفنون!