حين توصف ثورة بأنها «نصف ثورة» ويندرج تحت هذا التوصيف عنوان فيلم المخرجين عمر شرقاوي وكريم الحكيم، فهناك ما يستدعي تتبع النصف الآخر. بينما يندرج فيلم التونسي مراد بن الشيخ تحت عبارة صريحة ومباشرة «لا خوف بعد اليوم»، متخذاً من الديكتاتور سبباً وحيداً لهذا الخوف الذي سقط واندثر مع سقوطه. فيلمان وثائقيان جديدان يجولان بين المهرجانات، يوثقان للربيع العربي في مصر وتونس. والقول إن هناك المزيد بانتظارنا يأتي من حقيقة أن المادة المصورة لهاتين الثورتين لا يمكن حصرها، فالكاميرا مترافقة مع الفعل، حيث المتظاهر يتظاهر ويصوّر، لا بل إن القتل يأتينا في بث حي ومباشر، والمادة الفيلمية تحولت إلى «منشور سياسي» تكفي «لايك» واحدة على مواقع التفاعل الاجتماعي لأن تنقله إلى مئات المشاهدين، وبما يتخطى ما حلم به غودار حين قال: «يجب صنع الأفلام جماعة وحول فكرة سياسية، على غرار الفروض المدرسية التي يتشارك الطلاب في حلّها... يجب صنع الأفلام بالتشارك مع الذين يشاهدونها.» وهكذا، فإن على الأفلام الوثائقية، وتحديداً التي تناولت وتتناول الربيع العربي، أن تبحث عن اشكال جديدة تتخطى تجميع مادة أرشيفية خاصة أو غير خاصة، لا تضيف شيئاً للمشاهد، طالما أن الحدث طازج وحيوي وماثل بيننا وقد تمت متابعته بحذافيره وهناك معطيات جديدة على الأرض، هذا ما لم نمض خلف الحقيقة التي تصرخ بنا بأن الثورة، أي ثورة، في حاجة إلى فن ثوري وأدوات تعبيرية تتسق والتغيير، هذا إن كانت التطلعات تقدمية. الخروج من الريبورتاج فيلم «نصف ثورة» وفي سياق متصل مع ما تقدَّم، هو أولى المحاولات للخروج من بنية «الريبورتاج» التي تأسست عليها أفلام تناولت الثورة المصرية، لا بل إن فيلم عمر شرقاوي وكريم الحكيم يدفعنا وقبل مشاهدته إلى سؤال أولي: هل كانت ثورة أم نصف ثورة؟ وليكون هذا السؤال مشروعاً وحاضراً بقوة مع ما نعيشه يومياً مع مآلات ثورات الربيع العربي، وفتح الباب على مصراعيه أمام صراعات جديدة مع كل خطوة أتت بعد إسقاط رأس النظام. فيلم شرقاوي والحكيم يقدم وثيقة خاصة عن الثورة المصرية، و كونه يقدم لنا نصف الثورة يضعه أيضاً في سياق مقولة في هذا الخصوص، لكن مع المضي مع هذا الفيلم فإننا سنضع كل ما تقدم جانباً، ونمضي مع إيقاع الفيلم الذي سيكون في ملمح من ملامحه مصاغاً على شيء من الدرامية والتي ستنقل إلى المشاهد مشاعر شهود الأحداث التي شهدتها القاهرة مع 25 يناير، إيقاع عال جداً كما هو فيلم الشرقاوي السابق «أبي من حيفا»، كما أن الكاميرا ستكون كاميرات في فيلم شرقاوي والحكيم، فما نشاهده سيكون في أحيان كثيرة مأخوذاً من زوايا متعددة، ومسار اللقطات سيكون تصاعدياً بالتناغم مع تصاعد الأحداث، وتقطيع المشاهد واللقطات مصاغاً بحيث لا يتيح للمشاهد التقاط أنفاسه. يخضع فيلم «نصف ثورة» لبداية ووسط ونهاية، ويبدأ بالتعريف أولاً بشخصيات الفيلم، ومن هذه الشخصيات عمر شرقاوي نفسه «فلسطيني ولد في الدانمارك يعيش في مصر منذ أربع سنوات» وكريم الحكيم «مصري أميركي يعيش في مصر منذ عشر سنوات» وصولاً إلى سماهر وفيليب وإسلام ورشا، الذين نتعرف عليهم مع بداية الفيلم، ولنمضي معهم أيضاً في كل ما يعايشونه من أحداث حولهم، إضافة لوجودهم مع المتظاهرين في الشوارع، وهنا تمضي الكاميرات التي بين يدي عمر وكريم وآخرين ترصد لنا الكثير من اللقطات الخاصة التي تضيف الكثير، ملتقطة لحظات فريدة، بما فيها تعرض عمر وكريم للضرب على أيدي رجال أمن الدولة، الأمر الذي سنكون شهوداً عليه حين عبور عمر من زقاق والكيفية التي تقطع فيها الصورة. هناك لقطة أخرى في الفيلم تؤخذ من شباك البيت لكن سرعان ما يجري إطلاق النار باتجاهها، وفي هذه اللحظة ستكون كاميرا من المبنى المقابل قد التقطت ذلك لترينا الزجاج مكسوراً. فيلم «نصف ثورة» وثيقة خاصة تمزج الشخصي بالعام، وتلتقط نبض الشارع ومشاعر المتظاهرين والثوار، لكنه وفي الوقت نفسه يجعل ممن هم خلف الكاميرا أمامها، والعكس صحيح، فالفعل السينمائي في الفيلم ليس إلا فعلاً نضالياً أيضاً، والكاميرا لن تكون حيادية حيال ما تلتقطه، بل هي موجودة بيد من قرروا المشاركة في الثورة. وهكذا، فإننا نعيش مع طاقم عمل الفيلم مشاعرهم، فرحهم وحماسهم، إحباطهم ويأسهم، ولتكون البداية انخراطاً كاملاً في أحداث الثورة وتعقباً للمتظاهرين أينما وجدوا والكاميرا تتولى قول الكثير مما نشاهد ونسمع، إلى أن نصل الوسط وقد تشابكت خيوط درامية إضافية مع نزول البلطجية والمؤيدين لنظام مبارك، ومن ثم تصاعد الإحساس بالخطر الذي يحيط بهم، مع استشراء العداء لغير المصريين، إلى أن تكون النهاية مع قرار كريم السفر وعائلته وكذلك عمر قبل نهاية الثورة وذلك في 3 فبراير، ولهذا عنون الفيلم ب «نصف الثورة»، لكن مهلاً، ليس هذا فقط هو السبب، بل ما يظهر على الشاشة في النهاية يؤكد في الوقت نفسه أن ما انجز هو جزء مما يجب إنجازه لإسقاط كامل النظام، وللتعليق على هذه الخاتمة ليس لنا إلا الاستعانة بالشعار المرفوع في ميدان التحرير «الثورة مستمرة». من الكولاج وإليه بالانتقال إلى فيلم مراد بن الشيخ «لا خوف بعد اليوم»، فإن زاوية مقاربة الفيلم للثورة التونسية ستكون يسارية خالصة، إنه فيلم يبدأ من الكولاج وينتهي به، وهناك من يعمل على قصاصات من الصحف ويقوم بإلصاقها على لوح، صور لزين العابدين بن علي، صور متظاهرين وعبارات شكلت ومازالت شرارة الثورات العربية، والفيلم يمضي في تقديم وثيقة لهذه الثورة الأم. ربما نكون قد التهمنا بعيوننا الأحداث التي شهدتها تونس، ويمكن أن نتذكر جيداً كيف «علّم» شباب تونس العالم العربي «ثقافة النزول إلى الشارع» كما سيصرخ أحدهم في الفيلم، أو لنا أن نستعيد مباشرة مشهد نزع كلمة «التجمع» من مبنى «التجمع الدستوري الديموقراطي» لكن لن نعرف أن شابة هناك كانت تصور ذلك ستلتقي أمها، وليكون في ذلك مثال على الخط التوثيقي الأول للفيلم، وليكون الثاني قادماً من خلال شهادات شخصيات تونسية استثنائية بحق، والتي ستتناوب على سرد حيواتها وما عانته في ظل نظام بن علي، إضافة لتوثيق نضالاتها ما قبل وما بعد الثورة. من بين من سنتعرف عليهم امرأة استثنائية هي راضية نصراوي المحامية والمدافعة عن حقوق الإنسان، والتي لا حاجة لنا هنا لإضاءة ما قدمته هذه المرأة من نضالات بقدر ما سيستوقفنا على سبيل المثال حديثها عن أن من ترافعت عنهم من المعتقلين الإسلاميين يتساءلون عما «إذا كانت ستدخل الجنة أم النار» هي اليسارية المعروفة، وإلى جانبها زوجها المعتقل في أيام بن علي وهو يخرج من سجن ليدخل آخر، إضافة لتعقب شهادات المدونة لينا بن مهني والحرص - الذي يدفع للتندر - على حقوق المرأة التونسية بعد الثورة بينما النساء التونسيات هن من كن الأكثر حضوراً وفاعلية. فيلم «لا خوف بعد اليوم» يجد في هذه العبارة العتبة التي انتصر فيها الشعب التونسي لقيمه الوطنية والإنسانية، إنه فيلم يستكمل الكولاج الذي بدأ به ذلك الشخص الذي لا يظهر منه إلى صوته وهو يقول «إنها ثورات شهادات وليست ثورة خبز أو ثورة ياسمين»، ولينتهي الفيلم بإهداء يقول «إلى كل الذين ناضلوا طويلاً ولم يشهدوا هذا اليوم»، عبارة تعيدنا مجدداً إلى المحامية راضية وهي تتذكر باكية أصدقاءها الذين ماتوا ولم يشهدوا سقوط الديكتاتور.