تدافع الشباب إلى داخل القاعة حتى امتلأت مقاعدها، جاؤوا من الميدان وسيعودون إليه، جاؤوا لمشاهدة فيلم وثائقي عن أحداث الثورة، فيلم من دون نجوم وخالٍ من الهزل والرقص والمشاهد الساخنة، لثلاثة من المخرجين الشبان، تظاهروا معهم واعتصموا معهم وتلقوا معهم ضربات قوات الأمن ومع الضوء الساقط من شباك العرض رأيتهم متراصين إلى جانب الحائط وغيرهم يجلسون متلاصقين على الدرج وهناك نتساءل بالمناسبة: أين تكمن أزمة السينما؟ تم اختيار فيلم «التحرير 2011» من بين عدد كبير من الأفلام الوثائقية التي أفزرتها الثورة للعرض ضمن برنامج خاص عن ثورات الشعوب شمل 9 أفلام من فرنسا وألمانيا وأيضاً البرتغال ذلك في إطار بانوراما الفيلم الأوروبي في القاهرة، والتي تنظمها شركة مصر العالمية للسنة الرابعة، بإشراف ماريان خوري ورعاية عدد من السفارات الأوروبية والمراكز الثقافية. الطيب يتكون فيلم «التحرير 2011» (90 ق) من ثلاثة أجزاء بعنوان «الطيب والشرس والسياسي» وهي من إخراج تامر عزت وأيتن أمين وعمرو سلامة ومن إنتاج محمد حفظي. عن الفيلم التجربة والمغامرة تحدث المخرجون قبل العرض. كان الواقع زاخراً بالأحداث المتلاحقة وكان على كل منهم أن يتخيّر فكرة تحدد اتجاهاً وعلى كل منهم أن يكشف ما حدث بالتفصيل. أما عن تنسيق العمل فقد كانوا يلتقون في اجتماعات دورية لتبادل الأفكار وكان على المنتج المايسترو التنسيق بين وجهات النظر المتباينة، أولها عن المتظاهرين وثانيها عن الذراع الأمنية القومية، وآخرها عن الرئيس المخلوع، لتتضافر كلها في وحدة متوازنة وفي اعتقادي أنه بقي لكل جزء مذاقه واستقلاليته تربط بينهم وحدة الموقع ووحدة الحدث والظرف التاريخي وأيضاً حماسة المخرجين الشبان. استهل مخرج هذا الجزء فيلمه بفقرة تقول: «بعد سنوات من القهر والخوف والفساد عاشها الشعب المصري في ظل حكم مبارك». وبذلك يحدد المخرج دوافع الثورة ثم ينقلنا صوت المعلّق إلى الأحداث الملتهبة في الميدان بمقولة نصها: «إن الشعب اتخذ قراراً بكسر حاجز الخوف والظلم والقهر» وذلك هو موضوع الفيلم. على مدار ال18 يوماً من قيام الثورة إلى يوم خلع الرئيس جالت كاميرا تامر عزت في الميدان من دون هوادة، توثّق لقطات نادرة لحشود المتظاهرين يرفعون الرايات ويحملون اللافتات. يسجل المخرج هتافاتهم «عيش، حرية، عدالة اجتماعية – سلمية سلمية – الشعب يريد إسقاط النظام – الشعب والجيش إيد واحدة». خلال السياق عُني المخرج بتوثيق نقاط مهمة أُولاها الإجماع الشعبي، ثانيتها تطور الصدام بين المتظاهرين وقوات الأمن بداية من التصدي لهم بمدافع المياه، ثم مؤامرة انسحاب الأمن ومهاجمة أذناب النظام المتظاهرين العزل على ظهور الخيل والجمال تلاه إطلاق الغازات المسيلة للدموع ثم المواجهة بالهراوات والرصاص الحي وسقوط الشهداء. أما النقطة الثالثة فهي الاقتراب من شخصيات فاعلة في تأسيس دولة الميدان منها الطبيبة المحجبة التي تعرض لها المستشفى الميداني والذي أدى دوره بإمكانات فقيرة وكان المصابون بمجرد إسعافهم يسرعون لأخذ مواقعهم في الميدان. كما عُني المخرج برصد مشاركة النشاط الفني في العمل الثوري فسجل ملامح من معرض صور الثورة وسجل مسامع من الفرق الغنائية في الميدان. لم يخلُ السياق من لقطات باسمة منها الاحتفال بعقد قران عروسين من المعتصمين إضافة للحلّاق البسيط الذي أبى ألا أن يشارك في الثورة بالتطوع للحلاقة بالمجان للمتظاهرين. وتتلاحق المشاهد في نسق حيوي بفضل خبرة المخرج بعين المونتاج لتنتهي بمشهد الفرحة الكبرى بخلع الرئيس. إلا أن المخرج يبقى يقظاً والفيلم يبقى حذراً، ويختتم الفصل الأول، وهو في تقديري أكثر الفصول نضجاً واكتمالاً بفقرة تقول: «بعد 6 أشهر بدأت محاكمة الرئيس المخلوع! وما زالت الثورة مستمرة طالما أن أهدافها لم تتحقق بعد». الشرس رأت المخرجة الشابة أيتن أمين أن تتحدى التيار بالتركيز على فئة قد يكون من غير المرغوب قبول خطابها لدى غالبية فئات الشعب. رأت المخرجة أن تتيح الفرصة للذراع الأمنية «حامية حمى النظام» أن تواجه الكاميرا وتتحدث إلى المشاهدين، ولكنها واجهت رفضاً من الضباط للإدلاء بتصريحات فانتهى الأمر بأنها حصلت على شهادات لأربع ضباط فقط أحدهم ذو رتبة كبيرة طلب التعتيم على ملامحه وآخر خرج من الخدمة مبكراً بعدما لاقاه من زيف وتناقض بين الإجراءات والتصريحات في الجهاز. عُنيت المخرجة بصوغ الفيلم عبر التنقّل بين شهادات الضباط ورد الفعل على المتظاهرين في الميدان. فتحدث الضابط الشاب قائلاً إنه تلقى الأوامر للخروج في مهمة ذات هدف محدد قد تكون مواجهة احتجاجات أو اعتصامات على رأس قوة من ألف عسكري لمواجهة حشد من مئة ألف مواطن. وكان واضحاً أن المهمة قد تمتدّ لعشر ساعات. وأكد الضابط «بالطبع لا يشعر الإنسان في داخله بالرضى». ثم يقول الضابط الكبير إنه تلقى الأوامر بتغيير التسليح إلى الغاز المسيل للدموع في 24/ 2 وتنسج المخرجة الفيلم بمشهد غمر المصلين برشاش المياه ثم انتشار الغاز في الجو ليحجب الرؤية ويصيب المواطنين بالاختناق. وفي يوم 28/ 2 تدافعت أمواج كبيرة من الثوار إلى الميدان تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام». وجاءت التعليمات بالتصدي لهم وتتطلب الأمر إطلاق الرصاص ما نتج عنه جفوة بين الشرطة والشعب. وتختتم المخرجة فيلمها بسؤالين لتفوز بإجابات طالما بحث عنها الثوار من دون جدوى، سؤال عن الإدارة التي يتبعها القناصة، وآخر عمن أصدر الأوامر بانسحاب الأمن من المواقع والسجون والأقسام يوم 28/ 1، فكانت إجابة الضابط الكبير أن القناصة يتبعون الأمن المركزي وإدارة مكافحة الإرهاب. أما عن أمر الانسحاب فقد تم بأوامر من جهات عليا ومن الغريب أن وزراء الداخلية قد أنكروا تماماً وجود القناصة في جهاز الشرطة، وفي الختام يؤكد الضابط أن جهاز الشرطة يعيش من أجل أسمى رسالة وهي حماية الشعب! في هذا السياق هناك سؤال يراودني عن مدى اقتناع المخرجة بتلك التصريحات. وفي اختتام العرض طلبت المخرجة أن توجه كلمة للمشاهدين مفادها أنها بدأت التصوير في أواخر شباط (فبراير) وكانت في حالة من الفرحة والانتشاء بالنصر ولديها إحساس بالتسامح فكل ثورة لها ضحاياها ولكنها حالياً ومع تتابع الأحداث نرى الواقع بعين أخرى فالنظام باقٍ وهم أيضاً باقون في الميدان. السياسي تحدث المخرج عمرو سلامة إلى جمهور المشاهدين قبل العرض، فقال إنه كان لديه هاجس أن يأتي إلى الرئاسة ديكتاتور آخر ليحل محل الديكتاتور المخلوع. فرأى أن يعرف الشعب من هو الديكتاتور ويطلعه على الممارسات التي تحول الشخص الطبيعي إلى طاغية، وذلك في معالجة كوميدية تفجر الضحك من التناقض في ما أعلنه الرئيس المخلوع قولاً وبين ما آلت إليه الأمور فعلاً، إضافة إلى توضيح الدور الذي لعبه رموز النظام في تثبيت صورة الديكتاتور. في مستهل الفيلم يعرض المخرج مقطعاً من أقوال الرئيس الدالة على نزاهته وإخلاصه لوطنه كما مقولته «الكفن ملوش جيوب». وفي موضع آخر من الفيلم يعرض مقولته ضد التوريث وهي «جمال ملوش في السياسة» وهي التي تطورت في موضع آخر إلى «ابني بيساعدني زي أي ابن يساعد أبوه». يلتقي المخرج خلال الفيلم 14 شخصية عامة اقتربت من الرئيس المخلوع وعاصرت حكمه فأشاروا إلى أساليب تكثيف الدعاية حول الرئيس بتعليق صوره في كل مكان وإطلاق اسمه على المنشآت من طرق ومدارس ومستشفيات. والعمل بالوسائل كافة على تخريب إرادة الشعب وهدم كرامة الإنسان وإفساد ذوق الجماهير بتشجيع تيار الأغاني السوقية والأفلام الهابطة، إلى جانب توظيف كل من الصحافة والإعلام للترويج لرأي السلطة الحاكمة ونفاقها. إضافة إلى فكرة خلق العدو الوهمي كما الإرهاب والأصابع الخارجية، الصهيونية والعدو الإيراني كل ذلك يمثل الفزاعة التي تبقي الشعب في حالة خوف واحتياج دائم إلى حماية الديكتاتور. ويجب ألا نغفل هنا عن سياسة الخداع وإنكار الحقائق وتزوير إرادة الشعب وأيضاً تزوير الصور وتزييف التاريخ أما هيمنة أمن الدولة فحدّث ولا حرج. وفي الختام يفجر الفيلم الضحكات في الصالة خلال مقولة للرئيس المخلوع هي: «كنت شاباً تعلمت شرف العسكرية عشت الانكسار والعبور والنصر ولم أسع للسلطة». وهنا تعلو أغنية الشيخ إمام «الجدع جدع والجبان جبان» على حشود المتظاهرين تهلل وتكبر بعد إعلان خلع الرئيس. في تقديري أن فيلم «التحرير 2011» وغيره من أفلام الثورة يتطلب نظاماً تسويقياً مختلفاً يضمن عرضها على جموع الشعب والشباب في المدارس والجامعات والمراكز الثقافية في الداخل والخارج.