كعادتها منذ شهور في المهرجانات السينمائية العربية وغيرها، حضرت مصر اخيراً في مهرجان دبيّ. هي كانت حاضرة من خلال فيلم روائي واحد هو «واحد صحيح» ولكنها حضرت في شكل اقوى بخاصة من خلال خمسة أفلام وثائقية هي: «مولود في 25 يناير» لأحمد رشوان، و «نصف ثورة» للمخرجين عمر الشرقاوي وكريم الحكيم، و «ميدان التحرير» للمخرج الفرنسي ستيفانو سافونا، و «ستو زاد» لهبة يسري، وأخيراً الشريط الكندي «في الليل يرقصن» للمخرجة إيزابيل لافين وشريكها ستيفان تيبلو... إلى جانب ثلاثة أفلام روائية قصيرة هي «زفير» لعمر الزهيري والذي حصل على شهادة تقدير، و «بحري» لأحمد غنيمي، و «أحد سكان المدينة» لأدهم الشريف وهو طالب في معهد السينما، و «حدوتة من صاج» لعايدة الكاشف. بقدر ما جاء الموضوع والمستوى الفني لفيلم «واحد صحيح» متوسط القيمة بقدر ما يُعَدُّ حالة مغايرة لما تعودنا أن نراه في أفلام المنتج محمد السبكي، وذلك لسببين، أن الشريط السينمائي كتب له السيناريو تامر حبيب، وهو أول إخراج روائي طويل لهادي الباجوري بعد سلسلة طويلة من اعمال الفيديو كليب. يطرح الفيلم جانباً من حياة الطبقة الراقية في مصر، التي تعاني من مشاكلها الخاصة مع الحب، والبحث الدائم عن شريك الحياة، حتى لو كان هذا من خلال الشذوذ الجنسي بما يتبعه من مسكنات كالخيانة أو تعاطي المخدرات. في الأساس يتناول الفيلم العلاقات الملتبسة بين الرجال والنساء، التي تُلخصها كلمات حسين السيد، وغناء محمد عبدالوهاب «بفكر في اللي ناسيني وبنسى اللي فاكرني، وبهرب من اللي شاريني وأدور ع اللي بايعني... اهجر حبايبي وخلاني وانسى قلوب عايشة عشاني». فكرة إنسانية فكرة السيناريو يُمكن ألاَّ تكون حكراً على الطبقة الراقية فقط، إنها فكرة عالمية بسبب إنسانيتها، لكن ما يصنع منها تلك العالمية هو المعالجة، وهو ما لم ينجح فيه تامر حبيب. على رغم أن الفيلم فيه كثير من المشاعر الصادقة التي تنطق بها الشخصيات على تنوعها واختلافها، لكنه كان صدقاً جزئياً لم ينجح في صنع فيلم جيد أو صادق كلياً، لأن أسلوب وطريقة نسج الخيوط والشخصيات معاً جاءت اصطناعية حيناً، كما شكل اختفاء وغياب الخلفية المجتمعية طوال الأحداث أحد عيوب الفيلم. بالإضافة إلى طول بعض المشاهد وعدم القدرة على ضبط الإيقاع أثناء المونولوغ، فعلى رغم أهميته والحميمية التي أضفاها على عدد من المشاهد لكنه جاء طويلاً في البعض الآخر. كذلك الإفراط في استخدام الألفاظ الجارحة في شكل مبالغ فيه بحيث أفقدته الصدقية وهبطت به إلى مستوى الأفلام التجارية. مأزق وثائقيات الثورة كانت الثورة المصرية محط أنظار العالم بقنواته ومراسليه. متابعات تحليلية وتقارير يومية، أفلام كثيرة صُنع بعضها على عجل قبل أن تكتمل الثورة، وما لم تستطع كاميرات المحترفين أن تلتقطه وثّقته كاميرات الهواة والموبايل وتم توزيعه من خلال اليوتيوب على صفحات التواصل الاجتماعي «الفايسبوك» و «تويتر». إذاً، أن تصنع فيلماً جديداً مختلفاً عن الثورة في ظل تلك الظروف هو أمر ليس فقط شائك وبالغ الصعوبة، بل مغامرة ومقامرة غير مضمونة العواقب. لأن كل الصور واللقطات تقريباً ستكون واحدة حتى وإن اختلفت زوايا التصوير، ونادراً ما سترى لقطة جديدة. الجديد الوحيد ربما يكون في المعالجة وأسلوب الطرح. في فيلم «مولود في 25 يناير» قد يبدو أن ليس ثمة من جديد تقريباً، معه يُمكن استعادة كثير من تفاصيل ومراحل الثورة المصرية بما صاحبها من مشاعر الخوف والارتباك والقلق والأمل والغضب، وما لازمها من تفجر الإبداع وروح السخرية، وحتى الإشاعات على اختلاف واتساع نطاقها، وحالات اليأس والإحساس باللاجدوى في بعض اللحظات. يحكي أحمد رشوان كل هذا من خلال تجربته الشخصية، فنراه جالساً فى منزله يواصل النضال الإلكتروني أو يشحن بطاريات الكاميرا أو يُفرغ الهارديسك أو يرقد يائساً مستسلماً أحياناً. نراه تارة أخرى في نقابة الممثلين، أو في ميدان التحرير أو في المقهى، أو في السيارة بصحبة أصدقائه ليلاً يمر على عشرات اللجان الشعبية كاشفاً تناقضات أفراد الشعب في تلك المرحلة. فيلم «رشوان» عمل وثائقي جيد مصنوع بلغة سينمائية رصينة، وطوال لقطاته ومشاهده يبدو جلياً دور المونتيرة نادية حسن فيه. الصورة في الشريط الوثائقي هي الأساس، مع ذلك لا يُمكن إغفال شريط الصوت الذي يلعب دوراً بالغ القوة بتوظيفه المُتقن للموسيقى وهتافات الحشود، وغنائهم الحماسي، واعترافات بعضهم الجريئة. ما يُؤخذ عليه هو طول بعض خُطب الرئيس السابق حسني مبارك، وبعض اللقطات التي أُخذت لمخرجه وهو يتحدث مع أصدقائه تليفونياً لأنها زائدة وما أعقبها من لقطات ومشاهد يُغني عن وجودها. أهمية فيلم أحمد رشوان تنبع من كونه توثيقاً لحالة البلد ومشاعر الناس في تلك الأيام الحُبلى بالمشاهد الأسطورية التي هزت العالم والتي شارك فيها مخرج الفيلم نفسه، كما أن نهايته ترصد تداعيات ما بعد تنحي مبارك، والمخاوف من صعود الإسلاميين، في مقابل مناداة البعض بدولة مدنية، والتساؤلات المُربكة حول المجلس العسكرى ودوره. نصف ثورة في المقابل قرر عمر الشرقاوي وكريم الحكيم أن يكون عنوان فيلمهما «نصف ثورة» لأنهما لم يستكملا تصوير مشاهد الثورة المصرية حتى لحظة التنحي، حيث تعرضا للكثير من مضايقات الأمن وتم القبض عليهما، ما اضطرهما للهرب مع الأسرة بعد إطلاق سراحهما لأنهما غير مصريين. يرصد «نصف ثورة» تجربة المخرجين ومشاركتهما في ما يجري من حولهما من أحداث فى الشارع المصرى أثناء الأيام الأولى من الثورة وحتى 4 شباط (فبراير). يسجلان المناقشات التى كانت تدور فى منزلهما حول تطورات الأوضاع، مخاوف العائلة والأصدقاء من دول مختلفة. المفاجأة في هذا الفيلم هي وجود لقطة استوقفت الكثير من الحضور وتساءلوا حولها، هي لسيارة جيب تابعة للجيش تدهس متظاهرين مساء جمعة الغضب. ميدان التحرير كان يُمكن فيلم «ميدان التحرير» للمخرج ستيفانو سافونا (93 ق)، أن يكون أفضل الأفلام الثلاثة عن الثورة المصرية. يتناول «ستيفانو» الثورة المصرية من منظور ثلاثة أشخاص – شباب ونساء - من داخل ميدان التحرير، فنتعرف إلى المحن التي خاضها هؤلاء من الذين ظهروا من العدم أثناء مسيرتهم نحو الحرية. بواسطتهم تدور الكاميرا وتتحرك بحرية فترصد النقاشات والجدل بين المشاركين من العامة والبسطاء، ومتوسطي الثقافة وذوي التعليم العالي. تكشف التناقض، الخلاف والاختلاف في الرأي الذي كان يدب بين الثوار، وعدم قدرتهم على تكوين جبهة واحدة تتصدى لأصحاب السلطة، تجعلنا نُدرك أن الانشقاق جاء من الداخل. يختتم الفيلم بلقطة تُوثق لفتاة تصرخ رافضة فض الاعتصام أو التحرك من ميدان التحرير في أعقاب التنحي لأن «لا شيء تحقق فعلياً». كانت تصرخ مطالبة الجميع بالبقاء حتى يضمنوا تحقيق مطالب الثوار، تلك الصرخة التي أثبتت الأيام صوابها. مشكلة الفيلم الأساسية هي الإيقاع الذي جاء مترهلاً في كثير من مشاهده والذي يحتاج إلى حذف نصف ساعة منه على الأقل حتى يحتفظ بإيقاع قوي. في الليل يرقصن يركّز الفيلم الكندي «في الليل يرقصن» على كواليس حياة بعض الراقصات المصريات، ويُركز خاصة على رضا إبراهيم التي ورثت الرقص عن جداتها ولديها ثلاث بنات يحترفن الرقص يستعرض الفيلم حياة كل واحدة منهن. أجمل ما في الفيلم مستواه الفني، وتلقائية أشخاصه في الحكي، وقدرة مخرجيه على تصوير عالمهم كما هو من دون تزييف من خلال التعرض لأدق تفاصيل حياة هؤلاء الراقصات وكشف معاناتهن الإنسانية في ظل مجتمع مملوء بالفساد على كل المستويات. أما فيلم «ستو زاد» الذي يتناول علاقة مخرجته هبة يسري بجدتها المطربة شهرزاد - من خمسينات القرن الماضي - فجاء ضعيفاً فنياً على رغم أهمية زاوية الطرح، حيث تحاول المخرجة الشابة البحث عن نفسها وتحديد هويتها من خلال ملامح جدتها، لكنها لم تنجح في تحقيق ذلك في شكل فني جيد.