العلاقة بين الفلسفة وبين السينما علاقة بين مجالين، أولهما نخبويّ، والآخر موغل في شعبيته. لم تكن الفنون بمنأى عن مشارط الفلسفة التي تختبر الفنون عبر استفزازها للمفاهيم المستخدمة داخل المجال الفني، سواء كان الفن تشكيلياً أو موسيقياً أو سينمائياً، الفلسفة لا تتدخل بتوجيه السينما وإنما تحاول أن تختبر مفاهيمها عبرها. يشكل البطل أحياناً مفهوماً فلسفياً، كما جسّده نيكوس كازانتزاكس بروايته «زوربا» الحيوية التي أرادها أستاذه برغسون، ومن ثمّ لتتحول الرواية إلى فيلمٍ يمثّل دور زوربا فيه «أنطوني كوين» عام 1964. الفلسفة تختبر أفكارها عبر التجسيد البصري أحياناً للظاهرة أو المفهوم. بعض الأفلام غارقة بمفاهيم فلسفية وجودية، وأحياناً عدمية، وصولاً إلى مناقشتها لمفاهيم السعادة، أو الاقتصاد، بل وفحصها لمسائل اقتصادية وسياسية، لكن بطريقةٍ غير مباشرة وغير علمية، إذ السينما ليست مجالاً معرفياً بل مجرد فضاء فني قد تأتي الرسالة عرضيةً من دون تخطيط أو تدبير. والعلاقة بين السينما والفلسفة هي جزء من علاقة السينما بالإنسان، لأن الفلسفة مع «كانط» - كما يؤرخ فوكو - دخلت إلى مناقشة الإنسان وعلاقاته بالأشياء وصلته بالواقع وكل ما يدور في فلكه. لم تعد الفلسفات المعنيّة ب «الميتافيزيقيا» هي المهيمنة الأساسية على المواضيع الفلسفية، بل جاء الإنسان بحمولته الذاتية ليكون موضوعاً لها. الشخصيات السينمائية تحمل في جوفها المضامين الفلسفية، وهذا هو جوهر الارتباط والتأثير المتبادل بين الفلسفة والسينما. نشرت وسائل الإعلام قبل أيام جدلاً في المغرب، بسبب تولي المفكر والفيلسوف الفرنسي الشهير إدغار موران رئاسة لجنة تحكيم الفيلم الطويل في الدورة 13 من المهرجان الوطني للفيلم، البعض عارض هذا التداخل، أن يحكّم أحد أهم الفلاسفة المعاصرين الأفلام السينمائية ضمن لجنة تحكيم. لكن إذا أخذنا المجال الذي تتحرك فيه أبحاث موران والمرتبطة ب «بحث العلاقة بين نتائج علم البيولوجيا وانعكاساتها على تصور الإنسان لذاته ومجتمعه وموقعه داخل هذا الكون»، تتبدد وجوه الغرابة، ثم إن التحكيم لن يكون سينمائياً، بمعنى أن يحكّم موران مستويات الإخراج، على سبيل المثال، فحضوره، كما يقول أحد القائمين على المهرجان، مجرد حضور فكري، فتقويمه نابع من اختصاصه ومجاله. سحرت السينما الفلاسفة بمختلف منطلقاتهم، اهتموا بسحرها وبالعلامات التي تنثرها. «فاتيمو» و«جاك دريدا» أحبّا هذا الفنّ وسعيا إليه بحثاً وتنقيباً، كما أن برغسون وميشيل فوكو كذلك اهتمّا بشكلٍ أوضح بشرائط السينما البصرية الآسرة، لكن أولئك لم يصلوا إلى الاهتمام المعرفي المفهومي بالسينما كموضوع للدرس الفلسفي ضمن الآليات خارقة على النحو الذي فعله الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز في كتابيه «الصورة حركة - الصورة زمناً»، و«سينما1 - سينما2»، وقد قام «فليب مانغ» بدراسة على دراسات دلوز، يكتب مانغ: «دلوز هو الفيلسوف الأقدر على إيجاد فلسفة لجمالية الفن السينمائي فجميع كتبه تهجس بهذا الانشغال، وعلامة السينما ظلت حاضرة بشكل أو بآخر في تآليفه الفلسفية». يعتبر «دلوز» في رؤيته الفلسفية عن السينما أن «العلامة» التي ترمش بها الصورة السينمائية ليست بالضروة أن تكون دالةً، وذلك لسبب أساسي مفاده أن العلامة السينمائية تختلف عن العلامة اللسانية. وإذا كان أفلاطون اعتبر الصور «مستعصية على الإمساك بها من قبل الأفكار»، فإن جيل دلوز رأى في السطوح مجالاً للبحث وميداناً لاستقصاء الأفكار، ودلوز يتفق دوماً مع جملة لبول فاليري يقول فيها: «إن سطح الجلد هو العمق الغائر الذي لا يضاهيه عمق آخر». جدل «موران» ولجنة التحكيم أعادتنا لإشعال شرارةٍ عن العلاقة الغامضة والمتداخلة بين المجالين، فالأفلام العظيمة تنبض بالمفاهيم، وعلى حد تعبير دلوز فإن «المفاهيم التي تلحق بخصوصية السينما هي من أمر الفلسفة». أتمنى أن يتداخل موران مع نقاده مجيباً عن سؤالٍ حيوي: هل يمكن للفيلسوف أن يكون «حكَماً» متجاوزاً وظيفته الأساسية المتمثلة في القراءة والنقد؟! [email protected] twitter | @shoqiran