غداة إعلان الجامعة العربية خطة لحل الأزمة السورية واختبار تنفيذها من قبل السلطة خلال مدة لا تتعدى الأسبوعين، رأى بعضهم في هذه المبادرة ضرباً من الخرق أو الفضيحة الأخلاقية. فوفق رأيه، ليس إعطاء مهلة أسبوعين لسلطة تواصل المعالجة الأمنية الفظة سوى طريقة للسماح لها بمواصلة القتل والاعتقال والترهيب. وللمزيد من التسخيف الدعوي لها لجأ هؤلاء إلى عملية حسابية جثمانية لتقدير عدد القتلى المسموح بسقوطهم استناداً إلى المعدل اليومي المتوسط لضحايا البطش الذي تمارسه سلطة استئثارية ضد المطالبين في مدنهم وبلداتهم بإسقاطها. بذلك تتحمل الجامعة جزءاً من المسؤولية، الأخلاقية بالطبع، عن سقوط ضحايا الأسبوعين ما دام من غير المتوقع إطلاقاً أن يفاجئ النظام الأمني خصومه ومعارضيه بسلوك سلمي وسياسي لم يعهده. ينبغي الاعتراف بأن هذا النوع من البلاغة التحريضية الحابسة الأنفاس ناجح إعلامياً ودعوياً. فهو يتمتع أو يزعم التمتع بأعلى درجات الطهارة الأخلاقية، لكن صلاحيته تقف عند هذا الحد. وهو فوق ذلك يتلقف، شعورياً أو لا شعورياً، إحدى أبرز مقولات فلسفة التدخل والضغط لاعتبارات محض إنسانية بحيث تأتي حسابات المصالح واستراتيجيات السيطرة وديبلوماسية الصفقات في مرتبة ثانوية جداً. وباتت هذه أيديولوجيا كاملة تستند إلى ما يمكن تسميته بديبلوماسية الشفقة والمواساة وتعوّل على عاطفية مستهلكي الإعلام وتراجع حسهم النقدي. التشخيص الموصوف أعلاه ساهم ويساهم، على طريقته، ليس فقط في التشكيك بجدوى المبادرة العربية بل كذلك في صلاحية صدورها عن هيئة لم يعرف لها في السابق أي دور سياسي وازن. في ما يخص الشق الأول من التشكيك، رأى بعض مثقفي المعارضة السورية بحق أن رفض المبادرة فور صدورها من شخصيات في المجلس الوطني ينم عن سوء تقدير سياسي. والمحاسبة الأخلاقية كانت تصح لو كان النظام، بالأحرى مركّب السلطة، على شفير السقوط لدى صدور المبادرة. وهذا ما كان يعدنا قادة الدول الكبرى والنافذة بأنه يحتاج إلى وقت غير قصير. نرجح على أي حال أن يكون قرار الجامعة بتعليق وتجميد مشاركة سورية في نشاطاتها ومن ثم مطالبتها باستقبال مراقبين لتقصي الأوضاع على الأرض، قد ولّد الانطباع، وإن على نحو متسرع، بأن الجامعة تمهل ولا تهمل. ويقودنا هذا إلى الشق الثاني المتعلق بالشك في صلاحية دورها السياسي وقيمته. وهذا ما نوافق عليه وإن من زاوية مختلفة. قد يكون معلوماً أن العرب لا يشكلون، بصفتهم هذه، جسماً سياسياً متمايزاً يمتلك تقديراً لوجود نصاب مستقل يحفظ المصالح العليا من دون التضحية بتعددية المكونات الاجتماعية والتاريخية لهذا الكائن الممنوع من الصرف. ليس العرب فاعلاً سياسياً إلاّ في الأدبيات الثقافوية، سواء كانت تنسب إليهم إيجابياً تجانساً مفترضاً وصوفياً لا يصمد أمام الفحص التاريخي والسوسيولوجي، أو تلك التي تنسب إليهم سلبياً وحدة عقلية وذهنية عصية على العقلانية، ما يستدعي التعامل معهم كقاصرين وأغرار. في هذا الإطار لم يكن للجامعة التي تأسست قبل أن تتحصل بلدان عربية على استقلالها، أن تكون أكثر من هيئة أو شعيرة ترمز إلى وجود هوية مشتركة وعريضة من دون القدرة على ترجمتها في صفة سياسية ناجزة أو حتى في إطلاق سيرورة لتحقيق هذه الصفة وتعهدها عقلانياً. أقصى ما يمكن أن تفعله الجامعة، في هذه الحال، هو الاضطلاع بالحد الأدنى من التحكيم في نزاعات الحروب الباردة العربية، إذا ارتضى أطرافها ذلك. وموقعها الملتبس هذا يتراسل حالياً، في ما يخص الانتفاضات الجارية، مع طغيان مقاربتين متنافرتين في الظاهر، أي بمقتضى الأهواء الأيديولوجية. الأولى ترى الخصوصيات أشبه بتنويعات على معزوفة واحدة. وهذا ما يجيز لأصحاب هذه المقاربة، أو لبعضهم، أن يتهم الخارج بالتآمر عندما يكتشف أن الأمر يتعدى التنويعات. القراءة الثانية تعتبر أن الفكرة أو أيديولوجيا القومية العربية مصدر كل الشرور والمصائب، وأن الكيانات الوطنية، القُطرية إذا شئتم، هي الإطار الطبيعي المؤهل لاحتضان التطور والديموقراطية والحداثة. ويغيب عن بال هؤلاء، وبعضهم من التائبين والمرتدعين عن حماسة قومية عروبية سابقة، أن النزعتين يسعهما أن يكونا من طينة واحدة. فمنطق العصبية الخلدوني لا يقتصر على حملة الرايات والشعارات القومية والرسائل الخالدة. ودعاة البلد الفلاني أولاً لا يقلون عصبيةً وصوفيةً عن غلاة القومية اللفظية. كما أن النظام التسلطي ليس حكراً على "القومجيين" والمتذرعين بالقضية الفلسطينية. ولا حاجة للأمثلة والشواهد فهي صارخة وماثلة أمامنا. فلنقل، بعبارة أخرى، إن الحراك الشعبي في غير بلد عربي يرد الاعتبار بالتأكيد لسماكة المجتمع الداخلية وترسيمة تشكله المعقد تاريخياً وثقافياً ولكن ليس للاعتزال والاحتماء به كخشبة خلاص من العالم، بل لصوغ علاقة أفضل بينه وبين خارجه القريب والبعيد. وفي هذا المعنى سيكون لنمط الحكم الجديد ودرجة ديموقراطيته تأثير في نمط العلاقات الإقليمية والدولية. والأكيد أن مصر التي تستأنف ثورتها ليس ضد حكم العسكر بالمطلق، بل ضد حكم يسيطر عليه مجلس عسكري يسعى إلى بناء واجهة مدنية على صورته، ستظل محط الأنظار والرهانات كلها. فنحن في بلدان تعج بالمفارقات ويمكن أحياناً أن يكون الجيش أكثر مدنيةً من المدنيين وأقرب إلى تحسس فكرة الدولة والمؤسسات. هناك سباق جارٍ على قدم وساق بين قوى، إقليمية ودولية، للتحكم بالترسيمة الإقليمية التي ستنجلي عنها التبدلات الحاصلة وغير الواضحة بعد، خصوصاً في مصر. وهذا يزيد تعقيد الأزمة السورية واحتمالات انزلاقها إلى حرب أهلية «واسعة النطاق»، وفق تشخيص رئيس الوزراء البريطاني مسبوقاً بتصريحات غربية من النوع ذاته، وكما يستفاد من تزايد العمليات الحربية في الأيام الأخيرة. الموقع الملتبس للجامعة لا يعود فحسب إلى أنها تجرجر أثقال نظام إقليمي مضطرب ومتنازع منذ الاستقلالات، يسعى إلى تجديد ذاته اليوم، بل كذلك إلى أنها تجرجر التباسات الفكرة العربية نفسها منذ نشأتها خلال الحرب الأولى. نعلم أن الفكرة العربية نشأت سياسياً بطريقة عاطفية ومرتجلة وعاجلة كرد فعل على النزعة القومية التركية، ونعلم أن البريطانيين استخدموها في مواجهة الأتراك العثمانيين. لكن مضامين العروبة تلونت، كمقولات وأفكار كبيرة أخرى، بألوان القوى الاجتماعية التي حملتها وبأنماط التأويل المستخدمة. وينسحب هذا على الفكرة الوطنية أيضاً. رفض الاستبداد، والخشية من قصر الفكرة العربية وجامعتها على قيمة استعمالية، هما وجها مشروع استقلالي وتحرري واحد.