أضاع العرب أكثر من قرن ونصف قرن في سجال شبه سرمدي لم ينته حتى الآن حول شكل الاجتماع السياسي الذي يمكن أن يرث الدولة العثمانية والاستعمار ويحقق استقلالهم. النقاشات المحتدمة حول درجة ارتباط الدين بالسياسة، والعلاقة مع الغرب، وموقع التراث والماضي والتعليم والمرأة، والعدالة الاجتماعية، وبناء مجتمعات حديثة... احتلت قلب ذلك السجال. منذ كتابات رفاعة الطهطاوي في النصف الاول من القرن التاسع عشر وحتى الآن، والفكر العربي يجتر الموضوعات ذاتها ويطرح المقاربات عينها. الاتجاه الغالب في تلك المقاربات كان للتيار «التوفيقي» (او التلفيقي)، الذي اقتنع بفكرة مزاوجة «ما يناسبنا» من أفكار الحداثة الغربية مع «ما يناسبنا» من ماضينا. هذه التوفيقية كانت إلى حد كبير «الأيديولوجيا» الرسمية لدولة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية، حيث تم الشروع في تبني حداثة منقوصة ومحاولة تركيبها على بنية تقليدية لا تحتملها. وانتهت مآلات تلك التوفيقية إلى الفشل الذريع الذي نحياه ونراه، وقاد بعضاً من الدول إلى كوارث حقيقية وأنظمة بالغة التفاهة (ليبيا القذافي كمثال صارخ هنا، لكن ليس وحيداً). تتنوع التحليلات في فهم أسباب ذلك الفشل التاريخي وزوايا النظر إليه، لكن يمكن هنا التركيز على فكرتين مركزيتين تعودان للظهور الآن في حقبة ما بعد الثورات العربية وتصاعد قوة الإسلاميين ووصولهم إلى الحكم في اكثر من دولة: الفكرة الاولى هي ان الباب الذي أُبقي مفتوحاً جزئياً على الماضي لاختيار «ما يناسبنا»، ظل ينفتح أكثر وأكثر لتتسلل منه منظومات وقيم وأوهام ماضوية كانت قد صُنفت من قبل النهضويين العرب، بمن فيهم الإسلاميون الإصلاحيون، مثل الافغاني وعبده والكواكبي، في عداد «ما لا يناسبنا». وفي الوقت ذاته، كان الباب الذي فتح جزئياً على قيم الحداثة الغربية وتجربتها لاختيار «ما يناسبنا» قد بدأ ينغلق شيئاً فشيئاً، أو حتى أُغلق تماماً، وعوضاً منه فُتحت كوات ونوافذ ضيقة تسمح بمرور الحداثة التقنية والصناعية من دون حداثة الأفكار والسياسة. الترجمة السياسية على أرض الواقع لعملية «انفتاح الباب»، أو الانزياح التدريجي والتاريخي نحو الماضي، تمثلت في تدهور منحنى الإصلاحية الإسلامية والانكماش المتواصل في استنارتها منذ أيام الافغاني وعبده انتقالاً لرشيد رضا وحسن البنا، ثم سيد قطب وعمر عبد الرحمن، وصولاً إلى بن لادن والسلفية الجهادية العنيفة. والترجمة السياسية لعملية «انغلاق الباب» باتجاه الغرب تمثلت في المحاولات العبثية للحفاظ على البنى التقليدية الماضوية وتركيب منظومات قيمية حداثوية فوقها، وبالتالي انتهت القيم التي تمكنت من الإفلات من تلك الكوات، وفي أقصى تجلياتها الديموقراطية والانتخابات والدستور، إلى خليط مهجن بقيم ماضوية أفقدتها معناها الحقيقي وسمتها الانعتاقية الأساسية. الشيء المدهش أن صيرورة الانزياحات الانغلاقية كانت قد حدثت في ظل دولة غير إسلاموية وغير مُدارة أو مُسيطر عليها من قبل الحركة الإسلامية. كانت تلك الدولة بالمجمل ذات سمة قطرية قومية، وهي التي انتزعت شرعية الوجود في طول العالم العربي وعرضه. أفسحت تلك الدولة، بسبب هشاشة شرعيتها وعدم تأسسها على مشاركة سياسية، ونظراً لطبيعتها القمعية، وفي محاولات يائسة للمساومة مع أنماط التدين التقليدي أو الممالئ، المجالَ أمام انتشار الماضوية، التي تمكنت في نهاية المطاف من الإطاحة بالدولة نفسها في حقبة الربيع العربي. النقطة ذات العلاقة هنا، هي المنطقة الرخوة والغامضة التي تركتها التوفيقية في الوسط، أي «ما يناسبنا من الحداثة وما يناسبنا من الماضي»، سرعان ما تم احتلالها من قبل الماضي لأسباب بنيوية، أهمها فشل النخبة الحداثوية في تقديم نموذج ناجح، والضغوط والتدخلات المتواصلة من الغرب والتي محت صورة الغرب المستنير لصالح الغرب الاستعماري في الوعي العام. في تلك المرحلة الطويلة، ولنقل طوال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت تلك المنطقة الرخوة تفصل بين النزعة الإسلاموية الآخذة بالاتجاه أكثر نحو الأصولية والتيارات العلمانية الأخرى (القومية، اليسارية والليبرالية)، التي هي الأخرى اتخذت مسارات متطرفة في سياقاتها الأيديولوجية الخاصة بها. ورغم سيطرة التيارات العلمانية على الدول والحكومات العربية بشكل أو بآخر، إلا أن النزعة الإسلاموية (التي تفرعت على ذاتها وتنوع طيفها) ظلت في تصاعد ثم واصلت صعودها وجذبت شرائح واسعة من الجمهور وراءها، وصولا إلى ظافريتها الراهنة. يقود تراكم رأسمال النجاحات المتواصلة هذه إلى خطورة كبيرة في الوقت الحالي، تكمن في أن المنطقة الرمادية التي كانت تاريخياً منطقة سجال بين الإسلاميين وغيرهم، تنتقل الآن لتصبح بين الإسلاميين أنفسهم: أولئك الذين في الحكم والأكثر اعتدالاً، والآخرين المعارضين والأكثر تطرفاً، والمستندين غالباً إلى أرضية سلفية وينطلقون في نقد الأولين من رؤية دينية صارمة. معنى ذلك أن السيناريو الأكثر قتامة يتمثل في حدوث انزياح تاريخ كبير في الاتجاه العام نحو الماضي يزيد من إغلاق الباب بيننا وبين العالم. وقد يتسارع هذا الانزياح المخيف، مستفيداً من آليات معاصرة وجديدة لم تكن متوافرة في بدايات القرن الماضي، عندما تأسست السجالات الأولى وأُقيمت «المنطقة التوفيقية الرخوة» بين الإسلاميين وغيرهم. وأهم هذه الآليات على الإطلاق الإعلام الديني التلفزيوني الذي يحتل الأثير والوعي عبر مئات الفضائيات الدينية، التي تقولب الرأي العام والمزاج والسلوك وتُشكِّلها، وكل ذلك في إطار منظومة قيم سلفية ماضوية معادية للآخر وللحداثة. لا يحتكر هذا السيناريو التشاؤمي مستقبلات المنطقة، ولا يلغي احتمال حراك سياسي وانزياحات اخرى قد تحدث في قلب الحركية الإسلامية باتجاهات أخرى يمكن تناولها في مقاربات لاحقة. لكن، وفي ما خص السيناريو قيد النقاش هنا، لنا أن نقول إن الطبيعة الاستبدادية وغير الديموقراطية لدولة الاستقلال العربية والتدخلات الغربية ودعمها الدكتاتوريات العربية... وفرت الأرضية الخصبة التي قادت تدريجياً إلى الانزياح نحو الماضي. لكن الشيء المُفارق هو أن تلك الطبيعة الاستبدادية لدولة ما بعد التحرر من الاستعمار في المنطقة، جاءت في المرحلة الثانية من تأسسها، وليس منذ اليوم لنشأتها، وعلى الأقل في المشرق العربي. في المرحلة الأولى كان شكل هذه الدولة (في مصر والعراق وسورية ولبنان، والى حد ما الأردن، وكذا الأمر في المغرب وتونس وليبيا) ليبرالياً يقوم على الانتخابات والتعددية الدستورية. صحيح أن تلك الأنظمة الليبرالية كانت وليدة معاهدات مع المُستعمر السابق (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا)، وهو الذي ظل ماثلاً في خلفية الصورة بهذا الشكل أو ذاك، لكن كان ثمة ثقافة وانزياح نحو مأسسة الدولة الدستورية التعددية المدنية يأخذ مجراه البطيء، لكن الطبيعي. أُجهضت تلك التجربة الليبرالية القصيرة في كل تلك البلدان على يد الحركات القومية، التي اعتبرت تلك الأنظمة عوائق في طريق الوحدة العربية، وعوائق في طريق النضال من أجل تحرير فلسطين ومحاربة الإمبريالية. أضاعت التجربة القومية أكثر من ستة عقود على العرب من دون أن تحقق الوحدة العربية، أو تحرر فلسطين، أو تنتصر على الإمبريالية. لكنها استطاعت الإجهاز على الفكرة الليبرالية في المنطقة العربية، وأفسحت المجال لبروز الإسلاموية ثم انتصارها لاحقاً. في بلدان المغرب العربي والخليج العربي، كانت هناك صيرورات مشابهة، ليس بالضرورة مندرجة في سياق الشعارات القومية الصلبة (ما عدا جزائر بومدين)، لكنها في الجوهر مولّدة لانزياحات ماضوية وعلى حساب الانفتاح الليبرالي الحقيقي. بعد كل تلك السنين يطرح الفكر القومي العربي في الوقت الراهن افكاراً منفتحة وليبرالية وديموقراطية، لكن ثمن تعلم الدرس الديموقراطي والليبرالي كان باهظاً: ستة عقود من عمر شعوب هذه المنطقة. على ذلك كله، فإن الخوف الكبير والتحدي الأكبر الذي يجب ان يقض مضاجع عقلاء الإسلاميين، هو التغافل عن ذلك الدرس العميق والمرير، وبالتالي تكرار الانزياح التاريخي نحو الماضي وهذه المرة بعمق، بعيداً من الشكل الديموقراطي والليبرالي الفعال للاجتماع السياسي، وبالتالي إضاعة عدة عقود أخرى على العرب وبلدانهم حتى نعود مرة اخرى ليس فقط للاقتناع بما كان قد اقتنع به رواد النهضة في أواخر القرن التاسع عشر، بل وتطبيقه بانزياح نحو المستقبل هذه المرة، وليس نحو الماضي. * كاتب وجامعي فلسطيني [email protected]