لا يمكن لمن يمعن النظر في حال الدراسات الفلسفية في مدارسنا وجامعاتنا إلا أن تتملكه الدهشة لما يطبع تلك الدراسات من إزدواجية تتبدى في مقرراتنا التعليمية وفصول دراساتنا، ومجالات أبحاثنا. أقول ازدواجية، وربما هي أكثر من ذلك. إنه الانفصام الذي يطبع أبحاثنا، والذي يجعلنا في دراساتنا في مجال ما عهدنا تسميته بالدراسات الإسلامية نتحول في الأغلب الأعم، الى مجرد مؤرخين نسرد الحكايات، ونستعرض الآراء، ونحصي الفرق، وحتى إن أثرنا ما يمكن أن يُعدّ من قبيل إعمال الفكر، فغالبا ما يكون ذلك بحثاً عن نظائر، ومقارنة بمفكرين غربيين عسى أن نجد في تراثنا ما يمكن اعتباره سبقاً في هذا المجال أو ذاك. عقلية مغايرة نتقمصها إن نحن حاولنا البحث في مجال ما عهدنا تسمتيه فلسفة أوروبية. هنا تتحول أساليب البحث وتتغير مناهج الدرس والتدريس، فنشعر بأن علينا مقارعة أفكار ومقارنة مواقف. هنا يعمل الفكر عمله، أو على الأقل يحاول ذلك ما أمكنه، فيجهد نفسه لتوليد الأسئلة وعقد مقارنات. وحتى إن تحولنا الى مجرد مؤرخين فلن يكون ذلك وفق منحى كرونولوجي يقسم التاريخ الى أدوار متعاقبة، وعهود متلاحقة، يتوحد فيها التاريخ السياسي مع التاريخ الأدبي وتاريخ الأفكار، وإنما نحاول تاريخاً صقلته الأبحاث الإبيستيمولجية، ومحّصته الدراسات التاريخية. فإن كان ما يطبع هذا الشكل الثاني للتأريخ هو البحث عن القطائع، ورصد نقط التحوّل ولحظات الانعراج والوقوف عند»العوائق» و«الحدود» و«الانفصالات»، فان تأريخنا لتراثنا الفكري غالباً ما يطبعه الوصل، بل الرغبة الدؤوبة في إعادة ربط الصلة، والبحث في الماضي عما يشكل جذور الحاضر وأصول الأفكار. إنه تأريخ يكاد يخلو من الأسئلة القلقة التي رافقت الثورة المتعلقة بالمناهج التاريخية في كافة المجالات، مجال التاريخ نفسه، ولكن أيضاً مجالات تاريخ الآداب والفنون والفلسفة بطبيعة الحال. من حسن الحظ أن هناك من حاول التمرد على هذه الرؤية الانفصامية، وهذا ليس في مجال الفلسفة وحده، بل حتى في الدراسات النقدية والأبحاث التاريخية. ولكي لا نبتعد عن مجال الفلسفة الذي يعنينا هنا، لا بد أن نشير الى الأبحاث في ما يمكن نعته بالإنتاج العلمي في الثقافة العربية، تلك الأبحاث التي حاولت إعادة النظر في مفهوم تاريخ الأفكار، بل في الهدف من دراسة الإنتاج العلمي ذاته، وفي الدور الذي كان لذلك الإنتاج في سياق الثقافة العربية الإسلامية. ولعل خير مثال على ذلك أبحاث رشدي راشد والجهود التي بذلها في مجال تاريخ العلم العربي، مستفيداً من اهتمامه بالتراث العربي الإسلامي، وانفتاحه على مستجدات الفكر المعاصر، وتطورات الدراسات في مجال تاريخ العلوم بصفة عامة. حاول هذا المفكر أن يعيد الإعتبار للعلم العربي ضمن تاريخ العلم، ويتحرر ما أمكنه من هوس الإهتمام بالتراث بهدف تجميع ما يمكن أن يكون إثباتاً لسبق تاريخي، أو بحثاً عن نظائر أوروبية. باستطاعتنا بطبيعة الحال أن نسوق أمثلة أخرى وفي ميادين مغايرة، وكلها يجمعها الحرص على قبول الازدواجية كازدواجية من حيث إنها السبيل الأنسب لكل نهضة فكرية، ذلك السبيل الذي شاءت الأقدار، وأكاد أقول من حسن حظنا، ألا يكون إلا مزدوجاً عسيراً مركباً. إذ أن الازدواجية إن كانت قدرنا ولعنة حلت بفكرنا، فهي أيضاً خلاصنا وسبيلنا الى التحديث، شريطة ألا ننظر اليها بطبيعة الحال على أنها مجرد ضم لنوعين من الاهتمام وجمع بين ميدانين. الأمر يمكن أن يقاس هنا على الإزدواجية اللغوية التي ليست، كما نعلم، تساكنا بين شكلين للأحادية اللغويةDeux monolinguismes. إن الأمر لا يتعلق هنا بالبحث في أحد المجالين، ثم البحث في الآخر، وإنما بالبحث في هذا عند البحث في ذاك. * كاتب مغربي