عندما تعرضت بلادنا لجرائم الإرهاب من قبل شباب تم غسل أدمغته في أقبية الفكر الضال، جاء التساؤل عن غياب (تدريس الفلسفة) بحجة أن الفلسفة تسهم في تحرير عقول شبابنا من الارتهان لأي فكر، سواءً كان تكفيرياً، أو حتى تغريبياً إن صح الوصف، ولكن يبقى أكثر من سؤال محوري في هذه القضية، هل يكون ذلك من خلال الفلسفة بمناهجها الغربية، التي لازالت في الذهنية الجماهيرية طريقاً للزندقة والإلحاد والحرية البهيمية؟ أم يكون من خلال مراجعة الفلسفة الإسلامية وتهذيبها بحيث تتفق مع الدين؟ أم يكون ذلك أولاً وأخيراً من خلال نصوص الدين نفسه بإعادة قراءتها وفق عصرنا الذي نعيش فيه، مع تعزيز فكرة الانفتاح بين المدارس الفقهية والتعدد المذهبي؟ للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها نجدها بين آراء الدكتور عبد الرحمن الحبيب الباحث العلمي والكاتب الصحافي، والدكتور ناصر الحنيني الأستاذ المساعد في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض فإلى مائدة الحوار.. معنى الفلسفة وأهميتها يشير الدكتور ناصر الحنيني إلى أن كلمة الفلسفة كلمة يونانية وأصلها من شقين (فيلا) (سوفيا) أي محبة الحكمة، ويقول: (ظهرت عند اليونان كثقافة وهي نتاج تفكير وقواعد عقلية ابتكرها مفكرو اليونان الذين أطُلق عليهم فلاسفة اليونان فيما بعد)، وفي ذات السياق نجد أن الدكتور عبد الرحمن الحبيب يقول: (يختلف تحديد معنى الفلسفة باختلاف الفلسفات والمفكرين، ونتيجة لهذا الاختلاف فثمة من يرى أنها عصية على التعريف، ولكن هناك نسبة كبيرة ترى أنها عملية نشاط فكري تهدف إلى كشف طبائع العالم، بالمقابل يراها آخرون نشاطاً فكرياً يهدف إلى صياغة طريقة نظرتنا إلى العالم، وأنا أميل للرأي الأخير)، وفي شأن أهميتها يضيف قائلاً: (أهمية الفلسفة متعددة الجوانب، وأهمها هو عملها النقدي التحليلي، حيث تدرس صلاحية المناهج والأدوات العقلية في الوصول إلى النتائج. ولا يكتفي البعض بالأهمية التحليلية للفلسفة بل يضيف لها الأهمية التركيبية، أي في إضافة نتائج للمعرفة وليس فقط في طريقة الوصول للنتائج. وهاتان المهمتان -التحليلية والتركيبية- تجيبان جزئياً على سؤالك عن ارتباط الفلسفة بالمعرفة أم بالعقل المنتج للمعرفة، وأنا مع المهمة التحليلية للفلسفة، أي أنها مرتبطة بالوسائل والمناهج المنتجة للمعرفة وليس بمضمون المعرفة). بهذه الجزئية المتعلقة بإنتاج المعرفة يتفق معه الدكتور الحنيني بقوله: (هي مرتبطة أكثر بالعقل المنتج للمعرفة في الغالب ولكن قد تجد بعض المعارف ضمن كلامهم لأنهم يتحدثون ويقررون قواعد منطقية عقلية في الكون والحياة وأسلوب التفكير وغير ذلك). الفلسفة علم النخبة طبيعة الفلسفة وعملها العقلي النقدي جعلها محل نزاع لدى المفكرين وعموم المثقفين، هل هي علم عام أم تخصص نخبة؟ حيث يرى الحبيب أنها تخصص لنخبة النخبة، بل يؤكد أن القول إن قراء الفلسفة والمهتمين بها لا تتجاوز نسبتهم (5%) هي نسبة عالية جداً في أي مجتمع، غير أنه يستدرك بقوله: (لكن هذا لا يعني أن ممارسة التفلسف على مستوى الهم الثقافي وليس التخصص الاحترافي، أو الاطلاع عليها أو معرفة مبادئ الفلسفة هو عمل نخبوي خاص، بل هو عمل ثقافي عام ومنتشر في المجتمعات المتقدمة مثله مثل أغلب الحقول المعرفية). وهو بهذا يتفق تماماً مع رؤية الحنيني الذي يقطع بقوله: (لا أظن أن أحداً يشك أن الفلسفة تخصص نخبوي ضيق وليس نخبوياً فقط)، مضيفاً: (النسبة التي ذكرت مبالغ فيها قد لا تتجاوز في نظري ولا 1%). الفلسفة في زمن المعرفة هناك من لا يرى جدوى للفلسفة في زمن العلم وشيوع المعرفة وثورة التقنية، لأن مهمتها انتهت، كونها ظهرت قديماً للبحث في الإنسان والطبيعة والكون. عبدالرحمن الحبيب يتفق جزئياً مع الشك في جدوى الفلسفة في هذا الزمن، لأنها بنظره تراجعت ولم تنته، مبرراً ذلك بقوله: (فإذا كانت مهمة العلم تختص ببحث سلوك الأشياء والعلاقات السببية وصياغة الفروض وتحقيقها، فإن مهمة الفلسفة تقوم على كشف العلاقات المنطقية بين هذه الفروض، أي أنها تحلل المفاهيم والمصطلحات. فالفلسفة -بهذا المنطق- لا تدخل في المواضيع بل في طريقة تحليلها، فهي لا تستنتج ولا تقرر بل توضح أفضل الطرق للاستنتاج والقرار.. إنها منهج وطريقة في التحليل).. مشيراً إلى أن الفلسفة لها مهمات أخرى فهي برأيه: (تستحث الذهن على التفكير المنظم والمركز وعلى إطلاق روح المبادرة الفكرية، وتساعدنا على تناول اللغة بطريقة جديدة تنبهنا للاختلافات والمتشابهات التي تحجبها طرائقنا المألوفة في الكلام، والفلسفة تدعم التأمل في التحول بأفكارنا. وهي تمنح العقل القدرة على المناقشة باستقلالية مع مزيد من الموضوعية). على النقيض يؤكد ناصر الحنيني عدم جدوى الفلسفة بقوله: (الفلسفة كما ذكرت قواعد عقلية منطقية قابلة للنقض والرد وليست وحياً وقد لا تصلح في زماننا لاكتشاف معارف جديدة وقواعد تتناسب مع العصر الجديد وهناك قواعد فطرية يتفق عليها البشر). دور المعرفة الدينية مسألة الفلسفة ودورها بين العلم والمعرفة تقودنا إلى ما يسمى (المعرفة الدينية) باعتبار الدين مصدراً من مصادر المعرفة الإنسانية وتحديداً عند المسلمين، كونه مرتبط بإيمانهم وجميع الأحكام المتعلقة بحياتهم، فهل يمكن للمعرفة الدينية المتفقة مع العلم والمعززة بالتقنية أن تؤدي دور الفلسفة، الحنيني يعتبرها كافية لأنها من الوحي المنزل من عند الله، يقول: (المعرفة الدينية نقصد بها الوحي المنزل من عند الله، نحن لا نشك أن فيه الكفاية، ولا يمنع أن نأخذ ما يكون حقاً ولا يتعارض مع أصول ديننا والله عز و جل قال {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، أما الحبيب فيرى المسألة بأفق آخر من حيث دور كل من الدين والعلم والفلسفة، وبالتالي من الصعب أن تؤدي أياً من تلك المعارف دور الأخرى، يقول: (العلم منهج يقوم على الدراسة التجريبية ونتائجه تتراوح في الدقة من عالية جداً إلى نسبية جداً وقابلة للنقد والاختبار وإعادة البناء والرفض، بينما المعرفة الدينية عقيدة مطلقة وإيمان مسبق بالوحي خارجة عن الاختبار التجريبي، ومن ثم فإن أدوار كل من العلم والدين والفلسفة تختلف في مناهج إثبات البراهين وفي الصور الذهنية وفي طرق الوصول إلى نتائج، والمحصلة أنه من الصعب أن تؤدي أياً من تلك المعارف دور إحداها الأخرى). علاقة الفلسفة بالدين قضية المعرفة الدينية تقودنا إلى علاقة الفلسفة بالدين فيوضح الحنيني واقعة تعارضهما وإن وجد التوافق، بقوله: (هناك قضايا في الفلسفة تتعارض مع الدين تماماً، لأنها قائمة على نظر عقلي مجرد بعيد عن الوحي، وجاء الوحي والرسالة المحمدية بما يناقضه، بل فيها في بعض الأحيان ما يتعارض مع كل الرسالات السماوية التي جاءت من عند الله. وفيها قضايا لا تتعارض مع الدين ونحن كمسلمين نأخذ الحق من كل أحد)، وهذا بالطبع يخالف ما يذهب إليه الحبيب الذي يراها علاقة حيادية، يقول: (الدين في أغلب مدارسه يرتكز على الإيمان بالنقل -الوحي- ثم يأتي العقل لاحقاً أو أنهما يتداخلان، فالدين بالأساس سلوك تعبدي وعقيدة إيمانية مطلقة، بينما الفلسفة ترتكز على العقل منتجة مدارس فكرية نسبية، ومن ثمة نجد أن العلاقة حيادية بينهما في جوانب عديدة. وإن وجد تداخل في الأدوار من جهة إثبات البراهين وانفصال من جهة أخرى). الفلسفة الإسلامية ما سبق من شأنه أن يثير موضوع الفلسفة الإسلامية ليس من ناحية حقيقة وجودها، إنما في طبيعتها من حيث استقلالها أو اختلافها أو تماثلها مع الفلسفة الغربية. الدكتور الحبيب يقول بوجود فلسفة إسلامية، ويميز بين اتجاهين في هذه الفلسفة، إذ يقول: (يمكن تمييز اتجاهين فلسفيين، كما فعل «دي بور»: اتجاه الفلاسفة الطبيعيين الذين يبحثون في ظواهر الأشياء وما ينتج عنها من آثار -الحادث الجزئي- للتعرف على ماهية الأشياء الكلية كالرازي؛ واتجاه الفلاسفة المنطقيين، كابن سينا والفارابي حيث يستنبط الحادث الجزئي من الكلي، محاولين إدراك ماهية الأشياء باستنباطها من أصولها). كما يرى أن الفلسفة الإسلامية ليست مماثلة للفلسفة الغربية، بل مستقلة عنها في أشياء وبالذات المعارف الطبيعية، لكنها في الوقت نفسه تشابهها في الأصول وبعض المناهج، يقول بهذا الصدد: (يختلف ذلك في المعارف الطبيعية عن المعارف الأخرى كالفقه، والكلام، والنحو، وغيرها. فمثلا ًالخطابة لأرسطو والمنطق اليوناني عموماً أثرا بالنحو العربي والبلاغة بشكل واضح، لكن العرب قدموا إضافات ضخمة ومبتكرة، ومن ثم أسسوا منها علومهم الخاصة، مثل فلسفة أساس اللغة بين الفطري (الغريزي) والوضعي، والقياس والاستنباط في علم اللغة وغير ذلك). ثم يخلص إلى أن هناك مزجاً بين الفلسفتين بقوله: (حيث مزج الفلاسفة المسلمون ثنائية الحسِّي والعقلي، الأول يدرك المادي الجزئي، والثاني يدرك الروحي الكلي. فالكندي مثلاً حاول التوفيق بين النبوَّة والعقل، ومشابه لذلك محاولة الفيلسوف بن مسكويه في التوفيق بين النظريات اليونانية في الأخلاق وأحكام الشريعة الإسلامية). غير أن الدكتور الحنيني له رأي مختلف، خصوصاً في مسألة الأصول التي أشار إليها الدكتور الحبيب، يقول الحنيني: (إطلاق فلسفة إسلامية أو فلاسفة مسلمين يقصد به أولئك الذين درسوا الفلسفة ولديهم ثقافة شرعية ويؤمنون بالرسالة على الجملة كابن سينا والفارابي وغيرهم، ولكن هؤلاء وقعوا في أخطاء كبيرة في الأصول لأنهم أخذوا الفلسفة ولم يعظموا الشريعة)، ثم يشير إلى الفلسفة الغربية من حيث نقطة خلافها عن الفلسفة الإسلامية: (وأما الفلسفة الغربية فهي نتاج الغرب عقلاً وتفكيراً وغالباً تتسم بعدد من المحددات: بعيدة عن الدين تتعز الجانب المادي -نتاج أفراد وليست مجموعات أو هيئات- تنتج ردة فعل للزمن الذي يعيش فيه المفكر أو الفيلسوف، ولهذا يغلب على الفلسفة الغربية النزعة المادية الإلحادية بخلاف الإسلامية مع ما فيها من أخطاء وانحرافات). الفلسفة وإنتاج الحضارة المهتمون بالفلسفة والدارسون لها يرون علاقة ارتباط بينها والحضارة، لكن السؤال المطروح بهذا الشأن: لماذا المسلمون الأوائل لم يُدرسّوا الفلسفة مع ذلك أنتجوا حضارة، في مقابل بلدان لازالت متخلفة رغم تدريس الفلسفة؟ يجيب عن ذلك عبد الرحمن الحبيب كونه يرى الفلسفة بمعناها الاحترافي ليست شرطاً مُحددا لإنتاج الحضارة، لأن الفلسفة بالنسبة للحضارة عامل مساعد، مضيفاً: (بل هي - في تقديري - أحد العوامل المساعدة الضرورية، أو إن شئت أحد العوامل المهمة، وثمة فرق بين عامل مساعد وعامل مُحدد. بالمقابل فإن المسلمين في ذروة حضارتهم كان لهم أكبر نشاط فلسفي مقارنة مع كافة الشعوب الأخرى بما فيها اليونانية واللاتينية). من جانبه يعتبر ناصر الحنيني أن الفلسفة لا تصنع حضارة يقول: (وهذا يؤكد ما قلنا سابقا ليست الفلسفة أساس لقيام حضارات والمسلمون أنتجوا حضارة لأن ما جاء به الإسلام فيه كل مقومات الحضارة المستديمة وليست المنقطعة، والأوائل لما عملوا بدينهم وأخذوا بالأسباب المادية تفوقوا على غيرهم وتجاوزوهم، ولما فرطنا نحن في العصور المتأخرة بالأخذ بالدين وبالأسباب المادية حصل ما حصل من تأخر عند المسلمين). المجتمع وقبول الفلسفة إذن هل يمكن أن يتقبل المجتمع السعودي بعاداته الاجتماعية ونزعاته القبلية وثقافته الدينية الفلسفة، وهل هو قادر على قبول واستيعاب تدريس الفلسفة، خصوصاً أنها ليست حجر الزاوية في بناء أية حضارة؟ الحنيني يعتقد أن الثقافة الشرعية لدى المجتمع السعودي أصلاً قوية ومنتشرة في أوساط العامة، أما تدريس الفلسفة، فيؤكد مرة أخرى أنها خاصة بالنخبة، يقول: (وأما تدريس الفلسفة فنحن متفقون أنه لا يحتاجها إلا النخبة المتخصصة كطلاب دراسات عليا في أقسام علمية شرعية فقط وليس لكل أحد، فلا علاقة للعادات الاجتماعية ولا النزعات القبلية بهذا الموضوع.. أبداً لا تعارض). إلا أن الحبيب يرى خلاف ذلك، فباعتقاده أن المجتمع السعودي يتقبل الفلسفة وقادر على استيعاب تدريسها لأنها منهج وطريقة في التفكير، خصوصاً أن المجتمع السعودي برأيه ينتقل من مجتمع تقليدي إلى مدني أي عقلاني، يقول: (نعم، الفلسفة ليست موضوعاً يعارض عادات أو تقاليد أو نزعات بقدر ما هي أداة ومنهج وطريقة في التفكير تساعدنا على التنظيم الذهني والاتساق والوحدة المنطقية وتنظم الأفكار بطريقة منهجية). دراسة الفلسفة أم تدريسها على افتراض أن المجتمع قادر على استيعاب تدريس الفلسفة، ماذا نحتاج فعلياً دراسة الفلسفة أم تدريسها؟ وهل سياق السياسة التعليمية المحلية يحتمل وجود فكر فلسفي فاعل وحقيقي؟. نحن نحتاج الاثنين معاً هكذا يقول الدكتور الحبيب، موضحاً: (تكون الأولى على مستوى التعليم العالي والثانية على مستوى التعليم الثانوي. وهذا لا يتعارض مع سياق الفلسفة التعليمية، بل يتعارض مع أوهام في العقول بأن الفلسفة ستؤدي إلى تخريب مضمون العقول). لكن الدكتور الحنيني يرى عكس ذلك، فحسب رأيه نحن لسنا بحاجة لدراسة الفلسفة أو تدريسها، بحكم الاتفاق أنها نخبوية وخاصة وتعليمها يكون في نطاق محدود، مبرراً عدم دراستها أو تدريسها في التعليم بقوله: (لأن الفلسفة فيها قضايا كثيرة تتعارض مع أصول الدين ومن طالع كتاب شيخ الإسلام نقض المنطق عرف حق المعرفة خطورة ما تحتويه بعض المعارف مما لا فائدة فيه للمجتمع، وثقافتنا الشرعية غنية وكافية ولا نحتاج إلى هذه المعارف التي تصل إلى المعلومة البسيطة الفطرية بطرق طويلة ومعقدة وملتوية). الفلسفة في التعليم العام عدم اتفاق الضيفين حول تدريس الفلسفة لا يمنع من السؤال عن سبب افتقار تعليمنا أساساً لتدريسها، وفي أية مرحلة تعليمية يمكن أن يبدأ تدريسها؟ الحنيني يعتبر أن تعليمنا متميز، خصوصاً من حيث الثقافة الشرعية التي تلغي الحاجة للفلسفة، إلا أنه ينبه إلى مسألة مهمة بقوله: (وليس هذا من باب عدم قبول العلوم الأخرى ولكن كما قلت تبقى بعض العلوم خاصة ونخبوية وهذه قضية منتشرة في كل العالم، فلا أعلم أن الفلسفة تدخل في التعليم العام في دول العالم، لا قديماً ولا حديثاً إلا كتعريف عام لأنه علم نخبوي لمن أراد أن يتخصص). الحبيب أحال السؤال عن السبب إلى وزارة التربية والتعليم، لكنه في الوقت نفسه أرجع ذلك إلى عقلية غير قادرة على التجديد، رغم أنها تعلن أن التجديد والتطوير يمثل سياستها وإستراتيجيتها كما يقول، مضيفاً: (أما هل هو قادر على تعليم فلسفي حقيقي فهذا سؤال ينطبق على المقررات في كافة المعارف العلمية والإنسانية، وليس منصباً على مقرر الفلسفة، فهو مثله مثل غيره).. أما من ناحية المرحلة التعليمية المناسبة، فيقول الدكتور الحبيب: (أظن هي ذات المرحلة التي يكون بها مقررات العلوم الاجتماعية والنفسية وهي المرحلة الثانوية)، كما أنه يشير إلى تقويم التجربة ومن ثم يؤخذ القرار المناسب في تطوير الطريقة. لكن هذه الفكرة مرفوضة تماماً من قبل الحنيني باعتبار الفلسفة تشتمل على انحرافات كثيرة، يقول: (كما ذكرت سابقاً هي علم نخبوي لا يستفيد منه إلا نخبة النخبة أو من أراد التخصص، فلماذا تُنهك عقول أبنائنا في علوم لا فائدة منها مع اشتمالها على انحرافات كبيرة حول القضايا والمعارف الكلية في الإسلام). مناهج ومواضيع الفلسفة في حال تم تطبيق فكرة تدريس الفلسفة ولو من قبيل التجربة، كيف يرى ضيفا (الجزيرة) المناهج والمواضيع الفلسفية الصالحة للتدريس والإدراج في مناهجنا التعليمية، وهل يتطلب ذلك إعادة صياغة المقررات الدراسية الأخرى (دينية وأدبية وعلمية) كي تنسجم مع هذا التوجه؟. الحنيني يكرر تأكيده أن علومنا الدينية كفتنا تعقيدات الفلسفة، وبالذات القرآن الكريم الذي حسم القضايا التي تتعلق بالكون والإنسان والطبيعة، لذا هو يقول: (ما وصلت إليه المقررات الفلسفية لبعض القضايا الكلية حول الكون والإنسان والطبيعة قررها القرآن بطريقة أحسن وأحكم وأسهل، والفلسفة تقررها بطريقة طويلة ومعقدة ولا يفهمها كل أحد، فنحن لسنا بحاجة إلى تعقيد المعارف على أبنائنا وأجيالنا بحيث نفقدهم التميز في إيصال المعارف الكلية الضرورية، مضيفاً: (كثير من الفلاسفة المنتسبين للإسلام رجعوا في آخر حياتهم واعترفوا أن طريقة القرآن والسنة أعظم وأفضل وأسهل وأوضح من الطرائق الفلسفية). خلاف ذلك يقول الحبيب: (بالنسبة للتعليم العام، المطلوب هو مبادئ الفلسفة ومدارسها الأساسية وأنواعها ومشكلاتها الرئيسة وتاريخها. وتدريس الفلسفة لا يتطلب إعادة صياغة للمقررات إلا إذا كانت تلك المقررات بالأساس تحتاج إلى إصلاح أو تطوير. أما التعليم العالي فلا بد أن يكون تخصصياً محترفاً). دور الفلسفة في الوعي العام إذا كان تدريس الفلسفة يرفع مستوى الوعي العام لدى المجتمع، ألا يزيد الصراعات والمعارك الفكرية بين التيارات الدينية والليبرالية؟. عبدالرحمن الحبيب يرى أن هذا التدريس سيرفع مستوى وعي الطالب وبالتالي المجتمع، لأنه كما يقول: (الفلسفة تخدم الطالب في تمكنيه من إقامة علاقة منطقية بين الفروض العلمية بعضها ببعض وبين المقدمات والنتائج، وتدعم الطالب في فهم أفضل الطرق للاستنتاج واتخاذ القرار. وحين ترفع الفلسفة وعي الطالب ثقافياً فهي ترفع وعي المجتمع. إضافة للمهمات الأخرى للفلسفة كشحذ الذهن وإطلاق روح المبادرة ورفع مستوى التأمل الفكري ومنح الفرد قدرة استقلالية في التفكير). بينما يرى ناصر الحنيني أنها ستزيد من التنظير والكلام الذي لا فائدة منه، بل يعتقد أن مشاريعنا وأعمالنا التنموية ستقل على حد قوله: (والله لا أظن أنه سيسهم في رفع مستوى الوعي بل يجعلنا نكثر من التنظير والكلام الذي لا فائدة منه، وتقل مشاريعنا وأعمالنا التنموية خصوصاً أن بعض كتابنا أخذ هذا المنحى الفلسفي في بعض صحفنا وكأنه يخاطب نفسه، لا يفهم كلامه إلا هو وليس له تأثير لا على النخبة ولا على العامة). أما قضية الصراعات والمعارك الفكرية، فالحبيب يرى الفلسفة حلاً لها لأنها تمنح مساحة للحوار، يعلل بقوله: (الفلسفة لا تختلف عن مقررات العلوم الاجتماعية والنفسية، بل إن الفلسفة بالمعنى التحليلي لها وليس التركيبي الذي تجاوزه الزمن، هي أقل صعوبة في ذلك ويمكنها بحكم طبيعتها الشكِّية أن تكون ساحة للحوار المتسامح أكثر مما في العلوم السياسية والاجتماعية والنفسية). الإشكالات العقائدية للفلسفة الرافضون لتدريس الفلسفة يبررون ذلك بقضية خطيرة تتعلق بإيمان الفرد المسلم، لارتباط ذلك بالإشكاليات العقائدية أو السياسية التي تسببها الفلسفة لدى الناشئة كون الشك أحد مناهجها وتحرير العقل من أبرز مكوناتها، في ضوء ذلك يقول الدكتور الحنيني: (مشكلة الفلسفة ليس الشك فقط بل الشك في كل شيء حتى في وجود الله وهذه كارثة الكوارث، وهنا نقول إنه لا يصلح أن يدرسها إلا نخبة النخبة، وفي الوحي الكتاب والسنة كفاية وغنية عن المقررات الفلسفية التي تهدم أكثر مما تبني ولا أظن أن منهجاً وكتاباً حرر العقل مثل القرآن والسنة، الذي يؤكد على التفكر والتأمل وذم من عطل العقل، بل حواره مع المشركين والملاحدة حواراً عقلياً راقياً لا يدرك عمقه وتأثيره إلا من تدبر القرآن وعقله وتعلمه)، لكن الدكتور الحبيب يوضح مسألة الشك التي تسبب لدى الكثيرين هاجساً عقائدياً، بقوله: (الشك هو في المسائل العقلية البشرية، أما المسائل الدينية والعبادات فهي نقلية (وحي) تعتمد على الإيمان الغيبي ولا يمسها الشك، المسائل الأولى نسبية والثانية مطلقة.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالفلسفة بمعناها التحليلي هي في الغالب ذات علاقة محايدة مع الدين، إلا أن المشكلة هنا هي في من يرفض هذه العلاقة المحايدة ويريدها علاقة منحازة، وذلك كمن يطلب من الرياضيات أن تكون منحازة للدين!). إشكالات الفلسفة الفكرية قضية الإشكاليات العقائدية تثير مسألة أخرى في سياق الرفض وهي علاقة الفلسفة بالتيارات والأفكار المادية والعلمانية، وكيف يتجاوزها المتلقي، يقول الحبيب: (أكرر أن علاقة الفلسفة مع الإيديولوجيات والعقائد هي غالباً علاقة حيادية، كما أن المنهج الفلسفي هو منهج احتمالي غير يقيني ويخلو من التعصب ومن ثم فهو يزيد من التفاهمات والاحترام بين التوجهات المختلفة.. وعن مسألة الأفكار المادية، فلا أفهم ما هي مشكلة الأفكار المادية فالعلم الحديث كله قائم على القوانين المادية). أما الحنيني فيؤكد هذه العلاقة ويعتبرها أساس فساد الحضارة الغربية، يقول: (هنا علاقة واضحة بين الفلسفة وبين الأفكار المادية والعلمانية لأن الحضارة الغربية المادية تأثرت كثيراً بالفلسفة اليونانية الوثنية التي أصلا معارفها بعيدة عن الوحي والرسالة ولهذا حصل نوع تطابق بينها ولهذا جزء من فساد الحضارة الغربية اعتمادها على الحضارة اليونانية في أصولها والتي أصبحت معادية للدين وللرسالات السماوية). الفجوة الحضارية أخيراً هل من الممكن أن يؤدي تدريس الفلسفة إلى حدوث فجوة حضارية بين جيل الأحفاد وجيل الأجداد، بحكم أن الأجداد لم يتلقوا الفلسفة، والأحفاد يراد لهم تدريسها؟ يجيب عبدالرحمن الحبيب: (الفجوة الحضارية بالأساس موجودة وقائمة منذ عقود. كما أن الفلسفة كمقرر لا يمكنها فعل هذا التأثير المبالغ فيه، بل يستحيل لأي مقرر دراسي لوحده أن يفعل ذلك). وفي رأي مشابه يقول الدكتور ناصر الحنيني: (نحن هنا أحفاداً وأجداداً لم ندرس الفلسفة ونحن أقوى مجتمع له ثقل علمي وشرعي على مستوى العالم).