ليس من المفيد الدخول في أتون الجدل حول المشاهد المصورة «الكليبات» لما جرى عند مبنى ماسبيرو، لأن كل طرف يعرض المشاهد التي تعضد وجهة نظره، وتؤيد مزاعمه، حتى إن مشهداً بعينه تم تفسيره على أنه دليل على قيام الأقباط بالاعتداء على جنود الجيش، فيما استند إليه آخرون على أنه يثبت اعتداء الجيش على المسيرة (السلمية) للأقباط! انشغل الكل في البحث عن كيفية وقوع الأحداث، وماذا فعل كل طرف أثناءها، بينما لم يهتم الكثيرون بالإجابة على السؤال: لماذا وقعت الأحداث أصلاً؟ لكن الأهم أن أي طرف لم يُقِر بخطئه، وهو ما يثير مخاوف من تكرار الأمر عند أول محك، ليس لأن القضية الطائفية مفروضة بقوة، أو لأن الملف القبطي يحتاج إلى حلول فقط، ولكن أيضاً لأن كل الأطراف ستسلك الطرق نفسها التي سارت فيها من قبل، لأنها تعتقد أنها تصرفت التصرف السليم وأن الأطراف الأخرى فقط هي التي تخطئ. وإذا كان الرئيس السابق حسني مبارك فشل في توريث ابنه الحكم، فإنه نجح في توريث ثقافة عدم الاعتذار لمصريين كُثر وفي طليعتهم ممثلوهم في النخب السياسية بل والدينية أيضاً، فباتت كل الأطراف تتصرف بعد الثورة وكأنها وحدها على الساحة من دون اعتبار لمصالح أطراف أخرى، وأن على باقي ألوان الطيف السياسي والديني أن تقبل بأن يسود لونها وحدها! هذا السلوك يعطي الراغبين في الصيد في الماء العكر فرصاً لا حصر لها لصبِّ مزيد من الزيت على النار فتوزِّع صوراً مؤثرة للمأساة، ويُكْتَشَف بعدها أنها مزيفة أو قديمة أو أنها وقعت في بلدان أخرى، وتمنح الفضائيات مساحات واسعة لتبني وجهة نظر هذا الطرف أو ذاك، وزيادة معدلات التحريض، لتضمن مزيداً من ساعات البث ولو على حساب جثث الأبرياء. لا مجال لسرد عشرات الكوارث التي ارتكبها النظام السابق، وكان يمكن تجاوز آثارها لو خرج مسؤول، وقدَّم اعتذاراً لهذه الفئة من الشعب أو تلك، فالنظام فاتته فرص بعد تفجر الثورة لينجو، لكنه أضاعها كلها لتأخره أو لخطئه في تفسير ما يجري أو لتعنته في الإقرار بأخطائه، فكان جزاؤه التنحي. لكن المجال يتسع لرصد أخطاء وقعت فيها الأطراف الفاعلة في المشهد المصري وبينها المجلس العسكري وحكومة الدكتور عصام شرف والنخبة السياسية والمؤسسات الدينية وتسببت في زيادة وطأة معضلات المرحلة الانتقالية على الجميع، ما كان سبباً أيضاً في تفويت فرص لتجاوز بعض آثارها. ولو كان الطرف المخطئ أقدم على الاعتذار عن خطئه، لهدأت الأطراف الأخرى، وقبلت الاعتذار، وهدأت ثورتها. كان من المتصور أن يبدأ المؤتمر الصحافي للمجلس العسكري باعتذار عن خطأ ارتكبه الجنود تسبب في وقوع ضحايا بين المتظاهرين، والإعلان عن تحقيق داخل الجيش للوقوف على أسباب الخطأ ومحاسبة المقصرين أو المتسببين، ثم يبدأ قادة المجلس في تفسير ما جرى كما فعلوا، وحتى لو صدقت روايات عن وقوع اعتداءات على الجيش فإن الاعتذار والإقرار بالخطأ واجب لتجاوز الأزمة، لأن الجيش بكل بساطة هو الطرف الذي يفترض أنه الأقوى من حيث العدد والتسليح، حتى لو كانت أعداد المتظاهرين هائلة أو أن بعضهم حمل أسلحة أو آلات حادة أو أن جنود الجيش لم تكن بنادقهم تحوي رصاصاً حياً. الأمر نفسه ينطبق على الأطراف الأخرى كلها، لم يعترف أي منها بخطأ وبالتالي لم يعتذر! ويمثَّل انهيار تحالفات الأحزاب في شأن الانتخابات البرلمانية المقبلة نموذجاً آخر للتعنت و «الكِبر» والرغبة في القفز فوق حقوق الآخرين، فالصراع المشروع بين القوى السياسية للتنافس على المقاعد البرلمانية وصل إلى حد الرغبة في الإقصاء، ما يؤكد أن أمراض النظام السابق انتقلت إلى حكام المستقبل، أما الوعود التي قطعها كل فصيل سياسي على نفسه عن التوافق والمشاركة والتعاون في بناء الدولة الحديثة فلم يجرؤ فصيل أو حزب أو حركة واحدة على الإقرار بأنها كانت مجرد كلمات تناسب مرحلة مرّت لتأتي مرحلة أخرى لا مجال فيها إلا للاستحواذ، والمبررات دائماً جاهزة... ولا مجال أبداً للإقرار بخطأ يستوجب الاعتذار... فهؤلاء لا يعرفون أصلاً فضيلة الاعتذار.