يدرك العارفون بواقع المجتمع المصري مدى حضور ملف الأقباط في الحياة السياسية المصرية، بعدما ظهر بشدة في عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي تولى الحكم في مصر في الفترة ما بين 1971 و1981، وترك في هذا الملف ارثاً يعتقد الكثيرون أن معالجته ليست سهلة في ظل الأوضاع الراهنة، اذ تحول إلى كرة من النار لا تكاد تهدأ، أملاً في انحسارها، حتى تشتعل مجدداً. واكتسب الملف بعداً جديداً منذ دخول منظمات أقباط المهجر بفروعها المنتشرة في أوروبا وكندا وأميركا واستراليا على محور الأحداث، فأخرجت الملف من دائرته المحلية إلى نطاق عالمي، في دور يراه بعضهم حقاً مشروعاً بينما يشكك آخرون في مغزاه. ويرفض مدحت قلادة المدير التنفيذي لاتحاد المنظمات القبطية في أوروبا، ومقره سويسرا، في حواره مع «الحياة»، التشكيك في صدقية الاتحاد وجدية نياته في التعامل مع هذا الملف، ويقول: «التشكيك في عملنا هو لتحويل الأنظار عن المشكلة الحقيقية، ولمواصلة سياسة الإنكار التي تتبعها الحكومة المصرية تجاه قضايا الأقباط، ولا تهدف إلى حل مشكلاتهم المتفاقمة». ويؤكد قلادة وجود شخصيات مهمة في الحياة السياسية المصرية تعي جيداً مشكلة الأقباط وحجمها، «مثل مصطفى الفقي عضو لجنة السياسات الخارجية في مجلس الشعب المصري، لكنهم لا يستطيعون تحريكها نحو الحل المنطقي والطبيعي الذي يترقبه الجميع، لسبب مجهول، لا يعلمه سوى هؤلاء المؤيدين الصامتين». لكن هذا الاعتراف من بعض الساسة والبرلمانيين يقابله في الوقت نفسه تصريحات من رموز النظام تثير حفيظة اتحاد المنظمات القبطية في أوروبا. ويقول قلادة: «ننظر بدهشة شديدة إلى تصريح أمين السياسات في الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم في مصر جمال مبارك، حين وصف قبل أيام في حديثه مع مجموعة من الباحثين الجامعيين، من يطالبون بنسبة للأقباط في البرلمان المصري ب «المخربين الذين يهدفون إلى تخريب النسيج الوطني» متوقعاً الا ننجح في ما نرغب فيه، لكن جمال مبارك وعد بأنه لن يأخذ الموضوع باستخفاف معترفاً بأن الأقباط لديهم مشاكل مطالباً بحلها «عبر الحوار الهادئ وليس بتسييسه من طريق أفراد في الداخل أو الخارج». ويضيف قلادة إن تلك التصريحات «مرفوضة جملة وتفصيلاً، لأنها تخوين لنا وكأننا أعداء الوطن ولسنا أبناءه، ثم هي تهديد لا يجب أن يصدر من شخصية ريادية في الحزب الوطني الديموقراطي». ويشير قلادة إلى «حق الأقباط في المجاهرة بمشكلاتهم، بل كان من المفترض من شخصية في حجم مبارك أن تقارع الحجة بالحجة وترد على أدلتنا بالبراهين التي تثبت عكس ما نقول، لأن الأقباط لا يزعمون أو يروجون لأشياء لا تحدث، بل إلى وقائع واضحة كالشمس». ولا تغيب الكنيسة القبطية الرسمية عن الجدل بين الحكومة ومنظمات الاقباط في الخارج، فالكنسية هي رسمياً الممثل الوحيد للأقباط في مصر، لكن المنظمات القبطية الأوروبية تنظر إلى الكنيسة على أنها «مؤسسة دينية لها استقلاليتها وحريتها الكاملة في مواقفها السياسية، لأنها في النهاية مؤسسة لها حساباتها». ويشير قلادة إلى استقلالية منظمات الأقباط في المهجر، «فهي مؤسسات حقوقية دولية تعمل انطلاقاً من مبادئ القانون الإنساني الدولي ومعايير حقوق الإنسان»، متسائلاً عن اسباب كل هذا القلق والتوتر «عندما نكشف عن مظالم تعرضنا لها، أليس كل ما نقوله تعبير عن واقع تحاول الحكومة المصرية أخفاءه والتستر عليه؟». ويرفض أقباط المهجر النظر إليهم على أنهم «يشترون ولاء الغرب مقابل مصالح خاصة ويستقوون بالكونغرس الأميركي والإتحاد الأوروبي، ليضعوا مصر في مآزق تضعف من مكانتها الإقليمية والدولية تنفيذاً لمخططات دولية تهدف إلى تقويض دور مصر في الشرق الأوسط واغراقها في مشكلات داخلية». ويقول قلادة: «نشاطنا انطلق في الخارج لأن الحكومة المصرية دأبت على اتباع نظام الإقصاء السياسي لجميع المعارضين، فأنهت احزاب المعارضة وجعلت ما بقي منها واجهة لا تقدم ولا تؤخر في الحياة السياسية، غير عابئة بتاريخ مصر وحضارتها ومكانتها المتميزة كمنارة تنوعت اطيافها الإجتماعية والسياسية، فغطت الشرق بنور اشعاع الحضارة والفكر من دون تعصب أو تعنت أو كراهية». ويطالب الحقوقي القبطي «من يرددون المزاعم بالعمالة» بتقديم أدلتهم، مستشهداً بأن «جميع أقباط المهجر من الناجحين والمرموقين في مجالات عملهم في أوروبا أو أستراليا أو الولاياتالمتحدة أو كندا، وهم وطنيون حملوا هموم مصر معهم وليسوا من الباحثين عن أموال من طريق خيانة الوطن، وما يفعلونه هو لإنقاذ البلاد من التردي السياسي الذي تعيش فيه». ويلخص أقباط المهجر مطالبهم في الحصول على ما يوصف ب «التمييز الإيجابي»، والإنتخاب بالقائمة لضمان حصول الأقباط على التمثيل المناسب في الحياة السياسية، وضرورة إضافة كلمة «مصادر أخرى» إلى البند الدستوري المتعلق بمصدر التشريعات القانونية في الدولة، ومحاسبة من تثبت ادانتهم في الأحداث الطائفية التي تشهدها مصر في شكل قانوني يحترم هيبة الدولة، وليست جلسات المصاطب التي تعيدنا إلى العصور الوسطى، والكف عن الإستهتار بحقوق الإقباط وحرمانهم من ممارسة حياتهم في شكل طبيعي»، كما يقول قلادة. ويوضح ان الأقباط يرحبون ب «التوصيات المذكورة في تقرير المستشار جمال العطيفي الصادر عقب أحداث الخانكة في القاهرة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1972، والتي على رغم أهميتها وصدقيتها العالية لم تنفذ، ما يوحي بأن هناك من يزكي نار الفتنة ويرغب في تصعيد المشكلة». بين الدولة والمواطن ويدفع هذا الجدل الدائر حول حقوق الأقباط في مصر إلى البحث في العلاقة بين الدولة والمواطن التي تثير اهتمام رجال القانون بصفة خاصة، في محاولة لتوضيح أكثر عمقاً لمفهوم «المواطنة» ومسؤولية الدولة تجاه المواطن الذي يجد نفسه في جميع الدول العربية تقريباً مطالباً بتنفيذ ما عليه من التزامات من دون أن يضمن له أحد حصوله على حقوقه كاملة. وفي الوقت نفسه ينظر بعض خبراء القانون الدولي إلى أوضاع الأقباط في مصر على أنها «مثال لمشكلة تطبيق المواطنة بمفهومها الصحيح وفق معايير القانون الإنساني الدولي في المجتمعات المتعددة الأعراق والديانات»، ويقول رئيس اتحاد المنظمات القبطية في أوروبا عوض شفيق ل «الحياة»: «أوضاع الأقباط في مصر شاهد على التناقض بين الدستور وما يعايشه الأقباط على أرض الواقع». ويتابع شفيق وهو في الوقت نفسه باحث في «المعهد العالي للدراسات الدولية» - جامعة جنيف: «ينص الدستور على المساواة بين الجميع، لكن الواقع يقول ان هناك تمييزاً واضحاً بين المصريين على أساس الانتماء الديني، وهو ما يمكن معالجته في إطار حل شامل سيتم تقديمه إلى السلطات المصرية عبر القنوات الشرعية». ويضع شفيق في دراسة قانونية له حول أوضاع الأقباط في مصر تعريفاً قال انه «الأول من نوعه ويسعى لتوضيح الصورة» وفيه ان «الأقباط هم مجموعة من مواطني مصر، يشكلون أقلية عددية ويشغلون وضعاً مهمشاً في الدولة ويتصفون بخصائص دينية ولغوية مختلفة عن خصائص غالبية السكان، ولديهم إحساس بالتضامن في ما بينهم وتدفعهم إرادة جماعية للبقاء بهدف الوصول إلى المساواة مع الغالبية واقعاً وقانوناً». وتشير الدراسة إلى أهمية استحداث ما تصفه «نظاماً تشريعياً جديداً، يوفر البيئة المناسبة لوضع القوانين من دون تمييز على أسس دينية، وتكسر الحواجز النفسية التي يضعها النظام التشريعي الحالي أمام القضاة عند إصدار أحكام يكون الأقباط أحد طرفي النزاع فيها». ويعطي شفيق مثالاً على ذلك صيانة دور العبادة، اذ «تتطلب من الأقباط الحصول على موافقات متعددة تنتهي في الأغلب بتجميد الطلب من دون سند قانوني، ما يؤدي إلى إغلاق الأديرة أو الكنائس، حتى وإن كانت ذات قيمة أثرية مثل دير أبوفانا في المنيا في صعيد مصر». ويشير إلى «حرية الإعتقاد والدين التي لا يتساوى فيها الأقباط مع المسلمين في مصر أمام القانون، ومشكلات الطلاق والأحوال الشخصية لغير المسلمين، فضلاً عن وجود قيود غير معلنة على التحاق الأقباط بالجيش والشرطة والسلك الديبلوماسي وحتى التخصص في بعض فروع الطب مثل أمراض النساء والتوليد». وتهدف دراسة عوض شفيق إلى وضع الملفات المتعلقة بأوضاع الأقباط كافة أمام الهيئات التشريعية المصرية ومعها الحلول المقترحة استناداً إلى ما وصفها «ممارسات يتعرض لها الاقباط في مصر ولا يجب النظر إليها على أنها حالات فردية، بل سياسة ممنهجة تتبعها الدولة ضد المجتمع». ويجد أن الحديث عن «اللحمة الوطنية» و «النسيج الإجتماعي المتجانس» ما هو سوى «حديث مستهلك عفا عليه الدهر، اذ تشير الوقائع إلى عكس ذلك». ويسأل: «كم هي نسبة المصريين الذين يعرفون ما يتعرض له الأقباط في بلادهم؟». ويحذر شفيق من خطورة التعامل مع الاقباط على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، «إذ من شأن هذا أن يفاقم من حجم المشكلة ويجعلها في أعين المراقبين في الخارج وكأنها مثل دارفور أو غيرها من بؤر الصراعات المنتشرة على أساس ديني أو عرقي». ويشدد على أن القانون يجب أن يكون خالياً من التمييز الديني عملاً بقوانين حقوق الإنسان العالمية والاتفاقات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر والتزمت بها. المواجهة التالية بين الحكومة المصرية واتحاد المنظمات القبطية في أوروبا ستكون أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف أثناء الاستعراض الدوري الشامل لملف مصر في عام 2010. ويؤكد مدحت قلادة أن المجلس «سيطلع على ملفات كاملة توثق مشكلات الأقباط لتوضيح الأوضاع بأبعادها الحقيقية وبشهادة الشهود والوقائع التي تفرض نفسها بعيداً من المجاملات والمغالطات». ويؤكد محللون أن هذا الاستعراض الدوري أمام مجلس حقوق الإنسان سيكون أول تجربة لفتح ملف الأقباط أمام منظمة تابعة للأمم المتحدة، ما قد يشكل حرجاً كبيراً للحكومة المصرية، لكن الأقباط يعتقدون أنه لم يكن بالإمكان الحيلولة دون مثول مصر أمام مجلس حقوق الإنسان للنظر في ملفهم بعد كل الإهمال المتعمد لقضاياهم.