سألت "الوسط" الأمين العام ل"الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين" السيد نايف حواتمه عن لقاءاته مع جمال عبدالناصر وهواري بومدين والعقيد معمر القذافي وقادة يمنيين، وكذلك عن الاتحاد السوفياتي. ونقل حواتمة عن عبدالناصر ان الرئيس الراحل أنور السادات فضّل الذهاب الى السينما ليلة "ثورة 23 يوليو" ليتمكن من التبرؤ منها في حال فشلها. وقال إن عبدالناصر كان يتوقع اندلاع الحرب في حزيران يونيو 1967 لكنه كان يعتقد بأن اسرائيل لن تستطيع اجتياز الحدود الدولية. وتحدث حواتمة عن لقائه الأول مع القذافي حين رأى أمامه "شخصية وثّابة" تتوق الى إحراق المراحل. وينفي القائد الفلسطيني ان تكون "الجبهة الديموقراطية" شاركت في عمليات اغتيال أو خطف للأجانب. ويؤكد ان اياً من القادة الفلسطينيين لم يعترض في النهاية على مغادرة بيروت بعد الغزو الاسرائىلي للبنان في 1982. ويتوقف حواتمة عند انهيار الاتحاد السوفياتي وهو انهيار "لم يتوقعه أحد"، لكنه يقول ان فترة الحداد على هذا الانهيار انتهت. وهنا نص الحلقة الثانية والاخيرة: هل التقيت عبدالناصر كثيراً؟ - مرات عدة. والحقيقة ان عبدالناصر شخصية تاريخية في حياة شعوبنا ومنطقتنا والعالم الثالث. وهو لم يتمكن من إكمال المشوار بعدما راوحت الثورة الوطنية الديموقراطية المصرية في منتصف الطريق تحت ضغط عدوان 1967 ثم رحيل عبدالناصر الذي فتح كل الأبواب لأن تنقلب الناصرية على نفسها وعلى يد جناحها اليميني ممثلاً بالسادات وفريقه. وعبدالناصر شخصية تاريخية في الحياة العربية الحديثة، واذا أرّخنا لمنطقتنا فإن المشروع النهضوي العروبي المعادي للاستعمار والتخلف والتجزئة للبلدان العربية يأتي في الذروة بعد تجربة محمد علي الكبير، وشخصية عبدالناصر بآفاقها كانت تتسع لفضاءات من التلاقي المشترك ولطيف واسع من استيعاب التباينات. وأشير الى كتاب محاضر اجتماعات عبدالناصر مع الرؤساء والملوك العرب التي نشرها الاستاذ عبدالمجيد فريد سكرتير رئاسة الجمهورية المصرية في زمن عبدالناصر. وقد خرج الكتاب في طبعات عربية واخيراً انكليزية. قال عبدالناصر للملك حسين، في واحد من لقاءاته معه وتحديداً في آب اغسطس 1970: اعلم ان هناك ضغوطاً خارجية عليك من اجل ان تصطدم بالمقاومة الفلسطينية وأتمنى ان تتحاشى ذلك، وطلب منه ابداء ملاحظاته على المقاومة الفلسطينية. وحين أكمل الملك حسين قال له عبدالناصر هناك من هم اصحاب سياسة بناءة ومعقولة أنصح بالبحث معهم. وسمى "الجبهة الديموقراطية" ونايف حواتمة. ألم يشر الى ياسر عرفات؟ - هذا ما ورد في المحاضر. هل تذكر حادثة معينة في لقاءاتك مع عبدالناصر؟ - الأهم في اللقاءات كان الأفق الواسع الحواري نحو استكمال مقومات المشروع النهضوي الوحدوي العربي. كان ايمان عبدالناصر عميقاً بأن لا حياة للبلدان العربية وهي منقسمة على نفسها مهما حاولت ان تتقدم في الصناعة أو الزراعة او الحداثة، لأن مقومات البلدان العربية ومكوناتها تتكامل حتى يصبح ممكناً النهوض بمشروع شامل يؤدي فعلاً الى الاستقلال الوطني والقومي وفك عرى التبعية والاستعمار والامبريالية والوقوف في وجه المشروع التوسعي الاسرائىلي الصهيوني. وقال عبدالناصر، في احد أحاديثه عن مجلس قيادة الثورة، ان عدداً من رؤساء تحرير الصحف الأوروبية الكبرى جاءه في احد الأيام، وسأله عن دور كل واحد من اعضاء مجلس قيادة الثورة، فأبرز دور كل شخص وسَّلم صورة له ما عدا السادات. وأبلغ رؤساء تحرير الصحف ان السادات انتهى دوره صباح 23 تموز وبات حضوره شكلياً في مجلس قيادة الثورة. وكان السادات في ذلك الوقت رئيس تحرير جريدة "الجمهورية"، وكان ذلك في الخمسينات من القرن الماضي. وذهب اليه رؤساء التحرير ونقلوا الرواية... وضحك الرئيس عبدالناصر طويلاً وذكر ان السادات اتصل به ليسأله هل أعفي من عضوية مجلس قيادة الثورة. الطريف ان عبدالناصر تكلم على سلوك السادات ليلة الثورة اذ جاء الى القاهرة، وذهب الى السينما بدلاً من الذهاب الى بيت عبدالناصر ليتعرف الى دوره، حتى اذا فشلت العملية الانقلابية يكون في حرز حريز واذا نجحت ليس من الضروري ان يكون على علم بالموعد الدقيق لها. يمكن ان اتذكر لقاء آخر، بعدما اغلق الرئيس عبدالناصر مضائق تيران وطلب من قوات الاممالمتحدة الرحيل لتصفية ما بقي من آثار 1956. كنا في الجزائر نشارك في ندوة للاشتراكيين العرب نظمها الرئيس بومدين. وعندما وصلنا الخبر قدمت مداخلة وتمنيت على المشاركين تشكيل وفد للقاء الرئيس عبدالناصر ونصحه بضرورة اعادة قوات الأممالمتحدة الى مضائق تيران. وقدمت اجتهاداً مفاده ان الاوضاع العربية المحيطة باسرائيل ليست جاهزة لحرب يمكن ان تؤدي الى النجاح وبالتالي لا حاجة الى هذه الخطوة التي يمكن ان تستخدمها اسرائيل مبرراً لشن عدوان واسع على مصر. في ذلك الوقت كانت خيرة القوات المصرية لا تزال مشتبكة في اليمن، في الصراع الدائر بين قوات الجمهورية وقوات الإمامة. ويومها رد عليَّ الاستاذ كمال رفعت، وكان رئيساً لوفد مصر الى المؤتمر، فأكد ان بلاده تمتلك أكبر جيش في الشرق الاوسط وأن لا خوف وأن إمكان ردع العدوان متوافرة. وسادت المؤتمر اجواء عاطفية ولم يؤخذ باقتراحي. عدنا من الجزائر الى القاهرة والتقينا الرئيس عبدالناصر، وكنت أنا ومحسن ابراهيم الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي. تكلمنا على احتمالات العدوان ومدى الجاهزية المصرية وقدمت الاقتراح نفسه. وهنا طلب الرئيس من مدير مكتبه الاستاذ سامي شرف ان يأتي بملف. وفتح الرئيس الملف وكله رصد تصويري جوي قام به الطيران المصري للمطارات والمؤسسات العسكرية الاسرائىلية، وقال انه يرجح بنسبة 99 في المئة حدوث العدوان، لكن الجاهزية المصرية عالية وستقع خسائر كبرى في الطرفين ولن يتمكن اي منهما من اجتياز خطوط 4 حزيران. وذهبنا الى بيروت وحصلت الحرب. الجزائر وبومدين ربطتك بالجزائر علاقة قوية. كيف بدأت؟ - تعرفت الى بن بله وكثيرين من قادة الثورة الجزائرية حين كانوا يترددون قبل انتصار الثورة على عواصم المشرق. لكن ما هو أبعد من المعرفة العامة ان علاقات الحوار والنضال والسياسة أخذت اتجاهها مع الرئيس هواري بومدين. هل كان بومدين شخصية مهمة من وجهة نظرك؟ - نعم. شخصية استراتيجية ذات تكوين سياسي وفكري يساري تطورت في مجرى تجربة الحكم واكتسبت ابعاداً عملاقة جزائرياً ومغاربياً وعلى مستوى العالم الثالث. وتمكن بومدين، مع انه كان انقلاباً على يمين بن بله، من وضع الجزائر امام سلسلة من الخيارات الاستراتيجية لتحرير الثورة الوطنية، بما فيها تأميم النفط ليشكل العمود الفقري لمسيرة الدولة ومراكمة رأس المال من اجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وخيار التصنيع الثقيل والاصلاح الزراعي والثورة التعليمية. فضلاً عن دور مساندة قوى التحرر والتقدم في العالم الثالث. ولعب بومدين دوراً كبيراً في حركة عدم الانحياز وفي بناء جبهة الصمود العربية. هذه الخيارات الاستراتيجية لم تأخذ مداها. وهنا تتقاطع مشكلة التجربة البومدينية مع التجرية الناصرية، اذ اعتمدت على النفوذ الشخصي في صفوف الجماهير العريضة والبطريركية الابوية تجاه هذه الجماهير. وبومدين، مثل عبدالناصر، لم يفتح المجال لبناء حياة حزبية واتحادات نقابية عمالية وفلاحية ومهنية واجتماعية في ظل تعددية ديموقراطية. ولذلك لم يخِّلف كل منهما وراءه الدوافع المنظمة، الحزبية والسياسية والنقابية المجربة التي تحمي ما انجز وتعمل على تطويره لمقتضيات العصر. كان بومدين مثقفاً وكثيراً ما جرى حوار بيننا حول ضرورة الا يكرر تجربة عبدالناصر الذي غادر من دون بناء حياة حزبية واتحادات نقابية. وكنت دائماً أتمنى عليه ان يستخلص دروس التجربة الناصرية، خصوصاً بعدما تبدى بوضوح ما فعله ارتداد السادات. وكان يعطي أجوبة ويقول: يا سي حواتمة انت مستعجل كثيراً علينا، نحن نعي دروس التجربة الناصرية ولدينا مدى زمني. وكان يعتقد بأن امامه اكثر من عقد من السنين. وكما تعلم بومدين انتهى، بمقاييس السبعينات، شاباً ولم يكن تجاوز ال52 سنة من العمر. اليمن وعبدالفتاح اسماعيل ربطتك علاقات بالقيادات اليمنية، بمن كانت علاقتك وثيقة، بعبدالفتاح اسماعيل؟ - جذور هذه العلاقات هي اننا كنا معاً في حركة واحدة، هي حركة القوميين العرب. وتأصلت هذه الجذور وتعمقت في مجرى تجربة الثورة اليمنية باعتبارها حركة تحرر من الاستعمار ومن السلطنات الاقطاعية وتندفع في اتجاه توحيد مجموع جنوب اليمن الذي كان يحوي في ذلك الوقت 21 سلطنة، اضافة الى مستعمرة عدن، وفي اتجاه تلبية امل هذا الشعب الذي عانى مئات السنين العذابات وتطلعه نحو عدالة اجتماعية تشكل الوجه الآخر للنضال من اجل التحرر من الاستعمار وتوحيد جنوب اليمن. وهذا ما دفع بتجربة الجبهة القومية في جنوب اليمن وفرع حركة القوميين العرب ايضاً في شمال اليمن الى الاتجاه اكثر فأكثر يساراً، خصوصاً ان ثورة 26 أيلول سبتمبر 1962 اعلنت عن نفسها في مناخات وطنية يمنية وبآفاق ناصرية تبنت الاتجاه الايديولوجي والبرنامجي من اجل التقدم الذي اخذت به الناصرية. وتعمق هذا في ظل المشاركة المصرية على يد عبدالناصر في الدفاع عن الجمهورية وحق شعب اليمن في التقدم. في هذا المجرى من التطور، ان الحركة القومية في اليمن بمجموعها وفي المقدمة منها الجبهة القومية، اتجهت يساراً. وفي ذلك السياق الزمني، نحن الجيل الفتي في الحركة القومية، كنا تحت تأثيرات الناصرية وتحولاتها العميقة في تصفية الاقطاع والاصلاح الزراعي والتأميمات وبناء قطاع الدولة وتقديم شبكة من الضمانات الاجتماعية، وتحت التأثير المتزايد لأفكار الاشتراكية العلمية. وهنا وقت المساحات الواسعة المشتركة بيني وبين القيادات اليمنية في عدنوصنعاء. وكنت مساهماً رئيسياً في مجرى التطورات التي جرت في جنوب اليمن وبخاصة في برنامج المؤتمر الرابع للجبهة القومية الذي انعقد في زنجبار عاصمة محافظة أبين عام 1968. وكنت علاقاتنا مع الاتجاه اليساري العريض الذي نما وتطور في صفوف الجبهة القومية التي قادت النضال نحو الاستقلال. وفي مقدم هؤلاء عبدالفتاح اسماعيل وعلي عنتر وسالمين وصالح مصلح وهادي شايع وعلي سالم البيض. هؤلاء الذين كانوا في الصف الأمامي. كما كانت لنا علاقات حميمة مع الاتجاهات الوسطية، وفي مقدمها فيصل الشعبي قريب قحطان الذي كان اول رئىس جمهورية. وقبل الاستقلال شاركت مع هؤلاء في كل الحوارات التي تمت في القاهرة مع الفصائل الاخرى الجنوبية، ومع الدولة المصرية، لأن عبدالناصر أصر في ذلك الوقت على تبني جبهة التحرير الوطنية التي كانت برئاسة عبدالله الاصنج ومحمد سالم باسندوه. وكنا مع تبني الجبهة القومية واتجاهها. وفي ذلك الوقت ايضاً برز أحد عناصر الروح الاستقلالية عندما قامت الاجهزة المصرية بعملية انقلابية في 17 كانون الثاني يناير 1966 داخل الجبهة القومية برئاسة طه مقبل، وأعلنت الوحدة مع جبهة التحرير الوطنية. واتخذنا نحن موقفاً الى جانب يسار الجبهة القومية التي كان من عناوينها البارزة عبدالفتاح اسماعيل والذين ذكرت. وضغط عبدالناصر يومها على قيادة حركة القوميين العرب لاعلان تنصلها من الجبهة القومية في جنوب اليمن. وصدر فعلاً مثل هذا الاعلان. وفي المقابل اصدرتُ بياناً آخر معلناً التمسك بالجبهة القومية وخطها وبرنامجها للاستقلال، بينما الغالبية في امانة حركة القوميين العرب، وكانوا ثلاثة اخوة أصدروا باسم الامانة بياناً أعلنوا فيه فك العلاقة مع الجبهة القومية وذهبوا الى تعز في 1966، وحاولوا اقناع قيادة الجبهة القومية بذلك، الا ان القيادة رفضت. ومن هنا كانت وشائج العلاقات عميقة وحميمة وواسعة بيني وبين قادة اليمن الديموقراطية. وبجوار هذه العلاقات كانت هناك علاقات حميمة مع غالبية قيادات ثورة 26 أيلول في صنعاء وبخاصة السلال وآخرين. الماركسيون العرب لم يحكموا هل يمكن القول ان المكان الوحيد الذي حكم فيه الماركسيون العرب هو اليمن؟ - أنا لا اعتقد بأن الماركسيين العرب وصلوا الى الحكم في اي بلد من البلدان العربية. وما حصل في جنوب اليمن ان الجبهة القومية التي تبنت الماركسية هي التي حكمت. لكن برنامجها وتكوين قياداتها كان تكويناً تقدمياً عموماً، ولم يكن تكويناً ماركسياً، ومستوعباً ضرورات اشتقاق البرامج الضرورية من المنهج الاشتراكي العلمي في سياق المرحلة التي يمر بها اليمن الجنوبي، وهي مرحلة استكمال مهمات التحرر الوطني الديموقراطي الذي يعني التقدم الاقتصادي والاجتماعي وكذلك ضرورة تدخل قطاع الدولة وتوفير أقصى ما يمكن من العدالة الاجتماعية من رعاية طبية وصحية ودمقرطة التعليم. هل قمت بوساطة عشية احداث كانون الثاني؟ - تقصد كانون الثاني 1986. هذا صحيح، وأكثر من مرة كانت لنا جهود اخوية مع رجالات البلاد. لقاء صاخب مع القذافي هل تذكر اللقاء الأول مع العقيد معمر القذافي، وما هي انطباعاتك والشيء اللافت فيه؟ - لقاؤنا الأول مع الأخ العقيد معمر القذافي كان في ربيع 1972، وفي ذلك السياق الرابط بين الوطنية والقومية والمحتوى الطبقي والاجتماعي والسياسي وتصاعد النضال على محاوره الفلسطينية والعربية والعالمية، والجبهة القومية الداعية الى برنامج يربط بين الشخصية الوطنية الفلسطينية وبين الضرورة المشتركة القومية وبين الصراع من اجل التحرر والاستقلال والتحولات الاجتماعية الواسعة والتنويرية بديلاً من النظرة الكلاسيكية الى الوطنية والقومية وتطويراً جذرياً لمعركة التحرير والاستقلال من كونها شعاراً ونشيداً وعلماً لمعركة من اجل خدمة الاكثرية الساحقة من الشعب... فالنضال يتم على هذا الأساس. هذا الطرح يعتبر جديداً في عالم حركة التحرر العربية والعالمية وتطويراً متواصلاً للتجربة التي مرت بها ثورة تموز المصرية وجواباً بديلاً من هزيمة حزيران 1967، اذ لا يمكن مواجهة الهزيمة ببرامج وادوات تقف في منتصف الطريق من العملية الوطنية. وبهذا كان اللقاء غنياً صاخباً عاصفاً، بل كان حاداً بين برنامجين. حاولنا فحص المساحات المشتركة واكتشافها، الى ان وصلنا في المحطة الاخيرة الى مساحة مشتركة ختمها العقيد القذافي بقوله: "انتم اناس شجعان صريحون في طرح الافكار والبرامج وإن اختلفنا. واحترم شجاعة الفرسان، واعتبر منذ هذا اللقاء ان ابواب النضال والتعاون المشترك بيننا سالكة". وعلى امتداد اللقاء رأيت امامنا شخصية شابة وثابة، طموحاتها الوطنية والقومية مبنية على التطلع نحو حرق المراحل بأمل الوصول بليبيا والأمة العربية الى حالة متحدة بسرعة البرق. لكن هذا الطموح يحتاج الى البرنامج الملموس المتكامل الذي يمكِّن من بناء مشروع نهضوي وطني بمحاوره الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمشروع القومي بمحاوره العلمية. وفي ظل هذا الانطباع يتمحور العنصر الرئيسي في شخصية الاخ العقيد وروحه الوطنية والقومية الوثابة التي تطمح الى حرق المراحل وصولاً الى مجتمع سعيد في صفوف اعلى درجات المساواة بين ابنائه. وكرر طويلاً ان ثورة الفاتح دخلت مرحلة الغاء الدولة وبناء مؤسسات تقوم على التسيير الذاتي لشؤون المجتمع، مستشهداً بالرئيس البلغاري جيفكوف الذي اسمعه بعد واحدة من جولات الحوار بينهما ان الثورة الليبية دخلت مرحلة الغاء الدولة في الوقت الذي يشكل هذا الامر طموحاً بعيد المدى لبلغاريا وللدول الاشتراكية الاخرى. بينما كان الحوار من جانبنا يتركز على ضرورة بناء دولة عصرية تندفع نحو الحداثة والتنوير بمقدار ما تنجز الثورة التعليمية والتكنولوجية والبنية الزراعية والاقتصادية الحديثة. وهذا يتطلب هيكلة الدولة على أسس حديثة وإحياء حياة حزبية نقابية لا حدود عليها، مستندين في هذا الى عثرات تجربة ثورة تموز المصرية وثورة بومدين في الجزائر، وشروط تجاوز القصور البرنامجي في هذه التجارب. تجربة الأردن في 1970 هل أخطأت في سنة 1970 في الأردن؟ فماذا تقول عن دورك آنذاك؟ - نحن قدمنا في ذلك الوقت مراجعتنا النقدية الشجاعة والشاملة والعلنية الى كل شعبنا والعالم وأمام المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقدت دورته في حزيران 1971 في القاهرة. قدمت هذه المراجعة النقدية شخصياً. وكان هذا مثار اعجاب واستغراب في وقت واحد. اعجاب من كل الناس الذين يؤمنون بضرورة الروح الديموقراطية النقدية في مجرى النضال والتعاطي مع الجماهير، واستغراب من القوى التي تتستر على الاخطاء. كذلك نحن الذين رفضوا ودانوا كل عمليات منظمة "ايلول الأسود" والعمليات الشبيهة الموجهة ضد شخصيات اردنية أو عربية. ألم تشاركوا في اغتيالات؟ اتستطيع الجزم بذلك؟ - مطلقاً. في كل حياة الجبهة الديموقراطية هذا اسلوب رفضناه، طريق رفضناه. ألم تستهدفوا أجانب، أو تخطفوهم؟ - نحن في الجبهة الديموقراطية؟ مطلقاً. يعني لم تشاركوا في اي عملية اغتيال، ولم تشاركوا في خطف أجانب. - هذا صحيح تماماً... نحن في الجبهة الديموقراطية على امتداد 25 عاماً في الثورة والانتفاضة نؤكد هذا تأكيداً شاملاً. هل ذهبت الى لبنان بعد 1982؟ - ذهبت في جولة واحدة الى شمال لبنان والبقاع. في أي عام؟ - في 1983. "الجبهة الديموقراطية" شاركت في حرب الجبل، هل تشعرون بالندم؟ - نحن شاركنا في حرب الجبل ضد الاحتلال الاسرائىلي والذين شكلوا قوى متعاونة مع الاحتلال الاسرائىلي. لهذا الغرض شاركتم في الحرب؟ - بالضبط. واعتقد انكم تعلمون - وهذا معروف جيداً في مجرى وجود المقاومة الفلسطينية على ارض المخيمات في لبنان - اننا كنا دائماً في الدروس المستخلصة من تجربة المقاومة على الاراضي الأردنية حريصين على الابتعاد الكامل عن التدخل في الشؤون اللبنانية الداخلية. ولذا معلوم جيداً اننا القوة الرئيسة الوحيدة بين الفصائل الرئيسة الثلاثة في منظمة التحرير، "فتح" و"الديموقراطية" و"الشعبية" التي رفضت بناء اي تنظيمات او اي دكاكين تمثل امتداداً او احتياطاً للجبهة الديموقراطية في لبنان. الخروج من بيروت هل كنت مع قرار الخروج من لبنان في 1982 اثر الغزو الاسرائىلي للبنان؟ - نحن كنا في الحصار وكنت مع مواصلة مقاومة المحتلين حتى آخر ثانية، وعندما بات واضحاً ان طاقاتنا استنزفت الى حد كبير جداً، ولم تعد بيدنا في الايام الاخيرة اية ذخائر ضد الطيران بالمطلق وندرت الذخيرة ضد الدبابات والآليات التي تحاصر بيروت وكنا نقاتل على رقعة تربيعها 15 كلم م... شاركت في مفاوضات تسوية تقوم على ضمان أمن المخيمات في مقابل خروج المقاومة المسلحة من مخيمات بيروت ومنها الى الخارج. من بين اعضاء القيادات الفلسطينية من عارض حتى النهاية الخروج، هل بقي احد على هذا الموقف؟ - أقول فوراً بكل لغة صريحة: لم يبق احد حتى الدقيقة الاخيرة معارضاً. وكل من يدعي ذلك - ادعاه بعد رحيل المقاومة بشهور قليلة - يدخل في باب الديماغوجية. من هم اصدقاؤك في لبنان؟ في الحركة الوطنية؟ ومن تلتقي منهم حتى الآن؟ - جبهة عريضة من الاحزاب والقوى والشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية اللبنانية بيننا وبينها جسور وطيدة وحميمة ودافئة... ووليد جنبلاط؟ - فيها من رحل وكان لنا علاقات عميقة معه مثل الاستاذ رشيد كرامي والاستاذ كمال جنبلاط. هل كنت معجباً بكمال جنبلاط؟ - احترم وأقدر هذا الرجل كثيراً جداً. ولذا قلت عندما بلغنا نبأ اغتياله وكنا في المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة 1977، الآن استشهد عبدالناصر لبنان. هل كانت لك علاقة مع ريمون اده؟ - أكيد، كثير جداً جداً من الاحزاب والشخصيات اللبنانية بمن فيها شخصيات كتائبية كانت لنا معها علاقات مثل كريم بقرادوني، وفي فترة لاحقة امين الجميل عندما اتخذ سياسات معتدلة قياساً بأخيه بشير. وكان هذا قبل خروج المقاومة المسلحة من بيروت. كل القيادات حالياً لنا علاقات واسعة ودافئة معها، مع الاستاذ ريمون اده وعمر كرامي ووليد جنبلاط وقادة الاحزاب... هل هناك خصوصية معينة لعلاقتك بمحسن ابراهيم؟ - جمعتنا رقعة نضال طويلة وعملنا معاً من اجل الانتقال بالحركة القومية من حركة شعارات عروبية عاطفية الى حركة تتجه نحو اليسار بمضامين ديموقراطية وتقدمية اجتماعية. وخضنا نضالاً مشتركاً من اجل الانتقال بحركة القوميين العرب من حركة عاطفية تكتفي بشعارات قومية عامة الى حركة اشتراكية وتنتقل الى حق كل فصيل في كل بلد في ان يشق طريقه باستقلال كامل. وتعاونا حتى آخر لحظة، وعلاقات الود نحتفظ بها. وفي هذا الميدان، في المراجعة النقدية لمواقف كل منا في شكل مبكر احيلكم على كتاب محسن "لماذا حركة الاشتراكيين اللبنانيين" الصادر عن "دار الطليعة". قدم محسن فيه مراجعة فكرية وتنظيمية وقال من منا كان صاحب رؤية وخط فكري وسياسي متناسق ومن منا كان صاحب خط يشبه بندول الساعة. الانهيار السوفياتي هل كان انهيار النظام في اليمن الجنوبية مؤشراً الى الضعف السوفياتي؟ - لا اعتقد هذا ابداً، فاليمن الجنوبية في زمن علي ناصر وزمن علي سالم البيض وسالم صالح محمد واصلت المجرى الرئيسي ذاته في سياساتها الاقليمية والدولية، بما فيها سياسة العلاقة الدافئة مع موسكو. ولذلك ليست صحيحة كل الادعاءات التي قالت ان السوفيات تدخلوا لمصلحة فريق من دون فريق في الصراع، بل الصحيح انهم دفعوا في اتجاه حل الامور من دون دماء. وبعدما وقعت الصدامات بذلوا جهوداً كثيفة. وشارك ممثل الجبهة الديموقراطية في عدن في هذه الجهود مع وفدين من الفريقين المتصارعين. وكانت للسوفيات مساهمة مباشرة ايضاً في ذلك. تجربة الاتحاد السوفياتي وما انتهت اليه مسألة اخرى تماماً، ولا علاقة لها بأي مؤشرات الى نجاح أو انتكاس ثورات تحرر وطني في العالم الثالث. عواملها اولاً داخلية، عملية الانهيار. وثانياً سباق التسلح الرهيب الذي استنزف طاقات سوفياتية هائلة بدل ضخها في عمليات التقدم التكنولوجي وادخال الثورة التكنولوجية العلمية في حياة البلاد الصناعية والزراعية والثقافية. العامل الرئيسي في القضايا الداخلية هو تحكم شريحة اجتماعية من البيروقراطية في كل حياة الحزب والدولة ومصادرة الديموقراطية الحزبية داخل صفوف الحزب والاتحادات العمالية والنقابية والمهنية، ومصادرة الديموقراطية الاشتراكية في العلاقة بين الحزب والدولة والشعب والجماهير، وتركيز كل السلطة في يد هذه الشريحة الاجتماعية البيروقراطية وما ترتب عليه من امتيازات نسبية مادية ومعنوية... كل هذا حجب امكان بناء جسور العلاقة مع طبقات المجتمع صاحبة المصلحة في بقاء الاتحاد السوفياتي وتقدمه الى الامام، كما انه حجب امكان حل المشكلات في العلاقات الاثنية والقومية بين شعوب الاتحاد السوفياتي. وأصرت هذه الشريحة على سياسة بيروقراطية اوامرية فوقية ادت في النتيجة الى حال من الانفصام الهائل بين البيروقراطية التوتاليتارية الحاكمة وشعوب الاتحاد السوفياتي. وهنا المفارقة الهائلة والمذهلة وهي ان هذه الشعوب قاتلت خمس سنوات وقدمت 27 مليون شهيد دفاعاً عن الاتحاد السوفياتي في مجرى الحرب العالمية الثانية لأنها قاتلت تحت رايات الأمل بأنها ستحصد ديموقراطية وعدالة اجتماعية ودخولاً في عالم الثورة التكنولوجية العلمية. ولأن هذا الأمل بات امام أعين شعوب الاتحاد السوفياتي مباشرة في مجرى الحرب التي كشفت التخلف التكنولوجي قياساً على التكنولوجيا الالمانية، ولذا تم تعويض هذا التخلف بخوض حرب طويلة الامد لخمس سنوات بطولها، والتضحية ب27 مليون قتيل، ودمار اكثر من 40 في المئة من المدن والبلدات والقرى، واكثر من 40 في المئة من صناعة الاتحاد السوفياتي تحت ضغط الغزوة الألمانية التي وصلت الى اطراف موسكو وليننغراد ودخلت كييف والكثير من المدن الصناعية الكبرى السوفياتية، وبخاصة في جنوب الاتحاد السوفياتي وروسيا. ولذا فالحلف الحقيقي للبيريسترويكا، بمعنى اعادة البناء بحكم اكتشاف الهوة التكنولوجية بين التكنولوجيا السوفياتية والتكنولوجيا الالمانية، فتح نفسه بنفسه في مجرى الحرب. ولذا قاتلت الناس بأمل ان تحافظ على الاتحاد السوفياتي وتحصد التعويض بعد انتهاء الحرب بالعدالة الاجتماعية والانفتاح الديموقراطي ودخول البلاد عالم الثورة التكنولوجية العلمية. وعندما لم يقع هذا، بدأ هذا الأمل يتبدد خطوة خطوة. وعندما بدأ التفكك منذ 1985 ووصل الى نهايته في 1991 لم يتقدم عشرة من الجيش السوفياتي ليدافعوا عن هذه الدولة العظمى ووحدتها. ولم يتقدم عشرة من الطبقة العاملة او الانتلجنسيا ليدافعوا عن هذه الدولة العظمى، وهذه هي القوى نفسها التي قدمت 27 مليون قتيل دفاعاً عن الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية. هناك قاتلت دفاعاً عما تحقق من منجزات قفزت بالاتحاد السوفياتي من روسيا القيصرية التي كان ترتيبها البلد السابع عشر في حجم الانتاج الصناعي عام 1917 الى الدولة العظمى الثانية التي تدخل مقاربة تتنامى مع الولاياتالمتحدة الاميركية، قاتلت على أمل ان يتم تعويض هذه التضحيات الكبرى في مجرى الأيام الآتية بعد انتهاء الحرب. وعندما لم يقع هذا وجدنا ان لا احد يدافع عن الشريحة الاجتماعية البيروقراطية في الحزب والدولة. هذه هي العوامل الرئيسية في انهيار تجربة الاتحاد السوفياتي. وهي عوامل داخلية فاقمها سباق التسلح الرهيب وبخاصة "حرب النجوم" التي اندفع فيها ريغان وأكملها بوش ما كاد ان يؤدي ايضاً بالولاياتالمتحدة الى مصير من الاضطرابات الهائلة الطبقية والاجتماعية. وتردت فعلاً اثناء الفترة الريغانية - البوشية شبكة الأمان الصحية والتعليمية في الولاياتالمتحدة، وتضخمت الديون على الدولة الفيديرالية، ما دفع بكلينتون الى ان يخوض معركته الانتخابية تحت رايات داخلية اجتماعية وشعاره الشهير: هذه البلاد ان لم تنهض لاعادة بناء بناها التحتية - اي "البيريسترويكا الاميركية" - فسنجد انفسنا بعد عشر سنوات امام بلاد لا نعرفها. سباق التسلح الرهيب ألحق اضراراً هائلة بالبنية الاقتصادية والتكوينية التحتية في الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، لكن هذه الاضرار كانت اضخم بكثير في الاتحاد السوفياتي ولم تتمكن الشريحة الاجتماعية البيروقراطية التوتاليتارية من الانفتاح على الشعب حقاً والبدء باعادة بناء جسور العلاقات في الدمقرطة وفي اعادة البناء حتى تستجيب شعوب الاتحاد السوفياتي مرة اخرى للنضال الرائد في الموجة الجديدة كما فعلت في اكتوبر 1917 وكما فعلت اثناء الحرب العالمية الثانية. لم يتوقعه أحد هل تشعر بأنك غريب في هذا العالم، فكل العواصم التي كنت تزورها تحولت فجأة؟ هل سبب لك هذا الانهيار الكبير شعوراً بالمرارة أو الهزيمة؟ - زلزال كبير لم يكن احد يتوقعه. هل توقع احد انهيار الاتحاد السوفياتي؟ - لم يكن احد يتوقعه لا في صف اليسار ولا في صف اليمين في هذا العالم. اقصى التوقعات كانت تنتظر اضطرابات كبيرة طبقية واجتماعية في صفوف الطبقة العاملة والريف والانتلجنسيا نظراً الى جيلين يتخلف بهما الاتحاد السوفياتي عن اجيال الثورة التكنولوجيا في بلدان المركز الرأسمالي، اقصد أوروبا واميركا واليابان. والجيل في حسابات التكنولوجيا خمس سنوات. وهذا ادى الى تراجع في آليات التنمية الاقتصادية والسباق الاقتصادي التكنولوجي بين الاتحاد السوفياتي وبلدان المركز الرأسمالي وأدى بدوره الى تراجع في البنية التحتية الطبية والصحية والضمانات الاجتماعية والخدمات، وما نتج من هذا من امراض اجتماعية. هذه كانت التوقعات، اضافة الى وصول البلاد الى حال مأزومة بفعل غياب الديموقراطية داخل أجهزة الحزب والدولة وغياب الديموقراطية التعددية في المجتمع، بعدما تطور هذا المجتمع على امتداد 70 عاماً تطورات عاصفة ومذهلة الى الأمام. وبات كل راشد سوفياتي بالتالي حائزاً البكالوريا في الحد الادنى، بحكم الزامية التعليم الثانوي، فضلاً عن عشرات الملايين الذين يمتلكون تحصيلاً جامعياً وتقنياً. وهذا ما يذكره، على سبيل المثال، ريتشارد نيكسون في كتابه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي عنوانه: "أميركا والفرصة التاريخية". اذ يؤكد ان نسبة شمولية التعليم الثانوي والجامعي والتقني في الاتحاد السوفياتي اوسع منها في الولاياتالمتحدة الاميركية. لذلك لم يعد ممكناً الاستمرار في نظام توتاليتاري في التعاطي مع كل هذه التطورات. هذا ما توقعه صف اليسار على اختلاف اطيافه. اما ما اقصى ما توقعه صف اليمين، فأمامنا كل ما كتبه كيسنجر ونيكسون وبريزنسكي في كتابه الشهير "الانهيار الكبير" قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. كان متوقعاً التخلف المتزايد في المباراة التكنولوجية والاقتصادية بين الاتحاد السوفياتي وبلدان المركز الرأسمالي. وهذا سيشكل عوامل جذب تجبر الاتحاد السوفياتي - حسب تعبير هؤلاء - على ان ينفتح على الغرب في اتجاه البحث عن التكنولوجيا وما يترتب على هذا من شبكة علاقات من نوع جديد بين سوق الاتحاد السوفياتي وسوق المركز الرأسمالي. ولم تصل اي من توقعات هؤلاء الى تفكك الاتحاد السوفياتي وانهياره. وهنا ايضاً اذكر بآخر زيارة قام بها بوش لموسكو والثنائية محتدمة بين غورباتشوف ويلتسن. يومها انتقل من موسكو الى كييف والقى خطاباً شهيراً في اوكرانيا طالب فيه الاوكرانيين بأن يحافظوا على الاتحاد السوفياتي. وقال بالنص ان الولاياتالمتحدة الاميركية ايضاً دولة فيديرالية وانتم دولة فيديرالية وان هذا في خير البشرية وتوازن القوى العالمي. وفي الوقت نفسه طالب نيكسون كل من في الاتحاد السوفياتي بالديموقراطية والتعددية واقتصاد السوق ولم يدع الى ابتعاد اوكرانيا حتى تلك اللحظة عن الاتحاد السوفياتي. رأسمالية الدولة لذلك أقول مرة اخرى: هذه كانت التوقعات... نحن في الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين كنا اصحاب تيار نقدي لتجربة الاتحاد السوفياتي وبلدان الاشتراكية والبيروقراطية، كما كنا نسميها دائماً في انطلاقتنا في 1968 وحتى اليوم. و كنا نؤكد ان سياسة بيروقراطية الحزب والدولة هي التي يجري تقديمها انها هي الاشتراكية داخل الاتحاد السوفياتي وانها هي الأممية خارجه. ونضيف الى هذا التأكيد ان هذه السياسة لا نسلم بها، فما يجري داخل الاتحاد السوفياتي نظام توتاليتاري يقوم على الاشتراكية البيروقراطية وليس دمقرطة الاشتراكية وفتح الآفاق نحو الشعوب ودورها والثورة التكنولوجية العلمية. وكنا نؤكد دائماً ان السياسة الخارجية للحزب والدولة هي سياسة البيروقراطية الحاكمة وتتم بموجب المصالح العليا الاستراتيجية والتكتيكية للدولة السوفياتية بما فيها المصالح التكتيكية الديبلوماسية الموقتة. ولهذا رفضنا كل النظريات التي صدرت الى بلدان العالم الثالث والقائلة بأن الكثير من هذه البلدان يسير في طريق التحول الاشتراكي، ومنها في زمن عبدالناصر عندما جاء خروتشوف وأعلن ان مصر تسير في طريق التحول الاشتراكي عارضنا هذا الادعاء وقلنا بلغة واضحة ان ما يجري في مصر هو طريق رأسمالية الدولة التي تتدخل بقطاع الدولة من اجل التسريع بمراكمة رأس المال للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وهذه نابعة من ايديولوجيا الطبقة الوسطى التي جاءت الى الحكم في ثورة 23 يوليو. كذلك انتقدنا كل الدعوات الى حل الاحزاب الشيوعية التي تبنتها السياسة السوفياتية من منتصف الستينات وعلى امتداد فترة السبعينات في كثير من بلدان العالم الثالث، بحجة انها فقدت ضرورتها بحكم ان الكثير من هذه البلدان يسير في طريق التحول الاشتراكي. ورفضنا كل النظريات التي جرى تصديرها علناً في ذلك الزمن والقائلة بنظرية التطور الرأسمالي في كثير من بلدان العالم الثالث والتوجه الاشتراكي كذلك. وشخصنا بدقة ان ما يجري في بلدان العالم الثالث هو محاولة استرجاع العناصر الرئيسة في تجربة كمال أتاتورك وتجربة الثورة المكسيكية عام 1913 التي ادخلت الدولة اكبر مستثمر رأسمالي بدخول قطاع الدولة الاقتصادي وتكميله من اجل طي التخلف والانتقال بهذه المجتمعات من مجتمعات شبه اقطاعية وشبه رأسمالية الى عالم الحداثة والعصرنة بافاق التطور البورجوازي الرأسمالي. ولذا كنا نسمي هذه الانظمة بأنها انظمة رأسمالية الدولة لا يجمعها بالاشتراكية جامع، ونؤكد ان الاصلاح الزراعي والتصنيع وديموقراطية التعليم كلها من ثمار الثورة البورجوازية في اوروبا والولاياتالمتحدة، وهذه ليست مؤشرات الى التحولات في اتجاه الطريق الاشتراكي. ومن الامثلة الصارخة على ذلك في سياستنا الفلسطينية ان علاقاتنا مع الاتحاد السوفياتي كانت كلياً مقطوعة ومسدودة الطرق حتى 1973، لأن الاتحاد السوفياتي وبلدان البيروقراطية الاشتراكية كانت ترفض الاقرار بوجود الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير بما فيه حقه في بناء دولة مستقلة، وتتقاطع كاملاً مع السياسة الاميركية والأوروبية والاسرائىلية حيال حل قضايا الصراع العربي - الاسرائىلي في اطار القرار 242 من 1967 وحتى اكتوبر 1973 وبعدها اضيف القرار 338. وهذان القراران يتعاطيان مع القضية الفلسطينية باعتبارها فقط قضية لاجئين. الانفتاح والعلاقة وبناء الجسور بين الجبهة الديموقراطية وموسكو بدأ بعد 1973 عندما فك الاتحاد السوفياتي نقطة التقاطع بينه وبين اوروبا واميركا واسرائيل حول كيفية حل مشكلة الشرق الاوسط بما يتعدى القرار 242 وفي اتجاه الاقرار بوجود الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير وفي دولة مستقلة، اضافة الى حل مشكلة اللاجئين حلاً عادلاً وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. ولذلك فان سياستنا النقدية الوطنية الفلسطينية كانت صارخة ازاء سياسات الاتحاد السوفياتي حيال القضية الفلسطينية وقضايا الصراع العربي - الاسرائىلي حتى 1973. وبعدها اتسعت المساحات المشتركة بيننا لأننا تلاقينا على برنامج مشترك يقوم على حل الصراع وفق القرارات الشرعية الدولية برحيل المحتلين الى ما وراء خطوط 4 حزيران 1967 وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بما فيه حقه في دولة مستقلة. سهام النقد للسوفيات وربما تذكر العالم كله اثناء حصار بيروت في الغزو الاسرائىلي 1982 انني كنت بين القيادات الفلسطينية التي كانت في الحصار. ومن قلب الحصار وجهت انتقادات واضحة الى السياسة السوفياتية في الشرق الاوسط وازاء الغزو الاسرائيلي الشامل للبنان. وذكرت بأقوال بريجينيف التي كان يقولها لنا ان الشعب الفلسطيني ليس فقط 6 ملايين بل هو 286 مليوناً مضيفاً مجموع شعوب الاتحاد السوفياتي. وقلت ان الصديق هو في لحظة الضيق والآن نوجه سهام النقد الى هذه السياسة السوفياتية. هذا يوم طلبتم دخول باخرة ادوية سوفياتية ترفع علم الصليب الاحمر؟ - ... كمثال على التضامن، وفي الوقت نفسه اعلنت من قلب الحصار اننا لا ننتظر دعماً عسكرياً او قوى عسكرية سوفياتية تأتي للتضامن معنا، فنحن ضد ذلك كله لكننا ننتظر اشكالاً متطورة من الاسناد السياسي والغذائي، فضلاً عن المساندة الفعالة لمن هم حولنا من الجيران العرب حتى يصمدوا، خصوصاً بعدما ضربت وابيدت 19 كتيبة صواريخ ارض - جو سورية وسقطت نحو 100 طائرة حربية سورية في مجرى الصراع ضد الغزو. لذلك اقول اننا في سياساتنا الوطنية الفلسطينية والاقليمية العربية والدولية كنا اصحاب تيار نقدي لكثير من سياسات الاتحاد السوفياتي. وكنا في الوقت نفسه اصحاب رؤية لما يجري داخل الاتحاد السوفياتي. وبالتوازي مع هذا كنا حلفاء لأن هناك مساحات مشتركة في النضال المشترك ضد الاحتلال والتوسع الاسرائىلي الصهيوني ومحاولة مصادرة حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال. والآن نرى بأم أعيننا شكلاً من اشكال المرارة الناجمة عن تفكك الاتحاد السوفياتي بل اكثر من هذا، وأنا التقيت القادة العرب من الملك الحسن الثاني الى الملك حسين وما بينهما على امتداد البلاد العربية من المحيط الى المحيط، كلهم يبكون على تفكك الاتحاد السوفياتي، مع ان كثيرين منهم كانوا على تضاد معه عندما كان قائماً وكانوا على تحالف مع الاميركي، لأنهم لمسوا ما معنى فقدان التوازن العالمي وما معنى الاحادية القطبية التي تحاول الولاياتالمتحدة تشكيلها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والنقطة الاخيرة بالتأكيد هي ان الانهيار ولد في القلب ألماً عميقاً ونقاطاً كثيرة دامية. وآخر مثل على هذا، قبل فترة كنت خطيباً الى جانب عدد من القيادات البارزة العربية والسورية في مهرجان الحزب الشيوعي السوري لمناسبة مرور 70 عاماً على تأسيسه. وعندما ارتفعت صيحات بكاء تندب الزلزال الذي حصل، قلت بلغة واضحة: حان وقت انهاء فترة الحداد، وبالنسبة الينا هذه الفترة انتهت وعلينا ان ننهض بأدوارنا من مواقع فعلنا داخل صفوف شعوبنا، وربما نحن في الجبهة الديموقراطية كنا الأقدر على ذلك لأننا كنا نتمتع بمساحة استقلال واسعة في شبكة علاقتنا الأممية والدولية وبرؤية نقدية تجمع بين المنهج الاشتراكي العلمي والخصوصية والألوان الوطنية الفلسطينية والعروبية. نريد حدثاً غير معروف في العلاقة مع السوفيات. - في واحدة من الحوارات التي وقعت بيننا وبين السوفيات. كنا في زيارة لموسكو بدعوة رسمية من القيادة السوفياتية بعد حرب تشرين 1973 مباشرة، وكان على رأس الوفد السوفياتي عضو المكتب السياسي المسؤول عن السياسة الدولية بوريس بوناماريوف ما زال حياً، وقلت له في الحوار: "للمرة الثانية تخذلون الجيوش العربية بالسلاح الذي يضمن النصر على الاحتلال، المرة الأولى مع عبدالناصر عام 1967 والآن للمرة الثانية في حرب 1973". انفعل بوناماريوف فوراً وأجاب: "يا رفيق نايف حواتمة نحن قدمنا من السلاح النوعي والكمي الى مصر وسورية والعراق ما يكفي لتحرير الارض المحتلة في عدوان 1967 ثلاث مرات. نحن اصحاب مبادئ ولسنا تجار سلاح. لو كنا تجاراً لكنا نسبح في انهار من الذهب في بلادنا التي تعاني الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. لكننا نضع المبادئ والتزامات التضامن مع الشعوب المناضلة من اجل الحرية والاستقلال اولاً". واضاف: "ان المشكلة عندكم هي اولاً في القرار السياسي، فالعرب الذين أداروا الحرب لم يكن قرارهم تحرير كل الأرض المحتلة. وثانياً في حسن او سوء استخدام السلاح"... كان هذا قبل ان نعرف وتعرف الأمة العربية شيئاً عن سقف القرار السياسي لحرب تشرين. وهنا كانت المفاجأة لنا عندما كشف المسؤول السوفياتي بالوثائق ما دار وراء الستار بين السادات والادارة الاميركية حيث حددت رسائل السادات سقف العمليات بعمق 10-15 كلم بعد قناة السويس والتوقف عنده.