في العام 1979 تلقت رئاسة الوزارة الاسرائيلية اقتراحاً يفوق الخيال من ارييل شارون وباقي جنرالات الجيش الاسرائيلي: ارسال فرقة كبيرة من قوات المظليين الاسرائيليين لاجهاض الثورة في طهران واعادة شاه ايران الى العرش. وقد تضمن الاقتراح آنذاك تحليلاً للوضع الايراني مؤداه ان تردد الشاه في استخدام الجيش هو الذي يقوي شوكة الثوريين الاسلاميين. وبالتالي من شأن عملية عسكرية اسرائيلية باهرة ان تثبط عزائم هؤلاء الاخيرين، من ناحية، وترفع معنويات اجهزة الامن والجيش الايراني المعارضة لهم، من ناحية ثانية. هذه الواقعة تذكرها على الارجح الايرانيون خلال الاسبوعين الماضيين، بعدما عادت التكهنات عن احتمال قيام اسرائيل بعمليات عسكرية لتدمير المنشآت النووية الايرانية. الدافع للتهديدات الاسرائيلية كان هذه المرة ايرانياً. اذ ان تل ابيب فسّرت تحذيرات الرئيس الايراني السابق ورئيس "مجلس تشخيص مصلحة النظام الاسلامي" هاشمي رفسنجاني لها من "الدمار النووي"، على انها دليل على نيات طهران العدوانية ضدها. وكان رفسنجاني ألمح الى ان العالم الاسلامي "سينضم الى سباق التسلح الذي تتسبب به اسرائيل، ما يؤدي في النهاية الى تدمير هذه الدولة الصغيرة وغير الشرعية". وعلى رغم انه اوضح لاحقاً انه لم يدع ابداً الى تدمير اسرائيل، بل قال فقط ان "سياسات اسرائيل العدوانية ستدفع العالم الاسلامي الى الرد، وحينها ستتعرض اسرائيل الى الدمار"، الا ان الدولة العبرية التقطت الكرة واعتبرتها بقرار ذاتي منها ساخنة، ثم بدأت باطلاق قعقة السلاح. هل يمكن ان تؤدي هذه المواجهات البلاغية، التي تجري في ظل الاوضاع الملتهبة الراهنة في الشرق الاوسط التي تسببها الحرب العالمية الاميركية ضد الارهاب، الى مواجهات عسكرية بين ايران واسرائيل؟ قبل محاولة الاجابة على هذا السؤال، وقفة اولاً امام طبيعة العلاقات بين الطرفين. تعتبر الدولة العبرية نظام الملالي الايراني خطراً سياسياً - استراتيجياً عليها. فهو يقف الى جانب سورية في الصراع العربي - الاسرائيلي، ويدعم "حزب الله" الذي هزم القوات الاسرائيلية في جنوبلبنان، ويقدم مساندة مباشرة الى الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، خصوصاً تنظيم "الجهاد" ثم حركة "حماس" كما أثبتت ذلك سفينة السلاح "كارين ايه" على حد زعم اسرائيل. وتقول "مؤسسة واشنطن لسياسات الشرق الادنى"، هي مركز ابحاث اميركي وثيق الصلة باسرائيل، ان هذه الاخيرة تعتبر كل المحاولات خصوصاً من جانب اوروبا لاجراء "حوار دقيق" مع طهران، جهداً عقيماً لا طائل منه. فالنظام الايراني، برأي المؤسسة، يواصل دعمه المالي واللوجستي لشبكات "الارهاب الدولي" محولاً طهران الى "كومونترن الارهاب الاسلامي المتطرف". كما انه يعمل على خلق حالة لا استقرار في الشرق الاوسط ويجهد لنسف مسيرة السلام العربي - الاسرائيلي. وتشدد المؤسسة، التي كان رئيسها في احدى المراحل مارتن انديك صاحب سياسة "الاحتواء المزدوج" الاميركي لايرانوالعراق، على انه ليس ثمة "متشددون" و"معتدلون" في ايران. هنا فقط التطرف من أعلى هيئة دينية حاكمة الى ادنى مستويات سلطة الحرس الثوري. وتبادل ايران اسرائيل هذه النظرة السياسية - الاستراتيجية. فيقول الباحث الايراني ابراهيم موتاجي، من دورية "سياستي دفاعي" السياسة الدفاعية الايرانية، ان "الدولة الاسرائيلية قائمة برمتها على جذور عسكرية توسعية بحتة. وهي تعاونت بشكل وثيق مع نظام الشاه السابق. كما تتعاون الان مع الولاياتالمتحدة لنسف الاسس الايديولوجية - السياسية للنظام الاسلامي الايراني". ويضيف موتاجي: "باختصار، اسرائيل تشكل خطراً داهماً على الامن القومي للنظام الاسلامي". وتسود النظرة العدائية نفسها على الصعيد العسكري. فمنذ العام 1992، يجهّز الرأي العام الاسرائيلي اعلامياً وتعبوياً لفكرة الاستعداد لحرب محتملة مع ايران، ولضرورة الحاق الهزيمة العسكرية والسياسية الشاملة بها، قبل ان تتمكن من امتلاك القدرات النووية ربما في العام 2005. وتقوم السياسة الاسرائيلية، التي تؤيدها واشنطن بالكامل، على مبدأ الحفاظ على التفوق النوعي العسكري الاسرائيلي على كل خصومها الشرق أوسطيين مجتمعين. وبما ان ايران اثبتت قدرتها على تطوير صواريخ بعيدة المدى "شهاب - 3" وقريباً ربما "شهاب -4"، وتنشط لتطوير قدراتها النووية، فانها يجب ان تكون هدفاً اولياً للاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية. وتركّز اسرائيل على وجه الخصوص، على مجمع بوشهر النووي الايراني الذي يوظف نحو 9000 خبير وعامل روسي، على انه المركز الرئيس لجهود ايران لصناعة قنابل نووية. هذا على رغم ان لجنة الطاقة الذرية الدولية اكدت ان المصنع مخصص برمته للاغراض السلمية. وفي المقابل، تقول ايران ان الاسلحة النووية الاسرائيلية هدفها الاول ايران. فبما ان رقعة اسرائيل صغيرة ومحدودة للغاية، فان استخدام الاسلحة الذرية ضد دول مثل لبنان او سورية او الاردن سيعرض الدولة العبرية نفسها الى الاشعاعات النووية الخطرة، في حين انه اذا ما استخدمت مثل هذه الاسلحة ضد دول بعيدة كإيران، فلن تصل الاشعاعات الى اسرائيل. وانطلاقاً من هذه الوقائع، تعتبر طهران الاسلحة النووية الاسرائيلية تهديداً خطيراً لامنها ولامن شعبها ونظامها السياسي. فطالما ان اسرائيل تصنع مثل هذه الاسلحة، سيكون عليها استخدامها ب"وسائل مفيدة". والمبررات الاستراتيجية تملي ان يتم هذا الاستخدام في منطقة خارج دائرة يبلغ قطرها 500 كيلومتر. وايران تقع بالتحديد في هذه المنطقة. الى هذه الاعتبارات الاسرائيلية - الايرانية، ساهمت ثلاث تطورات اخيراً في تعزيز الشكوك المتبادلة بين الطرفين. الاول، وقع في اواخر التسعينات حين حصلت اسرائيل على غواصات "دولفين" الالمانية الصنع التي تمكنها من امتلاك قدرات الضربة النووية الثانية. والثاني، حدث في ايلول سبتمبر 1998 حين جربت اسرائيل بنجاح نظام "أرو -2" المضاد للصواريخ، والذي كان احد اهدافه اسقاط صواريخ "شهاب -3" الايرانية. والتطور الثالث كان اعلان الرئيس الايراني محمد خاتمي سنة 2000 امام الجمعية العامة للامم المتحدة: "اننا أعلنا مراراً وتكراراً عن قلقنا من ان اسرائيل قد اصبحت مركزاً للاسلحة النووية ولاسلحة الدمار الشامل. ونحن نعلن هنا ان من حقنا ايضاً الدفاع عن أنفسنا". وقد فسّر هذا التصريح وقتها بأنه يعني ان ايران لن تعتبر نفسها معنية بمنع انتشار الاسلحة النووية في الشرق الاوسط، ما لم تلتزم اسرائيل بذلك ايضاً. كما فسر ايضاً على انه تعبير عن قلق امني ايراني حقيقي من امتلاك اسرائيل مزيجاً من طائرات "أف -15" و"أف -16" الضاربة الاستراتيجية المزودة اسلحة غير تقليدية وذخيرة "ذكية"، اضافة الى صواريخ "أريحا" بعيدة المدى والى تقنية التزود بالوقود بالجو. وكل ذلك يجعل اسرائيل قادرة على تهديد مفاعلات بوشهر ووضعها تحت سطوتها. هذه المعطيات، مضافاً اليها حال اللااستقرار الراهنة في الشرق الاوسط، تخلق المناخات المؤاتية لسباق التسلح بين ايران واسرائيل. وهنا ثمة ملاحظة مهمة. فقد كان اهم درس للحرب الباردة هو ان توازن القوى النسبي أو توازن الرعب كما كان يسمى، هو الذي ساعد على منع طرفي النزاع الاميركي والسوفياتي آنذاك من الدخول في حرب، لعلمهما ان ذلك سيؤدي الى رد مدمر. وهذا أسفر عن ولادة نظرية "الدمار المؤكد المتبادل" ماد الذي صنع الاستقرار النسبي بين واشنطن وموسكو. ويقول شون توينغ، الباحث في دورية "واشنطن ريبورت" الشرق أوسطية، ان "موقع اسرائيل الحالي بوصفها القوة العظمى العسكرية الاقليمية الوحيدة، يؤكد هذه النظرية. فمن دون موازن لقوتها في المنطقة، يمكن ان تشعر الحكومات الاسرائيلية بانها غير مقيدة بالخوف من رد عسكري. وهذا قد يشجعها على شن المغامرات العسكرية". ولعل هذا بالتحديد ما يدفع ايران الان، التي تدرك انها غير قادرة على موازنة اسرائيل من حيث القدرات العسكرية التكنولوجية التقليدية، الى اللجوء الى حل ذي أكلاف مالية منخفضة لمواجهة الهيمنة العسكرية الاسرائيلية على الشرق الاوسط. وهذا الحل هو امتلاك صواريخ متوسطة وبعيدة المدى مجهزة بالاسلحة النووية والاسلحة غير التقليدية الاخرى. وبما ان اسرائيل لن تقبل بهذا التحدي الايراني لهيمنتها، فانها قد تلجأ الى القوة لمنع ايران من امتلاك هذه الاسلحة، كما فعلت مع العراق حين دمرت مفاعل تموز العام 1981. هل يعني كل ذلك ان المواجهة حتمية ووشيكة بين اسرائيل وايران؟ حتمية نعم. وشيكة ليس مؤكداً بعد. فالكثير سيعتمد هنا على قدرة اسرائيل على اقناع الولاياتالمتحدة على منحها الضوء الاخضر لشن "حرب وقائية" على المنشآت النووية الايرانية. وعلى رغم ان العوامل التي يمكن ان تدفع واشنطن الى منح هذا الضوء الاخضر الخطر ليست متوافرة بعد، خصوصاً بعدما ابدت طهران براغماتية لافتة في التعاون مع اميركا ضد افغانستان، الا انها ربما تتوافر لاحقاً. فالتوتر بدأ بين الولاياتالمتحدةوايران بوتيرة لافتة بعدما هدد الرئيس الاميركي بوش هذه الاخيرة ب"مضاعفات" اذا ما هي "واصلت مساعيها لزعزعة استقرار الحكومة الموقتة في أفغانستان". وفي الوقت ذاته، ذكرت "نيويورك تايمز" ان المسؤولين الايرانيين يشعرون بقلق شديد من احتمال قيام الولاياتالمتحدة وحلفائها الاتراك والاوروبيين بإقامة "نظام علماني" في افغانستان، لأن من شأن ذلك ان يهدد استقرار نظام الملالي. وفي حال شعرت واشنطن ان طهران لم تتوقف بالفعل عن تهديد "أمنها القومي" الجديد في افغانستان وهو أمن قومي بالفعل لان سياسات ايران قد تجعل افغانستانفيتنام اميركية اخرى، فانها قد تبدأ بالانصات الى حجج التصعيد الاسرائيلية. وثمة بالطبع سببان آخران لا يقلان اهمية للتوتر بين الطرفين: مسألة المستقبل العسكري ل"حزب الله" في لبنان، ودعم ايران الكثيف ل"الاصوليين الفلسطينيين" والذي كشفت عنه السفينة "كارين ايه" كما تدعي اسرائيل. وهكذا فان الطريق تبدو معبدة بالنسبة الى اسرائيل كي تحاول دق المزيد من الاسافين بين اميركا وايران، تمهيداً ربما لضربة عسكرية لها. ان الصدفة التاريخية وحدها ربما كانت وراء وجود الجنرال نفسه الذي اقترح العام 1979 عملية عسكرية لاسقاط النظام الاسلامي في طهران، على رأس السلطة السياسية الاسرائيلية في العام 2002. لكنها، بالمناسبة، صدفة غريبة حقاً!