على رغم جنوح إسرائيل منذ سنوات الى التلويح بإمكان إقدامها على توجيه ضربة عسكرية إجهاضية للمنشآت النووية الإيرانية، يكتسب الجدل حول هذا الأمر زخماً كبيراً هذه الأيام بعد صدمة حكومة نتانياهو في حزمة المقترحات التي أعلنتها طهران أخيراً في شأن مستقبل برنامجها النووي، في وقت يترقب الجميع حلول الأسبوع الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، حيث عملية التقويم شبه النهائية للجهود الديبلوماسية الرامية لإيجاد تسوية سلمية للأزمة النووية الإيرانية تضع نهاية لطموحات إيران النووية العسكرية. ففي يوم الرابع والعشرين من هذا الشهر سيترأس الرئيس الأميركي جلسة خاصة في مجلس الأمن الدولي يحضرها رؤساء جميع الدول الأعضاء لمناقشة قضية حظر الانتشار النووي عالمياً مع الوقوف على آخر مستجدات البرنامج النووي الإيراني، كما ستوافق نهاية الشهر ذاته انقضاء المهلة التي تقرر منحها لطهران للرد على التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن مستقبل ذلك البرنامج. ويمكن الادعاء أن تطورات الأزمة النووية الإيرانية بالوتيرة الحالية، تحمل في طياتها مؤشرات ودلائل تشي بأن إقدام إسرائيل، من جانب واحد ومن دون الرجوع إلى واشنطن، على توجيه ضربة عسكرية إجهاضية للمنشآت النووية الإيرانية، ربما بدا وشيكاً، رغم زعم تسريبات أميركية إمكان امتداد المساعي الديبلوماسية الدولية لتسوية الأزمة النووية الإيرانية سياسياً حتى نهاية العام الجاري، إذ كشف نائب الرئيس الأميركي جون بايدن أنه عندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو واشنطن في الربيع الماضي وافق على إعطاء سياسة الرئيس أوباما الخاصة بالحوار مع إيران مهلة حتى نهاية العام الجاري، على أن يكون لإسرائيل مطلق الحرية في التعامل بالقوة العسكرية مع التهديد الإيراني المحتمل لوجودها إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك بعد انقضاء هذه المهلة. وأشاد وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بتصريحات بايدن مطلع الصيف، والتي أبدى خلالها تفهم بلاده لحق إسرائيل في توجيه ضربة وقائية لتقويض برنامج إيران النووي، مضيفاً أنه رغم أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل تختلفان أحياناً في هذا الشأن، فإن القرار يكون في نهاية المطاف لإسرائيل، ما يحمل في طياته إشارات إلى أن الأخيرة لن تتردد في القيام بعمل عسكري منفرد ضد إيران من دون الرجوع لواشنطن إذا رأت أن دواعي أمنها القومي تستوجب ذلك غير مكترثة بالحسابات الأميركية في هذا الخصوص، لا سيما بعد تعثر الرئيس الأميركي باراك أوباما بالتعاطي مع تحديات داخلية كثيرة كتمرير برنامجه لإصلاح التأمين الصحي وإيقاف أرقام البطالة المتصاعدة يومياً ومعالجة الانكماش الاقتصادي الخانق، وذلك بالتوازي مع إخفاقات طالت سياسته الخارجية في ما يخص التعامل مع التحدي النووي الكوري الشمالي، إلى جانب الفشل المدوي في أفغانستان، اضافة إلى تعثره في إحياء مفاوضات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وهي الأجواء التي تجعل يد أوباما مغلولة في كبح جماح أي تحرك عسكري إسرائيلي، قد لا يراه مناسباً من حيث المبدأ أو حتى التوقيت، حيال إيران . ولعل السوابق التاريخية للتعاطي الإسرائيلي مع هذا النوع من المواقف تعزز هذا الطرح. فعلى سبيل المثال، لم تستأذن إسرائيل الولاياتالمتحدة أولاً عندما قامت المقاتلات الإسرائيلية بالإغارة على المفاعل النووي العراقي يوم السابع من حزيران (يونيو) عام1981 وبعد يوم واحد فقط من اجتماع رئيس الوزراء الإسرائيلي أنذاك مناحم بيغن مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ورغم ذلك لم يكن في وسع الرئيس الأميركي رونالد ريغان سوى إدانة الحادث مكتفياً بالقول إن هناك بعض الخيارات الأخرى التي كان ينبغي على إسرائيل وضعها في الحسبان، هذا في الوقت الذي لم يخف بيغن نشوته بعد نجاح العملية الإسرائيلية، مؤكداً للصحافيين وهو في حال من الزهو، أنه وضع نموذجاً يحتذى لأي رئيس وزراء إسرائيلي مقبل، بحيث يتصرف على النحو ذاته في أي ظروف مشابهة. وفي أيلول (سبتمبر) 2007، ومن دون سابق استئذان من واشنطن، أغارت الطائرات الإسرائيلية علي موقع سوري ادعت تل أبيب أنه مفاعل لتخصيب البلوتونيوم، وشأنه شأن هجومها على المنشآت النووية العراقية، لم يخلف العدوان على الموقع السوري آثاراً سلبية ملموسة أو عميقة على أواصر الصداقة التي تجمع تل أبيب وواشنطن. وفي موازاة ذلك، مضت تل أبيب قدماً في سبيل تهيئة العالم سياسياً وأمنياً لإقدامها على قصف المنشآت النووية الإيرانية عبر حشد التأييد والتفهم الدوليين له، إذ لم تتوان عن ترهيب العرب والعجم من مخاطر اقتراب طهران من امتلاك سلاح نووي وتطوير ترسانة من الصواريخ الباليستية متوسطة وطويلة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية تطال أهدافاً إسرائيلية وأميركية. كما عكفت دوائر إسرائيلية على ترهيب الغرب وواشنطن من التأثيرات السلبية لامتلاك ايران السلاح النووي على استقرار الأنظمة العربية المتفاهمة مع واشنطن حول الاستقرار في المنطقة والتعاون في إطار الاستراتيجية الأميركية حيالها. كذلك، تعمدت دوائر أمنية واستخباراتية إسرائيلية تسريب المعلومات والتقارير عن الخطط والمناورات الحربية التي تجريها تل أبيب بالتعاون مع واشنطن في البحر المتوسط وصحراء النقب بغرض التحضير لتلك الضربة المحتملة. وامتدت مساعي تل أبيب لحشد التفهم والتأييد الدوليين لضربتها المرتقبة لتطال الدول العربية والإسلامية مستغلة أجواء التوتر وانعدام الثقة التي تخيم على علاقات طهران بتلك الدول، وذلك عبر وسائل شتى كالادعاء بأن التهديد النووي الإيراني خطر مشترك يحيط بالعرب وإسرائيل على السواء يستوجب تعاونهما معاً من أجل التصدي له خصوصاً في ظل التطلعات الاستراتيجية الإيرانية الرامية إلى الهيمنة على العالم العربي و»تشييع» الدول الإسلامية التي تقطنها أكثرية سنية. وفي هذا الإطار، جاءت التسريبات الإسرائيلية بأن دولاً عربية وإسلامية لم تتورع عن مطالبة تل أبيب بتحري الإجراءات الكفيلة بإجهاض المشروع النووي الإيراني، أو أن عواصم عربية وإسلامية أخرى لم تتردد في منح المقاتلات الإسرائيلية الضوء الأخضر للمرور في مجالها الجوي حال قيامها بضربتها العسكرية ضد المنشآت الإيرانية. وجاء قبول واشنطن الحوار مع طهران حول حزمة المقترحات التي عرضتها أخيراً على الدول الكبرى، رغم عدم اقتناع تلك الدول بجدية تلك المقترحات أو جدواها، ليعطي زخماً لنوايا تل أبيب التصعيدية المنفردة حيال طهران خصوصاً بعد شكوكها في قدرة سياسة واشنطن المزدوجة المستندة إلى كثير من الترغيب وقليل من الترهيب، على ثني طهران عن طموحاتها النووية، إلى الحد الذي أوحى لدوائر سياسية وأمنية إسرائيلية بأن واشنطن بصدد التسليم بامتلاك طهران للسلاح النووي وذلك بعد أن شرعت في تقديم مبادرات من شأنها التعاطي مع هذا الأمر وليس الحيلولة دون حدوثه حيث سبق لإدارة بوش الابن أن قدمت عروضاً لإسرائيل وبعض الدول العربية بشأن وضعها تحت المظلة النووية الأميركية لحمايتها من أي تهديد نووي إيراني، وهي العروض التي أعادت إدارة أوباما تقديمها أخيراً من طريق وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، الأمر الذي فسره نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي والمكلف بشؤون الاستخبارات والطاقة الذرية دان مريدور بأنه استعداد أميركي للقبول بامتلاك طهران السلاح النووي. وفي السياق ذاته، عزز تباين تصريحات ومواقف المسؤولين الأميركيين بشأن الضربة الإسرائيلية المحتملة ضد إيران من موقف حكومة نتانياهو في عدم التعويل كثيراً على الموقف الأميركي حيال طهران. فبينما أثلج كلام بايدن صدور الإسرائيليين مطلع هذا الصيف بقوله ان لتل أبيب مطلق الحرية في أن تفعل ما تراه في التعامل مع طهران، أكد قائد هيئة أركان الجيوش الأميركية المشتركة الأميرال مايكل مولن أن شن هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية قد يكون مزعزعاً جداً للاستقرار. وبعدها بأيام، حذر مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية في تصريح إلى صحيفة «جيروزالم بوست» الإسرائيلية من أن توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية إلى إيران سيؤثر في المصالح الأميركية مطالباً إسرائيل بضرورة أخذ علاقتها مع واشنطن والمصالح الأميركية في الاعتبار عند التفكير في شن أي هجوم منفرد ضد إيران. وفيما أعلنت الخارجية الأميركية أن تصريحات بايدن لا تعني موافقة واشنطن على أي عمل عسكري إسرائيلي منفرد ضد إيران، أكد بايدن في مقابلة مع شبكة «أي بي سي» الأميركية أن عرض أوباما إجراء محادثات مع طهران بشأن برنامجها النووي ما زال مطروحاً على الطاولة. وتتسارع وتيرة تآكل ثقة إسرائيل في جدوى الاستراتيجية الأميركية الحالية إزاء طهران وفي إمكان لجوء واشنطن الى التصعيد العسكري ضدها، مع إصرار إدارة أوباما على الحوار مع طهران رغم اشارة تقارير أمنية أميركية وإسرائيلية الى أن إيران، التي تحولت إلى دولة عتبة نووية في العام 2007 ، أصبحت على وشك تصنيع قنبلة نووية واحدة على الأقل في العام المقبل. ومن شأن هشاشة صدقية الردع الإيراني، بمعنى تأكد الخصم المتمثل في إسرائيل والولاياتالمتحدة، من تواضع قدرات طهران على استخدام وسائل الردع المتاحة والكفيلة بإلحاق أكبر أضرار ممكنة بهما وبمصالحهما حالة قيامهما بتوجيه ضربة عسكرية لها، أن يشكل عنصر تحفيز لنوايا إسرائيل التصعيدية حيال طهران. ففي حين تنطوي استراتيجية الردع الإيرانية على القيام بعمليات مضادة انتقامية ضد أهداف مهمة لخصومها بعد امتصاص الضربة الأولى وتوجيه ضربات مضادة بالصواريخ الباليستية متوسطة المدى من طراز «شهاب -3»، التي يتجاوز مداها 2000 كيلومتر وتحمل رؤوساً تقليدية وزن الواحد منها 1000 كيلوغرام كما بوسعها أن تطال المصالح والوجود العسكري الأميركيين في الخليج والعراق وأفغانستان إلى جانب العمق الإسرائيلي، تعلن أمام تلك الاستراتيجية تحديات شتى من وجهة نظر خبراء أمنيين وعسكريين أميركيين وإسرائيليين. فبداية، يعاني الركن الرئيسي في تلك الاستراتيجية الردعية والمتمثل في صواريخ «شهاب» من مشكلات كثيرة تجعل تفاخر طهران بها عالمياً محض ادعاءات، فثمة عيوب تحيط بهذه الصواريخ تتعلق بدقة التصويب والتوجيه إذ يصعب توجيهها إلكترونياً بشكل دقيق، فضلاً عن تواضع آثارها التدميرية وقدرتها على المناورة والإفلات من المنظومة الإسرائيلية - الأميركية المضادة للصواريخ، إلى الحد الذي يجعلها أشبه بصواريخ «سكود» التي كان يطلقها صدام حسين ضد إسرائيل عام 1991. كذلك تظهر الحاجة الإيرانية الشديدة الى عدد ضخم من تلك الصواريخ لتستطيع طهران تنفيذ استراتيجية الإغراق الصاروخي التي تخولها إصابة أكبر عدد ممكن من الأهداف الأميركية والإسرائيلية بعد تعويض ما تخسره منها بسبب الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية والأميركية المتطورة، حيث تنوي الولاياتالمتحدة نشر نظام «ايغيس» مقابل السواحل الإسرائيلية لتأمين خطوط دفاعية ثانية ضد الصواريخ الإيرانية، وهو نظام دفاعي جوي متكامل ذو مدى متوسط ومجهز برادار يصل مداه إلى 450 كيلومتراً ويمكن أن يستهدف أكثر من 250 هدفاً مختلفاً، ويتلقى النظام معلوماته آلياً من السفن أو الطائرات أو الأقمار الإصطناعية. كما تؤكد التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية والأميركية أن لدى طهران ثلاثمئة طائرة حربية أميركية الصنع غير أن أكثريتها تعود إلى عهد الشاه، بحيث لا يمكن الاعتماد إلا على القليل جداً منها ولكن ليس إلى الحد الذي يخولها اختراق أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية وإلحاق أذى ملموس بأهداف حيوية إسرائيلية. يضاف إلى ذلك، تشكك واشنطن وتل أبيب في صدقية التهديد الإيراني بإغلاق مضيق هرمز، الذي يعد الشريان الحيوي لتدفق النفط عالمياً إذ يمر عبره 40 في المئة من النفط العالمي بواقع 20 مليون برميل يومياً، وذلك من خلال الألغام البحرية الإيرانية أو إغراق الإيرانيين لإحدى ناقلات البترول العملاقة في عرض المضيق، استناداً إلى موانع كثيرة أبرزها: الكلفة الاقتصادية العالية لهذا الإجراء إلى جانب خشية الإيرانيين من أي رد فعل دولي صارم على هكذا تصرف. وفي الوقت الذي تعاني طهران من انكشاف استراتيجي حقيقي في ظل ضيق أقنية الدعم العسكري والسياسي الخارجي لها عبر روسيا والصين اللتين تماطلان في الوفاء بالتزاماتهما العسكرية تجاهها وفقاً للاتفاقات المبرمة بينهما لأسباب شتى تتصدرها الضغوط الأميركية والإسرائيلية، لا تزال إسرائيل تحتفظ بحقها في الدعم السياسي والعسكري الأميركي فائق التطور واللا محدود، حيث أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي المخلوع إيهود أولمرت إبان زيارته الأخيرة لواشنطن أن الأخيرة لم تمارس أي ضغوط من أي نوع على بلاده للحيلولة دون إقدامها على عمل عسكري منفرد ضد المنشآت النووية الإيرانية، مشيراً إلى أن إدارتي بوش وأوباما قد أبدتا تفهمهما لحاجات إسرائيل الأمنية وما يتعين عليها اتخاذه من خطوات في هذا الخصوص. وتأسيساً على ما تقدم، ومع الأخذ في الاعتبار ما يمكن أن تنطوي عليه الادعاءات والتقارير الأمنية الأميركية والإسرائيلية من مبالغات في شأن تقدير قوة الردع الإيرانية أو تقويم القدرات العسكرية الإسرائيلية، يبدو أن إصرار إسرائيل على استهداف المنشآت النووية الإيرانية بضربة إجهاضية ولو منفردة قد بات أقوى من أي وقت مضى، لا سيما بعد أن تملّك حكومة نتانياهو يقيناً أن إيران تماطل توخياً لكسب المزيد من الوقت كي تفاجئ العالم بإعلان امتلاكها القنبلة النووية قريباً، وهو ما يراه الإسرائيليون مسوغاً لاستثمار الدعم والتفهم الأميركيين إلى جانب الانتقاد الدولي لنظام طهران بسبب مراوغتها في أزمتها النووية إضافة إلى تداعيات أزمة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، للقيام بضربتها المزمعة في أي وقت ومن دون الرجوع إلى واشنطن، حتى وإن لم تَرَ الأخيرة ضرورة أمنية ملحة أو مبرراً استراتيجياً مقنعاً لذلك، خصوصاً إذا كان الاختلاف النسبي والآني في وجهات النظر بين واشنطن وتل أبيب حول هذا الأمر محصوراً فقط في بعض التفاصيل الفنية الخاصة بالعملية العسكرية كالتوقيت وتحديد المواقع المستهدفة، على سبيل المثال، من دون أن يطال فكرة تنفيذها أو القيام بها من حيث المبدأ. قوة هذا الطرح، ما نقلته صحيفة «جيروزاليم بوست» عن قائد القوات الجوية الإسرائيلية الجنرال ايدو نيهوشتان في الرابع من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، حيث صرح أنّ القوات الجوية الإسرائيلية أعدت الخطط الملائمة وأجرت التدريبات الكافية لتوجيه ضربة عسكرية إجهاضية ضد المنشآت النووية الإيرانية، حتى إن القيام بمثل هذه الضربة لم يعد يحتاج سوى إلى قرار سياسي. * كاتب مصري