بعد فوز بيار الجميّل، نجل الرئيس السابق للجمهورية أمين الجميل، بالمقعد الماروني في دائرة المتن وسقوط رئيس حزب الكتائب منير الحاج، المرشّح للمقعد نفسه في لائحة وزير الداخلية ميشال المر، أي مستقبل للحزب المقبل على مواجهة مشكلة دقيقة: في أي من الرجلين تقيم أو باتت الشرعية الحزبية؟ في الاجتماع الدوري للمجلس المركزي للحزب، في اليوم نفسه لاعلان نتائج انتخابات دائرة المتن، هنأ الحاج النائب الكتائبي المنتخب انطوان غانم بمنصبه، وحضّه على "تلقي الأوامر من الحزب فقط"، في اشارة ضمنية، لكنها معلنة في اوساط الحزب، الى انتماء غانم الى الرئيس الجميل لا الى قيادة الحزب. يومذاك لم يُهنئ الحاج نجل الرئيس السابق بفوزه بالنيابة، الا انه اعتبر خسارته هذه الانتخابات "شأناً كبيراً يتصل بأبعاد وطنية وسياسية وحزبية ... لأن ما حصل خطير جداً وترتسم حوله تساؤلات". لم يقتصر على ذلك رد الفعل السلبي هذا، بل ان الحاج، الى اليوم، لم يزر الرئيس الجميل منذ عودته الى بيروت في 30 تموز يوليو الماضي على رغم ان معظم القيادات الكتائبية قصدته في بكفيا وهنأته بالعودة. تعيد هذه الوقائع الذاكرة الى احداث مماثلة تقريباً في نتائجها، عندما خسر الرئيس السابق لحزب الكتائب الراحل جورج سعادة انتخابات 1996 على رغم وجوده في لائحة تحالف متين بين الرئيس عمر كرامي والوزير سليمان فرنجية في دائرة محافظة الشمال، وكان سعادة يحظى يومها بدعم سوري لافت. على ان وجود سعادة في تلك اللائحة لم يحم ترشّحه، فتعرّض لتشطيب كبير في الاقتراع من رفاقه في اللائحة، خصوصاً من انصار فرنجية في زغرتا ومن الحزب السوري القومي الاجتماعي في الكورة، فخسر. على الأثر استقال من رئاسة الحزب، ثم ما لبث ان عاد عن هذه الاستقالة من غير ان يكسبه ذلك أي هدف سياسي يعوّض وطأة خسارته الانتخابات. بل أضاف الى هذا العبء انه سقط في الانتخابات بصفته رئيساً لحزب الكتائب. وهي المرة الأولى التي يخسر فيها رئيس الحزب انتخابات منذ العام 1951 عندما فشل مؤسس الحزب بيار الجميل، في أول مرة يترشح فيها للانتخابات النيابية، معركته بالبالوتاج في الدورة الثانية من الاقتراع أمام منافسه آنذاك بيار إده شقيق ريمون إده. على ان بيار الجميل ما لبث ان عاود هذه التجربة في انتخابات 1960 ليمسي بعدها، وعلى امتداد الدورات الانتخابية اعوام 1964 و1968 و1972، الرجل القوي في نيابة بيروت ورئيساً لكتلة برلمانية كتائبية متنامية. يفتح ذلك في المجال امام مناقشة المستقبل السياسي للحزب الذي لا يزال يعاني صعوبات دقيقة في بنائه تحالفاته الانتخابية والوطنية مع سائر الافرقاء اللبنانيين على رغم اظهاره انفتاحاً سياسياً كبيراً على سورية لم يُرض القاعدة الكتائبية، وانما ضاعف من انقساماتها، على الأقل لجهة تعثره في ايجاده موطئ قدم، سواء في السلطة ام في المعارضة. ومع انتخاب الحاج رئيساً لم يستطع تقليص الانقسامات الداخلية، اذ لم يلبث ان وجد نفسه في مواجهة انقسامات جديدة جعلته طرفاً في النزاع، ليس بين القيادة ومعارضيها، وانما خصوصاً داخل القيادة نفسها بشهادة الخلاف المفتوح بين الحاج ونائب رئيس الحزب كريم بقرادوني. لكن عودة الرئيس الجميّل الى بيروت احدثت انقلاباً مهماً داخل الحزب. والواقع ان استقطاب الجميل معظم القواعد الكتائبية الشعبية فتح باب التكهّن عن الدور المستقبلي الذي سيضطلع به الرئيس السابق بعدما نجح نجله، في السنوات المنصرمة، في اعادة تنظيم القوى المعارضة للقيادة الكتائبية في عهدي سعادة والحاج واجتذابها اليه على رغم صغر سنه، كممثل لوالده المحظرة عودته الى لبنان. الى مَ يرمي، اذاً، نجاح بيار أمين الجميل في انتخابات المتن؟ عندما خاض الجميل الابن انتخابات المتن، ولم يكن والده الرئيس السابق قد عاد الى بيروت، بدت خطته محاولة تقديم عرض قوة باثبات مقدرته على استقطاب الاصوات والقاعدة الكتائبية المؤيدة له، في مرحلة حصار سياسي لأي دور محتمل له، كما للرئيس السابق، خصوصاً في مواجهة وزير الداخلية ميشال المر ذي النفوذ الواسع النطاق في المتن. بيد ان عودة الجميل الأب، مع كل ما أثير من حولها عن صفقة مسبقة لقاء ضمان رجوعه الى بيروت تقضي بدعم لائحة المر، قلبت الأدوار مجدداً، الى الحدّ الذي حمل بعض الوسطاء الكتائبيين القريبين من الجميل والمر معاً على طرح اقتراح يقول باستبدال الحاج بالجميل الابن في لائحة وزير الداخلية. الا ان المر لفت محدثيه الى تعذّر مضيه في هذا الاقتراح لأسباب بعضها يتصل بدمشق التي تؤيد وجود الحاج في لائحة المر بعدما كانت أيدت قبلاً وصوله الى رئاسة حزب الكتائب. على ان ما بدا أكيداً في مرحلة متقدمة من الاتصالات بين الطرفين هو تعاون الجميل الابن مع بعض مرشحي لائحة المر باستثناء اثنين على الأقل هما الحاج ومرشح الحزب السوري القومي الاجتماعي غسان الأشقر الذي جُبه بتشطيب كبير في المتن بفعل الاتهامات التي ساقها ضد الجميل الأب والابن في الأيام القليلة التي سبقت نهار الاقتراع في 27 آب أغسطس. وهو ما اظهرته لاحقاً نتائج الانتخابات بنيل الأشقر الأرقام الأدنى بين النواب الموارنة الأربعة المنتخبين. والواضح من حصيلة ما أفضت اليه انتخابات المتن، خصوصاً لجهة فوز الجميل الابن بمقعد نيابي، ان هذه العائلة استعادت موقعها في المعادلة السياسية في المنطقة كما في الحياة الوطنية، لتتخذ منذ اليوم مكانها في تقاسم الزعامة على المتن بين ثلاث قوى اخرى: رئيس الجمهورية إميل لحود الذي أظهر بترشيحه نجله اميل اميل لحود لانتخابات المتن وفوزه تالياً سعياً الى استعادة دور سياسي لوالده اللواء جميل لحود، ووزير الداخلية ميشال المر، والنائب نسيب لحود الذي يثابر على الاحتفاظ بالموقع التقليدي الذي كان لوالده النائب والوزير السابق سليم لحود منذ عام 1954 وحتى وفاته. الا ان تنافس هذه القوى وقد أضحت الآن أربع تطرح احتمالات التعايش الصعب في منطقة جغرافية صغيرة نسبياً، الا انها تضج بقوى نافذة وقادرة في السلطة وخارجها، وليس اقلها وجود رئيسين للجمهورية فيها احدهما حالي والآخر سابق استرجع سريعاً بريقه السياسي. ولهذا يبدو ان مثل هذا التنافس على الزعامة المتنية، وفي جزء اساسي منه على الزعامة المسيحية، يحجب او سيحجب الى حد بعيد دور حزب الكتائب في ظل ترؤس الحاج له، والذي سيُبرز لاحقاً عجزه عن الموازنة بين القوى المتنية الأربع وعن اتخاذ موقع له بينها ما لم يضع الرئيس الجميل فعلياً يده على الحزب بعدما أظهر الى الآن نجاحه في استقطاب كل مراكز القوى في هذا الحزب الى جانبه. ومع ان الجميل الأب يتفادى في الوقت الحاضر ابداء اي اهتمام مباشر بمصير الحزب، تاركاً المهمة لنجله، الا ان المطلعين على موقفه يشيرون، في المقابل، الى حرصه على التعامل تدريجاً مع ثلاثة ملفات يجدها ضرورية في المستقبل القريب مع معاودة دوره السياسي: العلاقة مع سورية، بناء تحالفات محلية، الوضع الداخلي في حزب الكتائب. وليس بعيداً من كل ذلك ان الجميل الأب، الذي سيبقى يستظله الابن في ادائه السياسي والبرلماني، يستعيد المبادرة في الساحة المسيحية بفعل انكفاء القوى المعارضة للنظام السياسي الحالي في البلاد عن قيادة الشارع المسيحي بإيجابية، وهو ما عبّر عنه جلياً تأييد رئيس حزب الوطنيين الاحرار دوري شمعون، على رغم دعوته الى مقاطعة الانتخابات، للائحة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط بغية تغليبها على اللائحة المنافسة التي تدعمها السلطة، فحضّ انصاره على الاقتراع لجنبلاط، الأمر الذي أتاح ولا يزال تقدير الدور المحدود لقوى المقاطعة في توجيه الرأي العام المسيحي. والواضح ان وجود الجميل في البلاد فتح نافذة على مقدرة استعادة المسيحيين دوراً ما، سرعان ما برهنته نتائج الانتخابات الاخيرة بحدثين اثنين شكّلا المفاجأة: فوز الجميل الابن بمقعد نيابي متني أعاد به الضوء الى وجود والده الرئيس السابق في هذا المقعد منذ العام 1970 وحتى انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1982، بخرقه اللائحة التي تزعمها المر. وهو امر عكس الى حد كبير امكان السيطرة على قسم مهم من اتجاهات الرأي العام اللبناني، والمسيحي خصوصاً، وان في مواجهة وزير الداخلية الرجل الأول للسلطة والرجل الأقوى. سقوط النائب الياس حبيقة في انتخابات دائرة بعبدا عاليه على نحو أظهر للمسيحيين خصوصاً، تهاوي فكرة "الثوابت" وتخلي سورية بالذات ربما عن التمسك بهذه القاعدة التي رافقت السنوات التسع في عهد الرئيس الياس الهراوي. الا ان خسارة حبيقة، كأحد أبرز حلفاء سورية، اظهرت من جهة اخرى صحة ما يتردد عن اعتزام الرئيس السوري بشار الأسد فتح صفحة جديدة في العلاقات اللبنانية السورية تنهي الالتباس المعقّد الذي رافقها نحو عقد من الزمن. فللمرة الأولى لم يُبدِ السوريون تمسكاً بحليف مسيحي لم يقدم في واقع الأمر لدمشق ضمان بناء علاقات سورية مسيحية ايجابية. والواضح من كل هذه الحصيلة انه لن يكون في وسع الجميل الأب التقاط المبادرة كاملة، على أهمية موقعه كرئيس سابق للجمهورية اختبر أقسى تجارب الحكم وحقباته، الا من خلال قيادة حزب الكتائب بالذات، وبقواعد كاملة بعيداً من انشقاقاتها وخلافاتها. وهذا ما منحه اياه سريعاً نجله بيار في انتخابات المتن، في أن انتزع من رئيس الحزب منير الحاج الشرعية التمثيلية في قيادة الحزب، وأعادها بعد طول إبعاد، منذ وفاة جدّه المؤسس العام 1984، الى هذا البيت. والى الرئيس السابق للجمهورية