هل تستعيد السينما الجزائرية أنفاسها، بعد أن غابت طوال عقد؟ هذا هو السؤال الذي يشغل بال المعنيين بالسينما العربية بصورة عامة، وبسينما الجزائر بصورة خاصة، منذ فترة. إذ أن هؤلاء، بعد زمن انشغلت خلاله أذهانهم بما يحدث في الجزائر من تقلبات سياسية ومجازر، تنبهوا، حين بدأت الأمور تستقر سياسياً وأمنياً، إلى أنهم - والعالم معهم - نسوا أمراً أساسياً، وهو تلك النهضة السينمائية الجزائرية التي سادت خلال سنوات الستين والسبعين، وكادت تجعل من الجزائر إحدى أبرز بلدان العالم المنتجة والمشجعة للسينما الجادة. صحيح ان السينمائيين الجزائريين لم يختفوا تماماً خلال "المرحلة الصعبة"، اذ ظلت هناك أفلام تصنع في الجزائر نفسها، على رغم كل شيء. وظل "السينماتيك" الجزائري موجوداً، غير أن هذا كان شيئاً آخر يختلف تماماً عن ذلك الازدهار الذي عرفته صناعة سينمائية سارت بُعيد سنوات الثورة في أكثر من اتجاه. واليوم، بعد سنوات القطيعة، يبدو ان هناك ما يتحرك في دنيا السينما الجزائرية، فمن كتابات تملأ الصحف العامة والمتخصصة، مذكرة بماضي هذه السينما، إلى الإعلان الصاخب خلال مهرجان "كان" السينمائي الأخير عن مهرجان سينمائي كبير سيقام في عاصمة الجزائر السنة المقبلة، إلى وصول عدد من مخرجي المنفى، إلى تعبيرات سينمائية تبدو كأنها اليوم نوع من الايذان بولادة لغات سينمائية ومواضيع سينمائية جديدة. كل هذا يفرض السؤال الأساسي الذي يود كثيرون ان يعثروا له على جواب: هل يمكن ان تستعيد السينما الجزائرية أنفاسها؟ والحقيقة ان الجواب على هذا السؤال لا يعني السينمائيين الجزائريين وحدهم، بل يعني سينمائيين آخرين كثيرين في العالم، لا يزال في أذهانهم حتى اليوم شيء من ذكريات العصر الذهبي للسينما الجزائرية، يوم انطلقت غير مكتفية بانتاج أفلام محلية، أو بدعم المخرجين الجزائريين وحدهم، بل أيضاً آخذة على عاتقها دعم كثير من سينمائيي العالم الثالث وسينمائيي أوروبا، منها جعل للسينما الجزائرية في ذلك الحين بعداً عالمياً وتقدمياً لا شك فيه. ومن نافلة القول إن التحية الخاصة التي يقدمها معهد العالم العربي في باريس إلى السينما الجزائرية، تأتي لتذكر بذلك كله. إذ من خلال تظاهرة تكريمية خاصة تقام للسينماتيك الجزائري، سيتاح للجمهور أن يرصد، ذلك التاريخ المضيء للسينما الجزائرية. علماً بأن ما يمكن ان يكون قد وفر الأرضية لمثل هذا الرصد، كون هذه السنة تصادف الذكرى الخامسة والعشرين لحصول واحد من أكبر الأفلام الجزائرية على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" الدولي، ليشكل بذلك أكبر اطلالة لسينما عربية على العالم، والحلقة الأولى في انتصارات سينمائية عربية لاحقة، كان من أبرز علاماتها فوز مارون بغدادي بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمه "خرج الحياة" وفوز يوسف شاهين بجائزة خمسينية "كان" لمناسبة عرض فيلمه "المصير" في 1997. وعلى رغم هاتين العلامتين، يبقى أن فوز محمد الأخضر حامينا في 1975 بالسعفة الذهبية عن فيلمه المميز "وقائع سنوات الجمر" يمكن اعتباره علامة فاصلة وأساسية يؤرخ لها وبها جزء أساسي من تاريخ السينما العربية والجزائرية. جاء انتصار فيلم الأخضر حامينا في "كان" تتويجاً لتلك السينما الجزائرية التي ولدت قبل ذلك بنحو عقد ونيف، واستطاعت ان تفرض حضورها. ومن الملفت، والطبيعي أيضاً، في ذلك الحين ان يأتي "وقائع سنوات الجمر" تتويجاً لسينما عرفت بداياتها إصراراً على التعاطي السينمائي مع قضية الثورة وبطولاتها، وعسف المحتل الفرنسي، فالحال أنه لم يكن في إمكان السينما الجزائرية، في البداية ان تكون غير ذلك، وهكذا من "فجر المعذبين" 1965 لأحمد راشدي و"رياح الأوراس" لمحمد الأخضر حامينا 1966، وصولاً إلى "الوقائع" 1975 ظلت السينما الجزائرية مصرة على التعاطي مع قضايا الثورة. وكانت تلك القضايا لا تزال تشكل الهاجس الرئيسي لمتفرجين عاشوا الثورة، وعايشوا أحداثها في بلد كان يطلق عليه اسم "بلد المليون شهيد". ولكن ذات يوم، وفي خضم انتاج سينمائي "ثوري" ضُخّ في الوقت نفسه بأفلام عن الثورة نفسها صنعها مخرجون أجانب أو عرب من غير الجزائريين، كان لا بد لذلك كله ان يتبدل، وساعد على الوقفة النقاش الحاد الذي ثار من حول "وقائع سنوات الجمر" نفسه، حيث ان هذا الفيلم بدا أقل امتثالاً للحس الثوري، وذا رغبة في المساجلة حول بعض المسلمات. ولقد رأى كثيرون يومها - عن غير حق - ان هذا ما أدى إلى تحقيقه ذلك الفوز العالمي الكبير في "كان". مهما يكن، فقد كان على السينما الجزائرية ان تتحول إلى سينما تراجع الماضي بعض الشيء، وتنظر إلى الثورة وتاريخ رجالها نظرة أقل مثالية وأكثر واقعية من ذي قبل. وكانت الخطوة الأولى في ذلك، عن طريق فيلمين يمكن اعتبارهما من أفضل ما حقق في تاريخ السينما الجزائرية، وهما "نوه" 1974 لعبدالعزيز طولبي، و"الفحام" 1972 لمحمد بوعماري. بدا يومها كأن هذين الفيلمين راغبان في وقف السينما الممجدة للثورة، بحثا عن حساسية تنتقد الثورة، أو تلاحظ بعض عيوب أصحابها. وفي الأحوال كافة كان من الواضح ان ذينك الفيلمين اقفلا مرحلة وابتدءا مرحلة جديدة، ومعهما أصبحت السينما الجزائرية أكثر واقعية في تعاملها مع الماضي والنظر إلى الواقع والحاضر. في ذلك الوقت نفسه، كان الانتاج السينمائي الجزائري يتجه نواحي أخرى، إذ أن الدور الجديد الذي كانت جزائر الهواري بومدين بدأت تراه على صعيد العالم وعلى صعيد العالم الثالث تضافر مع النجاحات الطيبة التي كانت السينما الجزائرية قد بدأت تحققها، في الداخل كما في الخارج، لتخلق ذلك التوجه الذي اسفر عن دعم الجزائر لعدد كبير من السينمائيين المستقلين في العالم. ولقد اسفر ذلك الدعم عن انتاج افلام يعتبر كل منها في مجاله، علامة اساسية. وحسب التكريم الذي يقدم في باريس للسينماتيك الجزائري ان يضم فيلمين أولهما فيلم كوستا غافراس الشهير "زد" الذي افتتح عام انتاجه 1968 نوعاً سينمائياً "جديداً" هو الفيلم السياسي، وثانيهما فيلم يوسف شاهين "العصفور" 1974 الذي كان واحدة من المساهمات العربية الرئيسية في دعم السينما العربية، وعلى الأقل الوجه المتقدم والتقدمي منها، في ذلك الحين. طبعاً، لا يحتاج المرء الى التوقف كثيراً عند "زد" أو "العصفور"، فالفيلمان يعتبران الأشهر بين أعمال صاحبيهما، وقد شاهدهما عشرات ملايين المتفرجين، وأسس كل منهما لتيار وحساسية. لكن ما ينبغي التذكير به ان أياً من هذين الفيلمين ما كان من شأنه ان يرى النور ويحقق ذلك النجاح كله لولا الدعم الجزائري. ودعم هذين الفيلمين لم يكن المساهمة الجزائرية الوحيدة في هذا المجال، اذ واصلت الجزائر في ذلك الحين مساندة كثير من السينمائيين الأوروبيين والعرب. وكان ذلك في وقت كانت فيه السينما الجزائرية نفسها قد أضحت اكثر تقدماً، وأشد نقداً تجاه ما يحدث في الجزائر نفسها. ولهذا جاء فيلم "عمر جتلاتو" لمرزاق علواش 1979 فاتحة العقد في تيار سينمائي جديد، لم يعد يكتفي بعدم تمجيد الماضي الثوري، ولا حتى توجيه النقد الى بعض سمات ذلك الماضي، بل بات همّه ان يتوقف عند الحاضر وأزماته، وان يحاول إلقاء نظرة على المستقبل الذي كان أخذ يبدو غير مطمئن. ولهذا فإن جزءاً كبيراً من أهمية "عمر جتلاتو" يكمن في كونه الفيلم/ النبوءة الذي قرع أجراس الخطر. طبعاً حين عرض الفيلم لم يتنبه كثيرون الى ما كان يريد ان يقوله، ولكن المهم في الأمر ان الفيلم فتح المجال واسعاً أمام السينمائيين، وربما الكتاب والمسرحيين أيضاً ليقولوا الأخطار مقبلة. بعد نحو عقد من عرض "عمر جتلاتو" بدأت علامات الانهيار تظهر بوضوح على محيا المجتمع الجزائري، وبدأ الشبان الذين يتحدث الفيلم عنهم، يظهرون كقوة رفض - غير واثقة على أية حال مما تريد ان تعبر عن رفضها لما يحدث، وتريد أن تقول في الوقت نفسه أنها لم تعد مكتفية بتمجيد ماض صنعه الآباء، وليست شاعرة ان لها أية علاقة به. وحين بدأت الأوضاع تتدهور، بعد رحيل بومدين وفي ظل حكم الشاذلي بن جديد، كان من الطبيعي للسينما الجزائرية ان تبدأ بالتراجع. لكن ذلك لم يمنعها من أن تواصل انتاج بعض اجمل الافلام. وضمن ذلك الاطار كان، على سبيل المثال، فيلم "نهلة" لفاروق بلونة، ذلك الفيلم الساحر والقوي الذي رسم صورة للحرب اللبنانية، من خلال نظرة صحفي جزائري يزور لبنان للاطلاع على تلك الحرب بنفسه. وحين حقق مرزاق علواش فيلمه الثاني "مغامرات بطل" 1969، كانت "بيطارية" احداث الفيلم ولغته تحاولان تأسيس لغة سينمائية جديدة. ومع هذين الفيلمين، انعتقت السينما الجزائرية نفسها تماماً من الثورة وما بعد الثورة، وراحت تنظر الى الذات والى الخارج نظرة أكثرا متلاء بالهذيان. وكان هذا الهذيان هو ما مكن محمود الزموري من تحقيق "سنوات التويست المجنونة" 1983 كنوع من الاحتجاج على واقع، وواقع سينمائي في الوقت نفسه. غير ان الزموري لم يكن جزائرياً بالمعنى الخالص للكلمة. كان مقيماً في الخارج. ومن هنا فإن اطلالته على الداخل راحت ترتدي ثياباً مختلفة تماماً هو الذي وجد نفسه غير مكبل تماما بالماضي أو بالحاضر. وكان ذلك الزمن زمن الانعتاق من تلك القيود. الزمن الذي راح فيه مخرجون من امثال الأخضر حامينا وأحمد راشدي وحتى مرزاق علواش يبحثون عن مواضيع تخرج بهم عن السائد، وتعيد النظر جذرياً في ما حدث، رامية عبء الحاضر الكئيب على الماضي الذي مهد له وخلقه. وهكذا كانت أفلام مثل "طاحونة السيد نابر" وغيره ايذاناً بولادة حساسية جديدة. هذه الحساسية هي التي ولدت سينما أخرى راحت تصنع، اما في الداخل، واما في الخارج، إذ راح تطور الأحداث يرسل مبدعي السينما الجزائرية، في وقت كانت فيه تيارات سينمائية مرتبطة بالجزائر، عبر القوى البشرية نفسها، تنمو في الخارج فرنسا خاصة في اوساط سينمائيين كانوا يدرسون هناك، أو يعيشون وحسب، ورأوا ان ما يمكن ان يحققوه هناك سيكون تحقيقه اسهل مما هي الحال في الجزائر. فالجزائر كانت، في ذلك الحين بالذات، بدأت تفقد بريقها كدولة أساسية منتجة للسينما وداعمة لها. وفي التوازي مع ذلك، كان "السينماتيك" الجزائري نفسه أي مكتبة الافلام قد بدأ يعرف جموداً، هو الذي كان خلال سنوات عديدة المشتري الأكبر لنسخ الأفلام العربية والتقدمية العالمية، ما جعل رفوفه تحتوي على بعض اجمل واهم ما انتج في العالم. وهكذا تبدل كل شيء. صحيح ان الانتاج تواصل، على أيدي مبدعين من أمثال محمد الشويخ، الذي قدم "القلعة" 1988 واحداً من الأفلام الجزائرية الأكثر أهمية والأكثر رؤيوية، قبل أن يتراجع بعض الشيء في فيلميه التاليين "يوسف" و"عرش الصحراء"، وعن طريق الأمين رباح وغيره من اصحاب الاسماء البارزة في السينما الجزائرية. غير ان البلد الذي كان يتيح لمبدعة مثل آسيا جبار ان تقدم قبل ذلك بعشر سنين، واحداً من الأفلام الأكثر دفاعاً عن المرأة الجزائرية والأكثر ادانة للرجل "الذي صنع الثورة وها هو اليوم مشلول"، لم يعد قادراً على تقديم ما يمكن من انتاج مثل هذه الأفلام. وهذا كله جرى بالتوازي، مع خلو الصالات وامتلائها بالغبار، مع الشلل الاقتصادي، ومع الأحداث السياسية والأمنية. وطوى كل مخرج مشاريعه ينتظر، أو يسافر الى الخارج، مثل مرزاق علواش الذي، بعدما حقق في "باب الواد سيتي" واحداً من اكثر الافلام ادانة لما يحدث، وجد نفسه، على غرار بطل فيلمه، يهاجر الى الخارج، لينضم الى كوكبة من مخرجين جزائريين، أو جزائريي الأصل، من أمثال رشيد بوشارب، ومهدي شريف وعبدالكريم بهلول ثم كريم طرادية وقبلهم محمد الزموري، ليحاولوا، معاً، ان يبقوا على قيد الحياة - وفي المنفى غير البعيد - سينما كانت ذات يوم ذات قوة ووعد. وفي الخارج ايضا عاش المخضرمون من امثال محمد الأخضر حامينا واحمد راشدي، يحمل كل منهم مشاريعه وينتظر... واليوم يبدو ان الانتظار لن يطول. فإذا كان صحيحاً ما قاله مخرج جزائري، اتى على ذكره بوجمعة ارش، مدير "السينماتيك" الجزائري، في كلمة مهد بها للتكريم الذي اقيم في معهد العالم العربي، من أن "اخراج الافلام معناه صنع الجزائر من جديد"، فإن هدوء المرحلة الراهنة يعد الآن بالكثير. ومهرجان السنة المقبلة يعد بما هو أكثر. اما المهرجان الباريسي فإنه اذ يذكرنا بما كانت عليه السينما الجزائرية ذات يوم، من شأنه، في الوقت نفسه أن يقول لنا انها ستعود الى قوتها وفعاليتها، خلال المراحل المقبلة، لأنها - اذا كانت خسرت الكثير - فانها لم تخسر ما هو أساسي: قواها البشرية، التي عركتها الأيام والاحداث اكثر