في تاريخ السينما العربية حقبة من ذهب، خارج إطار السينما المصرية ولكن أحيانا بالتماسّ معها، تمثلها السينما الجزائرية التي يذكر كثر من المهتمين بالسينما أنها وصلت في الستينات والسبعينات إلى أن تكون ثاني السينمات الكبرى في العالم العربي، وواحدة من السينمات الأساسية في العالم الثالث كمّاً، ولكن من ناحية النوعية أيضاً، النوعية التي تفوقت فيها حتى على السينما المصرية الأم. وعلى رغم «نهضة سينمائية» مموّلة من السلطات انبعثت قبل عامين أو ثلاثة في الجزائر مذكرة إلى حد ما بحقبة الذهب التي نتحدث عنها، لا يزال مسار هذه السينما يتعرج تعرّج الأوضاع السياسية، بحيث إن في هذه الأيام التي تطل فيها الذكرى الستون لاندلاع الثورة الجزائرية، لم يبقَ لأهل السينما ومحبيها إلا الحسرة ممتزجة باستعادة لبعض التاريخ المجيد الذي عاشه الفن السابع هناك، منذ ما قبل الثورة، ليتواصل بعدها وصولاً إلى كون الجزائر أول – وآخر – بلد عربي يفوز فيلم من إنتاجها بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان» في الجنوب الفرنسي. كان ذلك في عام 1975. يومذاك كان يفترض بذلك النجاح العالمي الذي حققه فيلم «وقائع سنوات الجمر» لمحمد الأخضر حامينا، أن يفتح الدرب أمام تراكم سينمائي مدهش، لكن الذي حدث هو أن التدهور راح يتفاقم ليصبح الحلم السينمائي الجزائري جزءاً من ماض مجيد. وهذه الحكاية هي ما نتوقف عندها هنا، احتفالاً منا بدورنا بالذكرى الستين لاندلاع الثورة... كما لولادة السينما في الجزائر. بدايات خارجية ففي اختصار لا تبدو السينما الجزائرية قادرة اليوم على الوفاء بوعودها القديمة، بل بات من الصعب الحديث عن إنتاج سينمائي في هذا البلد يكفي لإعادة وضع ما ينتج هنا على قلته، على أية خريطة للسينما العالمية. ولن ندخل بالطبع في الأسباب التي أدت إلى ذلك التدهور، لكننا سنحاول أن نتوقف بعض الشيء عند سمة أساسية من السمات التي طبعت هذه السينما وذلك منذ نشوئها في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين وحتى «وقائع سنوات الجمر»... ونحن نعرف أن السينما الجزائرية لم تقبع قبل ذلك في انتظار فيلم الأخضر حامينا حتى تمارس وجودها الشرعي، بل إن هذا الفيلم نفسه لم يكن أول أفلام الرجل ولا أفضلها. ربما تكمن أهميته في ضخامته وتقنياته، وربما حتى في «المراجعة» السياسية التي مارسها لمسار الثورة مسجلاً تناقضاتها تماماً بالمقدار نفسه الذي سجل فيه إنجازاتها. في هذا المعنى كان فيلماً نزيهاً ودخل في إطار تلك الأفلام الجزائرية التي ما انقضى العقد الأول من انتصار الثورة والحصول على الاستقلال، حتى غاصت في لعبة تساؤلات وإعادة تقويم وصلت أحياناً إلى تجاوز الخطوط الحمر... هنا، قد يكون مفيداً أن نعود بعض الشيء إلى البدايات حاصرين حديثنا في الأفلام التي حكت عن الثورة، حرّضت لمصلحتها، ناقشت مجرياتها، أظهرت بطولاتها، وفي اختصار: روت حكاية ذلك الشعب الذي خبط ذات يوم كفه على الطاولة صارخاً: كفى! فكانت ثورة دامت سنوات، أُريق خلالها دم كثير وتفاقم دمار وتساقط قتلى ولكن ليس دائماً بيد العدو! والحال أن أول ما ينبغي التنبه إليه هنا، هو أن الشرائط الأول التي لامست الثورة وقضاياها لم تكن من صنع الجزائريين، ولا كانت أفلاماً روائية طويلة. صحيح أن أول ما يمكن ذكره هنا كان غالباً من تحقيق فرنسيين... ينتمون هويةً إلى الأمة التي تحتل أرض الجزائر وتنكل بشعبها، لكن هؤلاء الفرنسيين اختاروا باكراً أن يقفوا بأفكارهم ومعداتهم ومواهبهم إلى جانب الأمة المظلومة. هكذا، نجدنا عند البدايات أمام أسماء سيكون لها مكان لاحقاً في تاريخ السينما الأوروبية: رينيه فوتييه، بيار كليمان، غي شالون، فيليب دوران. وكان ما حققه هؤلاء وغيرهم، في شرائط تحمل عناوين مثل «الجزائر تحترق» و «اللاجئون» و «ساقية سيدي يوسف» و «قطاع البريد 98 - 89»، يدور إما حول اندلاع الثورة، وإما حول ما يعانيه الجنود الفرنسيون في خضم «الجحيم الذي لم يختاروا أن يكونوا فيه». ولسوف يجد هذا النوع ذروته عام 1960 حين حقق جان لوك غودار فيلمه «الجندي الصغير» وفيه جندي فرنسي شاب يهرب لاجئاً إلى سويسرا حيث يلتقطه تنظيم يميني متطرف يغسل دماغه ويكلفه اغتيال شخصية قريبة من جبهة التحرير الوطني الجزائرية. يومذاك منعت السلطات الفرنسية الفيلم الذي أثار سجالات غاضبة أحياناً حتى في أوساط اليسار الفرنسي المتعاطف مع الثورة. لكنه في الوقت نفسه أطلق الشرارة، إذ خلال السنوات التالية سنجد كثراً من كبار السينمائيين الفرنسيين، وبعضهم من مخرجي «الموجة الجديدة»، يدنون من الموضوع نفسه، في شكل أو في آخر معبّرين عن نوايا طيبة بعضها قد لا يكون مهتماً بالجزائر وشعبها قدر اهتمامه بمصير الشبان الفرنسيين والضمير الفرنسي الذي وضعته حرب الجزائر على المحك. هكذا، من جان روش وإدغار موران («مدونات صيف» - 1961) إلى آنييس فاردا («كليّو من 5 إلى 7» 1961) مروراً بروبير إنريكو («الحياة الحلوة» - 1962) وآلان رينيه («موريال» - 1961) إلى كثرٍ غيرهم، راحت نوعية معينة من السينما الفرنسية تقول غضبها ضد الحرب وتحرض... وغالباً ما كانت السلطات الفرنسية لها بالمرصاد. من الواضح أن هذا الزخم كان لا بد له من أن ينعكس في النهاية على المبدعين الجزائريين. وهؤلاء بعدما خاضوا غمار السينما التسجيلية طوال سنوات، وأطل الاستقلال حتى انتقل معظمهم إلى السينما الروائية. ولكن، كان قد سبقهم سينمائي عربي كبير حقق ذلك الفيلم الذي عرف كيف يساهم في تحليق قطاعات عريضة من الرأي العام العربي حول القضية الجزائرية محققاً الفيلم الذي يشغل حتى الآن مكانة أساسية في تاريخه. ونعني طبعاً يوسف شاهين وفيلمه «جميلة الجزائرية» الذي حققه في عام 1958 في مصر. وكان من الطبيعي لشاهين في ذلك الوقت، وبناء لطلب من الفنانة ماجدة، أن يختار الحديث عن حياة جميلة بوحيرد ومآثرها، البطلة الجزائرية التي كان اسمها على كل شفة ولسان، كي يحكي من خلالها قضية الجزائر وثورتها من منظور عربي (سيوازيه بعد عقد تقريباً منظور أوروبي يتمثل في فيلم «معركة الجزائر» للإيطالي جيلو بونتكورفو الذي تزامن عام 1966 مع عمل يحمل المنظور الجزائري هو «رياح الأوراس» لمحمد الأخضر حامينا). والحال أنه يكفينا اليوم أن نقارن بين هذه الأفلام الثلاثة حتى نجدنا أمام رؤية مثلثة الأبعاد لثورة كانت أصلاً تحمل أكثر من بُعد وأكثر من تفسير. بالتأكيد، ليس في وسعنا هنا أن نقول إن السينمائيين الجزائريين أنفسهم كانوا مدركين تعدّد الأبعاد باكراً. ذلك أنهم في الواقع كانوا يخوضون الثورة ويصورون، يحققون النجاحات ويصورون، ثم يحصلون على الاستقلال ويصورون. في ذلك الوقت المبكر، لم يكن ثمة مجال للغوص في التحليل وتصوير التناقضات. وهذا أمر سيؤمنه لاحقاً، وبعد سنوات من الاستقلال، أولئك السينمائيون الذين وجدوا أنفسهم بعد سنوات وبعد خيبات، يطرحون على أنفسهم أسئلة أكثر مما يأتون بإجابات، ويستشيطون غيظاً بدلاً من مواصلة المديح. وسيكون في مقدم هؤلاء عبدالعزيز الطلبي (في «نوة» - 1972) ومحمد بوعماري (في «الفحام» - 1972) وبخاصة آسيا جبار (في «نوبة نساء جبل شنوة» - 1977). مهما يكن من أمر، لا بد من التشديد هنا على أن أفلاماً مثل «جميلة...» و «معركة الجزائر»، إنما تتخذ قيمتها من مواقفها السياسية وحجم التعاطف الخارجي الذي حملته إلى الجزائريين، أكثر مما تتخذها من قوتها السياسية أو حتى التعبيرية، أو صوابية تصويرها لحال الجزائر وثورتها وشعبها. هذا الأمر الأخير كان، على أية حال، في عهدة السينمائيين الجزائريين أنفسهم، وفي مقدمهم في ذلك الحين أحمد راشدي الذي بعدما خاض السينما التسجيلية النضالية في أفلام قصيرة مثل «أياد كالعصافير» بالتوازي مع اشتغال زميله ومواطنه حامينا في المجال نفسه، نراه في عام 1969 يحقق أول أفلامه الروائية الطويلة الهامة «الأفيون والعصا» عن رواية مولود معمري المعروفة والمتحدثة عن الحياة اليومية في قرية جزائرية تعرضت في الجبال البعيدة لعسف جيش الاحتلال. من النضال إلى الذاكرة لقد أتى «الأفيون والعصا» بعد الاستقلال بسنوات ليحوّل التعاون الفني مع الوضع الجزائري إبان الاحتلال إلى ذاكرة بعدما كان قبل ذلك بسنين جزءاً من ممارسة النضال. وحين حقق راشدي هذا الفيلم الذي لا تزال له قوته القصوى حتى اليوم، كان قد أضحى جزءاً من تيار سينمائي كامل همه أن يمجد الثورة من دون أن يقدّم رنات انتقاد حقيقية، ذلك أنه، من أجل بناء الوطن في ذلك الحين، كان المطلوب في المقام الأول، استنهاض الهمم وتجميع الطاقات حول كل ما يحمل إجماعاً، ولو مع لَي عنق التاريخ، قليلاً أو كثيراً، والسكوت عما لم يعد السكوت عنه ممكناً خلال الحقبة التالية. هكذا، في وقت كان سينمائيون فرنسيون، على الضفة الأخرى من المتوسط، يحاكمون ضمائرهم ويتساءلون باستنكار عما فعلته بلادهم بالجزائر (كما في «إليز أو الحياة الحقيقية» لميشال دراش - 1970)، أو يتساءلون عما فعلت تلك الحرب الظالمة بالشبيبة الفرنسية («المستسلم» لآلان كافالييه – 1964)، كان السينمائيون الجزائريون يمعنون في تحقيق أفلام التمجيد البطولية مثل «فجر المعذبين» لأحمد راشدي نفسه (1965) و «الطريق» لسليم رياض (1968) ثم «ديسمبر» لحامينا و «دورية من الشرق» لعمار العسكري (1971). والحال أن هذه الأفلام جميعاً سرعان ما تبين للأكثر تبصّراً من بين السينمائيين الجزائريين أنها تتسم بمقدار مبالغ فيه من الجدية الثورية، أي تُصنع كما لو أن الثورة لا تزال قائمة وكما لو أنه لا يزال مطلوباً من السينما أن تعبئ الأنفس والأفئدة. هكذا، في نوع من رد الفعل الموارب على «جدية» هذه الشرائط، بدأت تنهض تلك المواهب الأكثر دينامية والأقل رغبة في الامتثال. فكانت منذ وقت مبكر أفلام مثل «حسن ترّو» الذي سيكون فاتحة لسلسة مغامرات ساخرة ستصل إلى ذروتها لاحقاً مع مرزاق علواش في «عمر قتلته» لكن، هذه حكاية ليس هنا مجالها. هنا نتوقف فقط عند «حسن ترّو» الذي حققه الأخضر حامينا عن مسرحية للفنان المعروف رويشد كانت اشتهرت حين قدمت متحدثة عن «بورجوازي صغير يجد نفسه منخرطاً في الثورة رغم أنفه». والحقيقة أن «حسن ترّو» هذا، كان أول خرق للتابو الثوري، لكنه طبعاً لن يكون الأخير. غير أن هذا الخرق كان لا يزال موارباً كما هي الحال في «تحيا يا ديدو» لمحمد زينات (1971). والحقيقة أن هذا الفيلم الأخير الذي كان يفترض به أول الأمر أن يكون شريطاً سياحياً، سرعان ما طلع فيلماً هادئاً يغوص في روح المدينة ويكاد يعلن بشيء من «الوقاحة» أن الثورة انتهت. ولعل أهمية هذا الإعلان تنبع من كون القطبين الكبيرين راشدي وحامينا، عادا حتى بعد إرهاصات المراجعة، إلى سينما الثورة والتمجيد البطولي في شكل أو في آخر، يشاركهما كل من الأمين مرباح وتوفيق فارس... بل إن النجاح العالمي والنقدي الذي حققه بونتكورفو في «معركة الجزائر»، ناهيك بالأهمية الفائقة التي أُسبغت في العام نفسه (1971) على فيلم رينيه فوتييه «أن تكون في العشرين في الأوراس»، حرّكا الكاميرات من جديد في اتجاه سينما التمجيد الثوري. أسئلة شائكة وكادت الأمور تتواصل على هذا النحو لولا أن جاء «الفحام» لمحمد بوعماري في عام 1972. وجاء معه في العام نفسه «نوّة» لعبدالعزيز الطلبي، إذ مع هذين الفيلمين اكتشف المعنيون بالسينما وبالثورة معاً أن ثمة أسئلة بات لا بد من طرحها: ما هو مصير الثورة؟ كيف تحولت إلى «هذه» الدولة؟ ماذا حلّ بالأبطال الذين حققوا الاستقلال؟ (الفحام»). بل أكثر من هذا: من صنع الثورة أصلاً؟ أولم يكن هناك انتهازيون وإقطاعيون تواطأوا ضدها؟ وهل الشر أتى كله من جانب المحتل؟ («نوّة»). والحقيقة أن في إمكاننا أن نضع اليوم هذين الفيلمين كعلامتين على وعي جديد قد يرى البعض – مع هذا – أنه لم يكن بريئاً كل البراءة في توقيته، وذلك أن هذين الفيلمين اللذين في شكل أو في آخر مهدا الطريق للثورتين السينمائيتين اللتين سيحققهما لاحقاً، محمد الأخضر حامينا (في «وقائع سنوات الجمر») ومرزاق علواش (في «عمر قتلته») – والحديث عنهما لا يدخل في سياق حديثنا هنا، بل نتركه لمناسبة لاحقة - هذين الفيلمين أتيا في خضمّ مراجعة من أعلى للماضي القريب، وعند بداية ثورة زراعية ونهضة اجتماعية تجديدية تحت شعارات راحت تصرخ: ألا يتوجب علينا اليوم أن نضع أمجاد الثورة جانباً لنسأل أنفسنا عن الحاضر والمستقبل؟