أصبح من المستبعد إعادة التفاوض مرحلياً بين القاهرة وتل أبيب على صفقة الغاز المصري لاسرائيل بعد تراشق إعلامي بين الجانبين انتهى الى استغناء كل طرف عن خدمات الطرف الآخر الغازية، تصديراً واستيراداًَ. وقال مصدر مسؤول في القاهرة إن مصر ليست في حاجة الى السوق الإسرائيلية، وفي تل أبيب طلبت لجنة متخصصة في الكنيست إغلاق ملف استيراد الغاز المصري والاتجاه نحو الغاز الإسرائيلي الذي بدأ يتدفق قبالة عسقلان في البحر المتوسط. واللافت أن هذا التطور السلبي يأتي بعد أقل من شهرين فقط على توثيق "اتفاق نوايا" بين القاهرة وتل أبيب وقعه في 13 نيسان ابريل الماضي وزير البترول المصري المهندس سامح فهمي ووزير البنية التحتية الإسرائيلي إيلي سويسا، اتفق فيه الطرفان على تشجيع الشركات البائعة والمشترية في البلدين على دخول مفاوضات تجارية لإمكان تصدير الغاز المصري الى اسرائيل وفقاً للاحتياجات الإسرائيلية وتماشياً مع سياسة تنويع الأسواق المستهدفة من جانب قطاع البترول المصري الذي يسعى باتجاه أسواق أوروبا وافريقيا وشرق المتوسط إضافة إلى السوق الإسرائيلية. وجاء الرفض المصري على طريقة "صاع بصاع" حيث أوردت الصحف الإسرائيلية أخباراً مؤداها أن رئيس اللجنة الفرعية للخصخصة في الكنيست ينوي التقدم بمشروع قرار بوقف مفاوضات شراء الغاز من مصر والالتزام باستخدام الغاز الذي يتم اكتشافه في المياه الإسرائيلية فقط والذي يقدر حالياً بنحو 21 مليون قدم مكعب يومياً من حقل "اورا" حسب التقديرات الإسرائيلية. الرد المصري جاء ليضع النقاط فوق الحروف. فالقاهرة، حسب مسؤول مصري، لم تطلب في أي وقت من إسرائيل شراء الغاز، والمفاوضات الحالية تجري بناء على طلب من إسرائيل. أيضاً فإن القاهرة لديها أسواق عدة وتضع أولوياتها في تصدير الغاز الى عدد من الدول الأوروبية ولديها الأسواق والاتفاقات التي تستوعب كامل طاقتها التصديرية. لفت مراقبون مصريون إلى شدة الرد المصري، لكنهم طرحوا السؤال: هل ما جرى من تطورات سلبية - وإن كانت إعلامية - تعني إغلاق هذا الملف، وبالتالي إغلاق مشروع "أنابيب السلام" بين القاهرة وتل أبيب الذي بشر به اسحق رابين ورعاه شمعون بيريز وجمده بنيامين نتانياهو وأعاده للحياة ايهود باراك؟ وتتفرع عن هذا السؤال أسئلة أخرى من عينة: هل استغنت إسرائيل فعلياً عن 400 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز كانت تخطط لاستيرادها من مصر؟ وهل وجدت البديل في مياهها الاقليمية أو أية أنابيب أخرى بديلة في المنطقة؟ وعلى الصعيد المصري، هل وجدت القاهرة بدائل تصديرية للسوق الإسرائيلي؟ وهل تعيد الحياة لاتفاقاتها مع الجانب التركي، وما شكل اتفاقاتها الأخيرة مع الأسبان ودول جنوب أوروبا؟ أنابيب بيريز الواضح ان الملف لم يغلق بعد، وما جرى قبل ايام حلقة من مسلسل طويل ومستمر منذ سبع سنوات وحتى الآن، عندما طلبت إسرائيل من وزير البترول المصري الدكتور حمدي البنبي مد أنبوب لنقل الغاز يمتد بطول 300 كيلو متر من بورسعيد الى رفح وبطاقة 400 مليون قدم مكعب يومياً ضمن مشروع اطلق عليه حينئذ "أنابيب السلام" المشروع الكبير لربط دول المنطقة غازياً. إسرائيل كانت تخطط لاستبدال تشغيل محطاتها الكهربية بالغاز النظيف بدلاً من الفحم الملوث للبيئة الذي تستهلك منه خمسة ملايين طن سنوياً تنقل إليها بحراً من جنوب افريقيا. وحسب الرؤية الإسرائيلية، كما يسمى بالشرق أوسطية، فإن مشروع أنبوب بورسعيد - رفح يعد الانبوب الرئيسي والدعامة الأساسية في مشروع "أنابيب السلام" الذي تبلغ كلفته اربعة بلايين دولار، وكان من المخطط أن تنفذه الشركتان الاميركية "اموكو" والايطالية "أجيب" بإشراف شركة مصرية - إسرائيلية مشتركة، والأخيرة ممثلة في شركة "ميرهاف" العاملة في مجال تكرير البترول التي تشارك حالياً في مصر في مشروع تكرير البترول "ميدور" في الاسكندرية. أما المشاركة المصرية فمن نصيب الشركة المصرية الوطنية للصناعات البترولية، فضلاً عن عدد من الشركاء الأفراد على الجانبين. وحسب التصور الإسرائيلي فإن المرحلة الأولى من المشروع كان مقرراً الانتهاء منها مع نهاية العام الحالي ويتم خلالها مد الأنابيب من العريش الى اسرائيل، على أن تكون الخطوة التالية من الأنابيب الى داخل إسرائيل خلال عامين بكلفة 300 مليون دولار. والخطوة الثالثة من المشروع أن تتفرع الأنابيب الى ثلاثة أفرع نحو شواطئ أشدود وتل أبيب وحيفا بواسطة شركات تختارها وزارة البنية الأساسية الإسرائيلية. تتبقى المرحلة الرابعة وهى الأهم ويمد خلالها الأنابيب الى تركيا وسورية ولبنان بكلفة نحو بليون دولار من أحد الشواطئ الإسرائيلية الثلاثة. لقد دخلت مفاوضات الغاز على طاولة المفاوضات السياسية في المنطقة وجاور الرسم البياني لمفاوضات الغاز مع الرسم البياني لمفاوضات السلام. مصر ربطت التقدم في مفاوضات الغاز بالتقدم في عملية السلام وإسرائيل "تلاعب" الجانب المصري وتضغط عليه بأنابيب غاز آخرى في المنطقة وتسرب كل فترة أخباراً من نوعية استعدادها لاستيراد الغاز القطري ثم الروسي، واتجهت بضغوطها غرباً بهدف استيراد الغاز الجزائري، بل إنها اعلنت ذات مرة حصولها على الغاز المصري بطريقة غير مباشرة عند وصوله الى الأردن. والغريب كما يقول مصدر في وزارة البترول المصرية، أن البنية الأساسية لاستخدام الغاز ليست جاهزة في إسرائيل بعد. وشهدت المفاوضات سنوات عجافاً مع وصول نتانياهو الى رئاسة الوزراء وارييل شارون الى وزارة البنية التحتية، فكلاهما لم يحقق الشرط المصري للتقدم في مفاوضات الغاز والمقصود به التقدم في المفاوضات السلمية، فالقاهرة رفضت مكافأة نتانياهو بصفقة الغاز، كما أن وجود شارون وضع حاجزاً نفسياً تجاه تلك الصفقة برمتها مع تبني الصحافة المصرية للقب "السفاح" لوصف شارون ورفض الوزير البنبي استقباله فضلاً عن التفاوض معه. ومع وصول باراك وعودة بيريز الى الصورة مرة اخرى وزيراً للتعاون الدولي أعاد الاخير طرح مشروع الانابيب في لقاء مع الرئيس حسني مبارك اخيراً، تمخض عن لقاء وزير البترول المصري مع وزير البنية التحتية الإسرائيلي إيلي سويسا في نيسان "ابريل" الماضي قبل التراشق الإعلامي الاسبوع الماضي. حسب المصادر المصرية فإن الإجابة على اسئلة هذا الملف الشائك تقول إن إسرائيل خططت لهذه المشكلة وأنه أثناء اجتماع سويسا مع وزير البترول المصري فهمي، تم تسريب هذه الأخبار "المقصودة" حول اكتشافات الغاز في منطقة عسقلان. وقالت إسرائيل انه عثر على احتياطات تكفيها لمدة 15 سنة، وأن الطريق ممهدة لاكتشاف خزان غاز طبيعي ضخم وأن السنوات الخمس المقبلة تبشر ليس بالاكتفاء الذاتي بل وبمنافسة تجارية مع مصر، وأن تل أبيب تعد خططاً تصديرية للاسواق نفسها التي تستهدفها مصر في أوروبا. والأدهى إن إسرائيل أعلنت أنها تستورد الغاز المصري "الرخيص" لتغطية خطط التنمية المحلية. وبغض النظر عن صدقية الأرقام التي تعلنها اسرائيل وخلاصتها أنها في حال استغنائها عن الغاز المصري فإنها مارست ضغوطاً للحصول على سعر خاص، كما هو الحال في مجال البترول، حيث تحصل على 5،1 مليون طن سنوياً بسعر خاص وفقاً لاتفاقية السلام بين البلدين والتي تغطي 20 في المئة من الاحتياجات الأساسية للطاقة في المجتمع الإسرائيلي. ويلفت المصدر المصري إلى التضليل الذي تمارسه الآلة الإعلامية الإسرائيلية في هذه القضية، ويقول إن قراءة الواقع الإسرائيلي تشير الى انتظار إسرائيلي محموم للغاز المصري، وأن هذا الانتظار يعود الى ايام رابين العام 1993، كذلك فإن خططاً إسرائيلية معتمدة تشير الى ضرورة الحصول على الغاز المصري على الأقل لمدة عشرين عاماً مقبلة بمعدل ضخم قيمته المالية ربع بليون دولار سنوياً تصل الى الضعف العام 2015، وأن شركة الكهرباء الإسرائيلية مخطط لها أن تعتمد على 70 في المئة من طاقة تشغيلها على الغاز المصري بدلاً من المازوت، وأن الإسرائيليين يكابرون في إطار لعبة "لي الذراع" للحصول على الغاز بسعر خاص ومن دون انتظار لإتمام العملية السلمية التي هي أبرز الشروط المصرية. تنويع الأسواق لقد حدد المصريون مبكراً مواقفهم من مشروع "أنابيب السلام" وربطوه بعجلة العملية السلمية، وفي الوقت نفسه حددوا شروطهم لتصدير الغاز لإسرائيل، ولعل أبرزها ما صرح به وزير البترول المصري السابق الدكتور حمدي البنبي من أن تصدير الغاز الى اسرائيل لن يتم إلا بالاسعار العالمية، بما في ذلك خطوط الغاز الى الأردن وغزة وأريحا، والشرط الثاني أن التصدير لن يتم إلا بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي داخلياً في كل المناطق التي تحتاج الى الغاز، بما في ذلك مدن الصعيد المصري، ثالث الشروط أن القاهرة لا تضع في اعتباراتها مفاوضات الجانب الإسرائيلي في اتجاه استيراد غاز قطر أو روسيا خصوصاً أن المعلومات المؤكدة أن مفاوضات الغاز القطري مجمدة منذ فترة، وأن استيراد الغاز من كازاخستان يواجه صعوبات فنية تتمثل بضرورة مروره في المياه العميقة بعيداً عن المياه السورية على عمق 2 كيلو متر سواء في البحر المتوسط أم الأسود، وحتى ولو تم تنفيذه فإن كلفته ستكون غير اقتصادية في حال مقارنته بمد أنبوب بورسعيد الى الحدود الدولية لإسرائيل بطول 300 كيلومتر، وبكلفة تصل الى 350 مليون دولار في حين تصل كلفة انبوب كازاخستان الى ثلاثة بلايين دولار أو اكثر. ويرتبط الموقف المصري بسياسة تصدير الغاز التي أكد الوزير فهمي أنها تتجه نحو التنوع وأنه يدرس عروضاً عالمية لتصدير الغاز الطبيعي الى أسواق غير تقليدية وواعدة ولم تكن مطروحة من قبل تشمل اسبانيا والبرتغال واليونان وايطاليا وفرنسا وتركيا. ولعل العرض الأكثر بروزاًَ هو العرض الاسباني الذي أقره مجلس الوزراء المصري واعتمد إجراءات التفاوض مع الشركات الاسبانية التي وقعت "مذكرة تفاهم" بحاجتها للغاز الطبيعي المصري. وفي شأن إقامة خطين لإسالة الغاز الطبيعي بهدف تصديره وبكلفة تقديرية تبلغ نحو 4 بلايين دولار، على أن تتحمل الشركات المشترية للغاز جميع التكاليف الاستثمارية وتكون مدة التعاقد لعشرين عاماً مقبلة. وفي هذا الإطار أعلنت وزارة البترول المصرية عن توقيع "خطاب نوايا" بين الهيئة المصرية العامة للبترول وشركة "بي. بي أموكو" لإنشاء مجمع متكامل للغاز الطبيعي يضم وحدتين لإسالة الغاز ووحدتين لإنتاج البوتوغاز والمكثفات والبروبان. يستهدف إنشاء المجمع اقامة محطة على مستوى عالمي لسوائل الغاز الطبيعي وبناء محطة لإسالة الغاز وشحنه الى اسواق دول البحر المتوسط، تصل أول شحنة كما هو مخطط العام 2004. ومعروف أن "بي. بي أموكو" إحدى الشركات العاملة في تسويق الغاز في اسبانيا، وحسب ديفيد نيجيل رئيس الشركة في القاهرة فإن السوق الاسبانية تتنامى بسرعة أحد الاسواق الرئيسية للغاز المسيل المصري. والاتجاه المصري نحو السوق الاسبانية وخطاب النيات المصري - التركي الذي عطلته أحداث الزلزال التركي الأخير فضلاً عن التوجه المصري لأسواق افريقية يتواكب مع احتياطي مؤكد من الغاز الطبيعي يبلغ 2،43 تريليون قدم مكعب تزيد الى 100 تريليون قدم مكعب كاحتياطي مرجح حسب تقديرات رئيس شركة "بي. بي. اموكو" في مصر. في الإطار نفسه لفت بيترو كافانا رئيس مؤسسة "اجيب" الايطالية الى أن فرص تصدير الغاز المصري كبيرة الى اسواق أوروبا التي تعاني فجوة ضخمة في إمدادات الغاز لتوفير احتياجاتها من الاستهلاك، حيث إن الطلب على الغاز سيرتفع من 87 بليون متر مكعب سنوياً حالياً الى 503 بلايين متر مكعب سنوياً العام 2010، مضيفاً إن الغاز المصري من افضل البدائل لتوفير احتياجات أوروبا المستقبلية من الغاز لقربه من اسواقها والاستقرار السياسي والاقتصادي الذي تتمتع به القاهرة بغض النظر عن الرفض الإسرائيلي. ان التحرك المصري بعيداً عن الدائرة الإسرائيلية لا يعني إهمال مشروع "أنابيب السلام"، والتحرك الإسرائيلي بعيداً عن "أنابيب السلام" لا يعني إغلاقها تماماً بل يعني جولة أخرى مقبلة تنضم لجولات سابقة طوال سبع سنوات هي عمر المشروع الشرق أوسطي الكبير