ظلت فكرة الحق الطبيعي الذي قال به فلاسفة اليونان وبعض مفكري الرومان غائبة، أو بالأحرى مغمورة في كتبهم طوال القرون الوسطى: لقد حل محلها قانون الإيمان الذي تحدده الكنيسة هو و"الحق الإلهي" للملوك الذي باسمه يحكمون ويشرِّعون ويضعون القوانين ويحددون الحقوق... مع القرن السابع عشر أخذت الأمور تتغير: لقد قطع العلم الحديث وعلى رأسه علوم الطبيعة أشواطاً جديدة تماماً من التقدم والازدهار. وأصبح لفكرة "القانون الطبيعي" معنى آخر: لم تعد تعني، كما كان الشأن عند اليونان، مجرد النظام والترتيب اللذين يسودان العالم، بل صار القانون الطبيعي وسيلة العقل البشري للسيطرة على الطبيعة: الانسان هو الذي يكتشفه وهو الذي يستثمره لصالحه. العقل هو واضع القوانين، وقوانين العقل متطابقة مع قوانين الطبيعة، لأن الأمر يتعلق في الحقيقة بقانون واحد: "القانون كما هو في العقل الإلهي، يظهر في الطبيعة وفي العقل البشري معاً، ولا تناقض بين الاثنين". العقل البشري هو واضع القوانين والقيم، يكتشف قوانين الطبيعة بعقله، أو لنقل في عقله، ويحدد القيم التي يجب أن يعمل بها الانسان وفقاً لطبيعة الانسان نفسه. ها نحن إزاء فكرة جديدة تحل محل فكرة قديمة: فكرة الطبيعة الانسانية التي تحل محل الطبيعة الكونية أو الكوسموس التي كانت تؤسس من قبل فكرة القانون الطبيعي. انه انقلاب في الفكر الأوروبي، يقطع مع التصور اليوناني القديم: كان اليونانيون يتخذون من الطبيعة ونظام الكون مرجعية لتأسيس القانون والقيم على المستوى البشري، أما مع القرن السابع عشر فقد غدت الطبيعة الانسانية هي نفسها المرجعية للقانون والقيم. ومع ذلك فلم تكن هذه القطيعة عامة، فلقد تمسك فلاسفة ذوو وزن، بالطبيعة ونظام الكون كمرجعية، ربما لأنها كانت تقدم لهم ما كانوا في حاجة إليه أكثر مما تقدمه فكرة "الطبيعة الانسانية". ومهما يكن فقد شهدت أوروبا القرن السابع عشر تيارين في موضوع الحق الطبيعي: تيار يتخذ الطبيعة الانسانية، وبالتالي العقل البشري نفسه، مرجعية له، وتيار يتمسك بالطبيعة بمعنى نظام الكون وقوانينه. كان غروتيوس، وهو رجل قانون وديبلوماسي هولندي أول من طرح سنة 1625 فكرة الطبيعة الانسانية كمصدر للقانون. لقد استبعد المصدر الالهي بحجة أن شعوب الأرض تدين بديانات مختلفة، وبالتالي فلو كان القانون راجعاً الى المصدر الالهي لكان واحداً لدى جميع الشعوب، وهذا غير الواقع. فلكل شعب قوانين قد تختلف قليلاً أو كثيراً عن قوانين الشعوب الأخرى، مما يدل على أن المصدر الحقيقي للقانون يوجد في الطبيعة الانسانية ذاتها: في عقل الانسان كما في عاطفته. فأساس القانون إذن، هو أن الناس يرتبطون في ما بينهم بوشائج التعاون والمحبة، مدفوعين الى ذلك بعقولهم وعواطفهم، مما يجعلهم ينظمون حياتهم بقوانين يلتزمون بها وقيم يحترمونها. ويشمل هذا النظام تلك المؤسسة التي يقيمونها بالتعاقد في ما بينهم والمسماة "الدولة"، ومن هنا كانت الدولة مؤسسة ترتكز هي الأخرى على العقل وروابط العاطفة والمحبة التي تجمع بين الناس. ويأتي الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز ليضع بكتابه الشهير، ليفياتان Lژviathan الذي ألف سنة 1651، لبنات أخرى في صرح نظرية "الحق الطبيعي". لقد انطلق هوبز من فكرة جديدة هي ما سيعرف ب"حالة الطبيعة"، أي الحالة التي كان عليها الانسان يوم كان يعيش من دون دولة ومن دون نظام اجتماعي ما. كان الانسان يعيش في تلك الحالة على أساس حق الأقوى: الأقوياء هم الذين يفرضون ارادتهم على الضعفاء. جوهر هذه الحالة هي أن "الانسان ذئب للانسان". ان حال الطبيعة التي يعيش فيها الانسان في حرية مطلقة هي حال حرب دائمة بين الانسان وأخيه الانسان. والحق الطبيعي في هذه الحالة هو الحق في تلبية الرغبات وإشباعها. يقول هوبز: "ان الحق الطبيعي، الذي يسميه الكتاب عادة بالعدل الطبيعي Jus Naturals معناه: حرية كل واحد في العمل بكامل قوته، وكما يحلو له، من أجل الحفاظ على طبيعته الخاصة، وبعبارة أخرى على حياته الخاصة، وبالتالي القيام بكل ما يبدو له، حسب تقديره الخاص وعقله الخاص، انه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض". هذا عن "الحق الطبيعي"، وهو غير "القانون الطبيعي"، وهوبز يميِّز بينهما تمييزاً حاسماً. يقول: "أنا لا أعني بكلمة الحق Right شيئاً آخر سوى الحرية الممنوحة لكل انسان لكي يستخدم قدراته الطبيعية طبقاً للعقل السليم، ومن ثم فإن الأساس الذي يرتكز عليه الحق الطبيعي هو: كل انسان لديه القدرة والجهد لحماية حياته وأعضائه". و"ما دام لكل انسان الحق في البقاء فلا بد أن يمنح أيضاً حق استخدام الوسائل، أعني ان فعلَ أي شيء من دونه لا يمكن أن يبقى". ومن هنا كانت الحقوق الطبيعية للانسان أربعة: حق البقاء أو المحافظة على الذات. الحق في استخدام كافة الوسائل التي تؤمن الحق السابق حق البقاء. حق تقرير أنواع الوسائل الضرورية التي تكفل حق البقاء ودرء الخطر. حق وضع اليد على كل ما تصل إليه: "لقد منحت الطبيعة كل انسان الحق في كل شيء ولذلك فمن المشروع لكل انسان أن يفعل أي شيء يساعده على البقاء". هذا عن "الحق الطبيعي". أما "القانون الطبيعي" فهو قانون، بمعنى قاعدة من صميم العقل البشري، يمنع الناس من القيام بما يقودهم الى الهلاك الذي لا بد أن يجرهم إليه تمسك كل منهم بحقوقه كاملة. يقول هوبز: "ينبغي مع ذلك التمييز بين الحق والقانون، ذلك أن الحق يعتمد الحرية، حرية المرء في أن يفعل فعلاً ما أو يمتنع عن فعله. أما القانون فهو الذي يرتبط بواحد منهما دون الآخر، أي بالفعل أو الامتناع عن الفعل، فهو الذي يحدد ويعين. ومن ثم فالقانون والحق يختلفان اختلافاً كبيراً مثلما يختلف الإلزام obligation والحرية liberty من حيث أنهما يتناقضان في الموضوع الواحد". "الحق الطبيعي"، الذي تعطيه الطبيعة، يعطي الانسان كل شيء. أما "القانون الطبيعي"، الذي يصدر من طبيعة عقل الانسان نفسه فهو يعين ويحدد الطريقة الأكثر ملاءمة للحفاظ على الحقوق الطبيعية وعلى رأسها حق البقاء. إن العقل يملي على الانسان فكرة على درجة كبيرة من الأهمية، فكرة التنازل عن حقه الطبيعي، الذي يعني حرية التصرف من دون قيود، والدخول مع الآخرين في حال من السلم، قوامها الكف عن الاقتتال والتحرر من الخوف. هذا التنازل عن "الحق الطبيعي" هو أساس الدولة. هو العقد الاجتماعي الذي يجعل قيام الدولة ممكناً كما سنرى. *** من الفلاسفة الأوائل الذين وظفوا فكرة "الحق الطبيعي" الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا. لقد ألّف هذا الفيلسوف كتاباً مهماً بعنوان "رسالة في اللاهوت والسياسة"، شرح مضمونها بقوله: "وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى الدين أو على سلامة الدولة، بل ان في القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آن واحد". أما الغرض من الرسالة فقد حدده في شيئين اثنين: أولاً: "الفصل بين الفلسفة واللاهوت الدين وبيان أن اللاهوت يترك لكل فرد حرية التفلسف"، حسب عبارة سبينوزا نفسه. وهنا يلتقي هذا الفيلسوف الذي عاش في القرن السابع عشر مع الفكرة نفسها التي دافع عنها ابن رشد قبل ذلك بخمسة قرون في كثير من كتبه، فكرة الفصل بين الدين والفلسفة، وهذا موضوع آخر قد نعود إليه في مناسبة أخرى. ثانياً: "معالجة الأسس التي تقوم عليها الدولة". وهذا ما يهمنا هنا لأنه في هذا المجال بالذات يوظف هذا الفيلسوف فكرة "الحق الطبيعي الذي لكل انسان بغض النظر عن الدين والدولة". ويعني: "بالحق الطبيعي وبالتنظيم الطبيعي مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتمياً على نحو معين". ولما كان القانون الأعظم للطبيعة هو أن كل شيء يحاول بقدر استطاعته أن يبقى على وضعه، وبالنظر الى نفسه فقط، دون اعتبار لأي شيء آخر، فينبني على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه، أي في أن يوجد ويسلك كما يتحتم عليه طبيعياً أن يفعل. ويضيف سبينوزا: "وفي هذا الصدد لا نجد فارقاً بين الناس والموجودات الطبيعية الأخرى، أو بين ذوي العقول السليمة ومن هم خلو منها، أو بين أصحاء النفوس والأغبياء وضعاف العقول. والواقع أن كل من يفعل شيئاً طبقاً لقوانين الطبيعة انما يمارس حقاً مطلقاً لأنه يسلك طبقاً لما تمليه عليه طبيعته ولا يمكنه أن يفعل سوى ذلك. فبقدر ما ننظر الى الناس على أنهم يعيشون تحت حكم الطبيعة وحدها نجد أن لهم جميعاً وضعاً واحداً: فمن لم يعرف العقل بعد، أو من لم يحصل بعد على حياة فاضلة، يعش طبقاً لحق مطلق خاضع لقوانين الشهوة وحدها، شأنه شأن من يعيش طبقاً لقوانين العقل. وكما أن للحكيم حقاً مطلقاً في أن يعمل كل ما يأمر به العقل، أي ان يحيا طبقاً لقوانين العقل، فإن للجاهل ولمن هو خالٍ من أية صفة خلقية حقاً مطلقاً في أن يفعل كل ما تدفعه الشهوة نفسها نحوه، أي ان يعيش طبقاً لقوانين الشهوة". وهذا لا يعني أن سبينوزا يدعو الناس الى العيش حسب طبيعتهم وحدها دون اعتبار لما تمليه عليهم عقولهم. كلا. انه يؤكد: "أنه يظل من الصحيح دون شك أن من الأنفع للناس أن يعيشوا طبقاً لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية لأنها، كما قلنا، لا تتجه إلا الى تحقيق ما فيه نفع حقيقي للبشر. وفضلا عن ذلك فإن كل انسان يود العيش في أمان من كل خوف بقدر الامكان. ولكن ذلك مستحيل ما دام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء وما دام العقل لا يعطي حقوقاً تعلو على حقوق الكراهية والغضب. والواقع انه لا يوجد انسان واحد يعيش دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة، ومن ثم لا يوجد انسان واحد لا يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته". كيف يمكن الخلاص من العداء والكراهية التي قد تنجم عن عمل كل فرد طبقاً للحق الطبيعي؟ يجيب سبينوزا: "ولنلحظ أيضاً أن الناس يعيشون في شقاء عظيم إذا لم يتعاونوا، ويظلون عبيداً لضرورة الحياة ان لم يُنمُّوا عقولهم... ومن ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان وعلى أفضل نحو ممكن كان لزاماً عليهم أن يسعوا الى التوحد في نظام واحد الدولة، وكان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم على الأشياء جميعاً، بحكم الطبيعة، أصبح ينتمي الى الجماعة ولم تعد تتحكم فيه قوته أو شهوته بل قوة الجميع وارادتهم". وتلك هي فكرة "العقد الاجتماعي" التي سبق أن صادفناها قبل، فلنترك الحديث عنها الى مقال آخر