جرت عادة كثير من مؤرخي الفكر السياسي الاوروبي ان ينتقلوا من هوبز الى لوك، وهذا شيء مبرر، فهذان الفيلسوفان ينتميان الى بلد واحد وبيئة فكرية وسياسية واحدة انكلترا هذا فضلاً عن كون الثاني منهما قد شيد نظريته في العقد الاجتماعي وفي غيره وفي الموضوعات السياسية في علاقة مباشرة مع فكر مواطنه، علاقة الرد الصريح والمباشر. ومع ذلك فلا شيء يبرر القفز على معاصرهما الالماني بوفيندورف 1632 - 1694 Pufendorf, Samuel Von الذي عارض هوبز واختلف مع لوك وكان له تأثيره في من جاء بعدهما في مثل تأثيرهما، هذا اضافة الى ما في آرائه من جدة، فقد دشنت بحق مساراً جديداً في الفكر الاوروبي اقرب الى الحداثة من فكر هوبز. اشتهر بوفيندورف بدراساته حول النشأة الطبيعية للاجتماع البشري وحول القانون الطبيعي والسلطة الحاكمة فعمل على صياغة اخرى لنظرية العقد المزدوج. لقد ميز بوفيندورف بين مظهرين في عملية النشأة الطبيعية للاجتماع البشري: - فمن جهة هناك الاجتماع الذي مصدره وعي الانسان للوضع الطبيعي الذي نشأ عليه نشأة طبيعية والذي يجعل الواحد من البشر يدرك انه اذا كان يدخل مع غيره من بني جنسه في علاقات تعاون وتضامن فهو لا يفعل ذلك الا لانه يدرك انه يعيش في وضع مماثل لوضعه، بمعنى ان التوافق بين الطبيعة التي فيه والطبيعة التي في الغير وكونهما طبيعة واحدة هو ما تقوم عليه الرعاية الانسانية، اي ما يسميه بوفيندورف ب"الحمية العامة" الت جعلتها الطبيعة في بني البشر لكونها نافعة لهم. - ومن وجهة اخرى هناك المصلحة التي هي نوع متميز من النشأة الاجتماعية مختلف عن الاول، ولكنه يتفرع عنه لان الطبيعة لا تطلب منا ان نلغي انفسنا كأفراد حين تدفعنا الى الاجتماع. ان هذا يعني ان ليس ثمة تعارض بين حالة الطبيعة وحالة المدنية، كما يقرر هوبز. لقد اعطى بوفيندورف لفكرة القانون الطبيعي معنى آخر غير الذي كان سائداً. فليس القانون الطبيعي في نظره من نوع مناقض او مغاير للقانون الذي مصدره الوحي. بل هما نوع واحد ويشكلان معاً مجموع القوانين الالهية. فحكمة الله هي التي اقتضت وضع القوانين الطبيعية مثلما ان وجوده اقتضى ان تكون هناك قوانين مصدرها الوحي وهذا قريب مما قرره ابن رشد في الموضوع. وهكذا يشيد بوفيندورف فكرة الحق الطبيعي على التأكيد على وجود نظام اخلاقي كوني كلي على وجود قاعدة للعدل لا تتغير، سابقة للقوانين المدنية ومستقلة عنها واسمى منها. ان القانون الطبيعي هو والقوانين الالهية معطى اولي للانسان. وبما ان الله هو الذي وضعها فلها قوة العقل وقوة الكلي، وتمتلك فعالية خاصة. وبفضل العناية الالهية فان القوانين الطبيعية مناسبة تماماً للطبيعة الانسانية. اما القوانين الوضعية التي تُسنّ بمراعاة المجتمع واحواله ومراعاة الطبيعة الانسانية فهي انما تمدد مفعول القوانين الطبيعية، وبالتالي يجب ان تستلهمها لا ان تتعارض معها. وهكذا فالتوافق والتعاضد بين القوانين الطبيعية والقوانين الالهية يعطي القوة للقواعد الوضعية التي يسنها المشرعون كما يضفي الشرعية ويبرر المقاومة التي يقوم بها المواطنون عندما تتعرض حقوقهم للعدوان من طرف السلطة الحاكمة. وهكذا يرفض بوفيندورف مثله مثل لوك - كما سنرى - حالة الطبيعة التي قال بها هوبز والتي جعل منها هذا الاخير حالة فوضى وعدوان. ان بوفيندورف يتجاوز ذلك بالجمع بين القانون الطبيعي والقانون الانساني في قانون موحد مبني على القانون الالهي، وفي الوقت نفسه يتمتع بمعقولية كاملة لانه حال طبيعية، وفي نظره لا توصف ب "الطبيعية" حال لا يتبع فيها الناس قوانين العقل. وبناء عليه فالسلطة التي تتوافق مع القانون الطبيعي لا يمكن ان تكون مطلقة - كما يريد لها هوبز ان تكون - بل هي سلطة قائمة على التعاقد. اما المماثلة بين السلطة المطلقة وسلطة الاب وتأسيس تلك على هذه فعمل غير مشروع لان سلطة الاب ليست قائمة على عقد. والعقد هو وحده الذي يؤسس السلطة السياسية. وهو في نظر بوفيندورف عقد مزدوج بل عقدان: - العقد الأول يؤسس المجتمع المدني: فلكي يكون هناك مجتمع لا بد من أناس يريدون ان يكونوا أعضاء في دولة يشكلون فيها جسماً واحداً ويدبرون معاً وباتفاق بينهم المسائل التي تخص أمنهم المتبادل. - أما العقد الثاني فهو يخص تنصيب الحكومة، وبموجبه يقرر المتعاقدون بغالبية الأصوات شكلاً للحكومة يلتزم فيه الحاكم الملك بالعمل لخير المجموع. اما اذا لاحظ المواطنون ان الملك لا يوفي بالتزاماته فإن لهم الحق في استعادة ما منحوه إياه بموجب العقد. ما يلفت الانتباه في الاتجاه العام لهذا المفكر الألماني، الذي كان له تأثير كبير على الفكر السياسي الفرنسي والفكر السياسي الانغلوساكسوني، بما في ذلك الدستور الأميركي الصادر عام 1787، هو استبعاد الكنيسة كهيئة تحتكر الدين وتأويله، وفي المقابل إقامة نوع من المؤاخاة بين القوانين الطبيعية والتشريعات الإلهية، بل دمج الواحد منهما في الآخر، وجعلهما معاً أساس القوانين الوضعية. والطبيعة والعقل في هذا المنظور وجهان لعملة واحدة. من هذه الزاوية يكون بوفيندورف رائداً للاتجاه الطبيعي العقلي في الفكر السياسي الأوروبي، وهو الاتجاه الذي سيبلغ ذروته مع كل من الفيلسوف الانكليزي جون لوك والمفكر الفرنسي جان جاك روسو. اشتهر الفيلسوف الانكليزي جون لوك 1632-1704، بإنجازاته في ميدان الفلسفة، فهو صاحب نظرية مشهورة في المعرفة ضمنها كتابه "محاولة في العقل البشري"، نظرية تنطلق من ان العقل البشري "صفحة بيضاء" وان كل ما ينطبع فيه من أفكار مصدره الحواس، وبالتالي فليس ثمة مبادئ عقلية ولا أفكار فطرية سابقة على ما تنقله الحواس، فليست المفاهيم والعمليات العقلية سوى ترابط الانطباعات الحسية والأفكار الناشئة عنها في عقل الانسان. واشتهر لوك ايضاً بنظرياته السياسية خاصة تلك التي سجلها في كتابه "مقال في الحكومة المدنية". وكما انطلق لوك في دراسته لمسألة المعرفة من فكرة "الصفحة البيضاء"، ليؤسس بعد ذلك ما نسميه "العقل" على عملية ترابط الاحساسات، انطلق كذلك في دراسته لظاهرة الاجتماع من فكرة "حالة الطبيعة" ليؤسس ما نسميه المجتمع المدني، أو بالأحرى "حالة المدنية"، على عملية ترابط مماثلة هي "العقد الاجتماعي". ينطلق لوك اذاً في تقرير نظريته السياسية من فرضيتي "حالة الطبيعة" و"العقد الاجتماعي" لكن من منظور يختلف عن منظور هوبز اختلافاً عبّر عنه لوك بصراحة برفضه للمسلك الذي سلكه سلفه وللغاية التي قصدها. لقد انطلق هوبز كما رأينا من اعتبار "حالة الطبيعة" حالة "حرب الكل ضد الكل" وسخر فكرة "العقد الاجتماعي" للتشريع للحكم المطلق! ولوك يرفض هذا وذاك: فهو يقر ان "حالة الطبيعة" ليست حالة عدوان وحرب وفوضى بل هي حالة منظمة يحكمها العقل. ذلك ان الاجتماع الانساني ليس كالاجتماع الحيواني. هذا تحكمه الغريزة وذاك يحكمه العقل. والعقل كما يمنع الناس من الاقتتال خوف الفناء يمنعهم كذلك عن التنازل عن جميع حقوقهم، فهم يميزون بين ما يمكن التنازل عنه وما لا يمكن، والا فقدت "حالة الطبيعة" جوهرها ومضمونها، يعني الحرية والمساواة. ان حالة الطبيعة هي حالة حرية ومساواة ينظمها العقل. العقل يحمل الناس على ان يحترم كل منهم حياة الآخرين وصحتهم وأموالهم وعلى ان يقفوا بجانب المظلوم ويدفعوا الأذى عمن يتعرض له وعلى ان يعاقبوا المسيء بما يناسب اساءته دون عسف ولا شطط، الى غير ذلك مما يقتضيه حق الحرية وحق المساواة، وهما حقان طبيعيان كما قلنا. هناك حق آخر يلح عليه لوك إلحاحاً ويعتبره من الحقوق الطبيعية وهو حق "التملك" بمعناه الواسع: ان يملك الإنسان حياته وحريته والأشياء التي في الطبيعة. وليس المقصود هو الملكية في ذاتها بل المقصود: الحق فيها، الحق في خدمة الأرض والاستفادة من خيراتها، والحق في ملكية الأرض نفسها. وبما ان ما يبرر الملكية ويشكل منشأها المشروع هو عمل الإنسان فلكل فرد ان يملك من الأرض مقدار ما يستطيع خدمته ويكفيه حاجته للحفاظ على وجوده ولا يتعدى ما هو ضروري له. والتزام هذه الحدود هو ما يقي حالة الطبيعة من شرور المنازعات والمشاجرات. ان حق الجميع في الحرية والمساواة يقضيان ان لا يطمع احد في أكثر مما يحتاج. ومع ذلك فحالة الطبيعة لا يمكن ان تخلو من مشاكل تأتي نتيجة احتكاك المصالح وتناقضها، ولكن العقل كفيل بتجاوزها. ومن هنا "العقد الاجتماعي" في ثوب جديد: من أجل تجنب ما قد ينشأ عن احتكاك وصراع بسبب اختلاف المصالح عمد الناس الى تنظيم شؤونهم فانتقلوا بذلك الى حالة "المجتمع" وهكذا سنوا قوانين ترضي الجميع وكلفوا بتطبيقها قضاة اختارهم الجميع وأقاموا الى جانبهم سلطة قادرة على ضمان تنفيذ الاحكام وتطبيقها. وهكذا تتميز حالة المجتمع ليس فقط بكونها منظمة بقوانين من صنع البشر بل تتميز ايضاً بالفصل بين السلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية. وهذا شيء جديد تماماً وسيركز علىه مونتسكيو فيما بعد. المهم عندنا الآن ان نسجل ان الانتقال من حال الطبيعة الى حال المجتمع تم من خلال عقد اجتماعي وافق عليه الجميع. "ذلك انه بما ان الناس في حالة الطبيعة احرار ومتساوون ومستقلون فليس ثمة من سبيل الى اخراجهم منها واخضاعهم لسلطة سياسية ما من دون رضاهم". لقد رغبوا جميعاً في الاتحاد وتكوين مجتمع من اجل حفظ بقائهم وضمان امنهم وحماية انفسهم ممن يريدون بهم السوء. ذلك هو منشأ الحكومة الشرعية: اتفاق الجميع ورضاهم، وهو شيء جديد حقاً، وهو ما يميز حالة المجتمع عن حالة الطبيعة. نعم يمكن دائماً تأسيس دولة على القوة والغلبة وعلى انقاض دولة اخرى، مثلما يمكن هدم منزل وبناء آخر مكانه، ولكن ذلك لن يكون ابداً حكماً جديداً لأنه: "من دون موافقة الشعب لا يمكن ابداً بناء اي شكل جديد من الحكم". ويرد لوك على هوبز فيقرر ان الحكومة المطلقة لا يمكن ان تكون شرعية، اذ كيف يمكن ان يقبل الناس الخضوع لسلطة شخص، هو وحده لا يخضع لأية سلطة!؟ ان ذلك يعني انهم جميعاً يتحولون الى حال المجتمع ما عدا هذا الشخص، فهو وحده يبقى في حال الطبيعة مالكاً لكل شيء متصرفاً في كل شيء؟! وكما يرجع منشأ الحكم الى اختيار الشعب ورضاه يرجع اليه ايضاً النظر في ما اذا كان الحاكم يقوم بالمهمة المنوطة به ام انه يتقاعس او يتجاوز ويعسف، فاذا طغى الحاكم فللشعب كامل الحق في مقاومة طغيانه، لأن الشعب هو الذي نصبه. ولا معنى للقول - في نظر لوك - ان اعطاء الشعب الحق في المقاومة والثورة يؤدي الى الفوضى! كلا، ان الشعب عاقل، وكيف لا يكون عاقلاً وهو مكوّن من افراد يتمتعون بالعقل. اما الجماهير فهي ليست مجبولة على الفوضى كما يدّعي بعضهم، بل بالعكس هي تفضل في معظم الاحوال الشكوى على المقاومة لرفع الظلم عنها. ولا يلجأ الشعب الى المقاومة الا عندما يقتنع بان الحكام والقضاة ماضون في غيهم لا يبالون بشكواه! في هذه الحالة يستنتج العقل ان لا سبيل لرفع ظلم الحكام الا المقاومة. "وليس لاحد ان يلوم الشعوب على عواطفها التي يمليها عليها كونها مخلوقات عاقلة". يبقى ان نقول كلمة عن موقف لوك من الكنيسة. وفي هذا الصدد يقرر ان المجتمع المدني مجتمع مستقل عن الكنيسة فهو لم ينشأ في كنفها ولا في ارتباط مع مصالحها. الدولة والكنيسة كيانان منفصلان وبالتالي فليس على الدولة ان تعمل بتشريعات الكنيسة ولا بما تقرره في شأن من الشؤون. فالكنيسة مجالها ما يخص الآخرة بينما مجال عمل الدولة هو هذه الحياة التي نعيشها على الارض. نعم على الدولة ان تضمن حرية العبادة للجميع ولا تتدخل في الشؤون الدينية التي هي من اختصاص الكنيسة. بعبارة قصيرة: نحن الآن مع لوك مع العلمانية الصريحة. موضوع آخر في حاجة الى هوامش خاصة