الرهان الجريء الذي خاضته المثقّفة الشابة باسكال فغالي، باطلاقها تظاهرة مسرحيّة - فنيّة مستقلّة، هي الأوّلى في نوعها في بيروت، هو بلا شكّ رهان رابح. فبعد أن أسدلت الستارة على "مهرجان أيلول"، تبدو جردة الحساب الأوّليّة حافلة بالاكتشافات والدروس، ويبدو الحصاد الابداعي مثيراً ومشجّعاً. احتضن المهرجان الجيل الشاب الباحث عن يقين في مجتمع هدته الحروب، فإذا به يعلن ولادة مفاجئة لمشروع فنّي ثقافي تجمع بين شتّى أطرافه حساسيّة جديدة، وخطاب مختلف، وأسئلة مشتركة. هنا جولة في أعمال ربيع مروّه ولينا صانع ووليد صادق وأمل سعادة وأكرم الزعتري، إضافة إلى سهام ناصر وعادل حكيم. ليس من قبيل المبالغة القول إن مهرجان "أيلول 97" مسرح، فيديو، فنون تشكيليّة، يؤشر في مجمل نشاطاته إلى مخاض فني - ثقافي جديد في لبنان. فالتظاهرة التي احتضنتها بيروت أخيراً، يغلب على المشتغلين فيها، والأسماء التي جرى تداولها وتناول أعمالها بالنقد والمتابعة، هموم شبه مشتركة، وهي هموم ثقافية بامتياز، على عكس ما ظهر قبيل انتهاء الحرب اللبنانية واستمرّ طاغياً لفترة لا بأس بها. فخلال تلك المرحلة كثرت الأعمال التي تناولت الحرب بوصفها حرباً، واضعة لبنان كله بمن فيه وما فيه في دائرتها الضيقة. أما الأسماء الجديدة التي سلّط مهرجان بيروت عليها الضوء، مثل وليد صادق، ربيع مروة، لينا صانع، طوني شكر، أكرم الزعتري، فبدا الأمر معها مختلفاً تماماً. إذ لم تعد ادانة الحرب عنواناً وحيداً لاستئناف الثقافة، او استدراكها من حيث التفّت وغاصت على نفسها، ولم تعد الإدانة شرطاً ضرورياً لصياغة الخطاب الفنّي أو الثقافي. قد لا يكون الحصاد بحدّ ذاته "انقلابيّاً" إلى هذا الحدّ. فالشبان الذين صوروا أفلاماً وعرضوا مسرحيات، ممثلين ومساعدين ومخرجين، والذين عرضوا تجهيزات انشائيّة installations، كانت لهم، فرادى وجماعات، أعمالهم التي سبقت ودلّت إلى هذا الحد أو ذاك على الهموم التي ينطلقون منها. لكن مهرجان أيلول، من خلال ما أثاره من انقسام في الآراء في الوسط الثقافي اللبناني، بدا أشبه بولادة مفاجئة. طلاق بين النقد والجمهور؟ هوجم بعض الأعمال من قبل نقّاد مكرسين، وتجاهلت صفحات ثقافية النشاط برمّته. فيما رسم البعض الآخر خطاً فاصلاً بين أعمال آتية من الغرب، وأخرى لمسرحيين مخضرمين من جهة، وأعمال الشباب من جهة أخرى، وفتحت صحف أخرى ومجلات ثقافية صفحاتها لاستقبال الابداعات من دون هذا التمييز. ومن جهة أخرى، شهدت اللقاءات التي عُقدت لمناقشة هذه الابداعات، فرزاً وطلاقاً. تحلّق المنتدون ومعظمهم من المثقفين الشبان حول أعمال الشباب. وتميّزت الندوات المخصصة لتناول الأعمال الأخرى بنقاشات حادة، هوجمت خلالها تلك الأعمال، في وصفها لم تقدم جديداً يثير الاهتمام ويستدعي المعالجة. وشكلت مسرحية عادل حكيم "المنفذ 14" التي عرضت على خشبة "مسرح المدينة" خير مثالٍ على هذا الطلاق بين النقد المكرّس وجمهور الشباب. فالعرض التي أعدّه المسرحي الفرنسي العربي الأصل من وحي الحرب الأهليّة، استقبل بحفاوة من قبل النقاد وعلى صفحات الجرائد. فيما تعرّض في الندوة المخصصة لمنقاشته لنقدٍ شديد. ويمكننا أن نلحظ الأمر نفسه في شأن منشآت وتجهيزات آمال سعادة "تقاطعات مدينة حرية"، وفي شأن مسرحية "الجدار" عمل سهام ناصر الثالث، بعد "الجيب السري"، و"ميديا ميديا". ولا يختلف اثنان على كون ناصر تنتمي إلى جيلٍ سابق لجيل الشباب الذين عرضوا أعمالهم ضمن اطار المهرجان. في عملها المأخوذ عن نص بيكيت "في لجة العدم" تحاول المخرجة وهي كاتبة السيناريو أيضاً، عبر التقنيات المشهدية، وقدرات الممثلين، أن تعالج أفكاراً عامة وتعمل على مناقشة احتمالاتها، كالحب والكراهية، والحياة والموت، وخصوصاً الضوء والعتم. وهي تنجح بنسب متفاوتة في الاقتراب من موضوعها، مستندة إلى عمل عالي التقنية، وبادي الحرفة أيضاً. يساعدها في ذلك خبرة طويلة في مجال التعليم، ورصيد لا بأس به من النجاح في مسرحيتيها السابقتين. واذ تعمد سهام ناصر إلى نقاش الأفكار الكبيرة، فإنها تطرح جانباً كل ما من شأنه أن يعتبر أساسياً وحيوياً في المجتمع اللبناني، وتحديداً في أوساط الجيل الشاب الباحث عن يقينٍ ما، في مجتمع هدته الحروب. ولعلّ هذا الخيار كان مصدر معظم النقد الموجّه إلى عملها من قبل الجمهور الشاب الذي ناقش مسرحيتها. نظرة اختزاليّة التقنيات المسرحيّة هي أيضاً من نقاط الثقل في مسرحية عادل حكيم، "المنفذ 14"، التي تحكي قصة "الناجي الوحيد من حرب أهلية". العرض مونولوغ مفصّل، يؤدّيه جان - كانتان شاتلان ببراعة، والنص الذي كتبه عادل حكيم، تصحّ نسبته لأي حرب. فالناجي الوحيد، أو الرجل الاخير، مسّته الحرب بكل مصائبها، من اغتصاب لصديقاته إلى قتل أصدقائه، إلى تعرّض معظم من يعرفهم لأبشع ما يمكن أن يحصل في الحرب أي حرب. وينسى نص عادل حكيم أو يتناسى أن ثمة في الحرب أوقاتاً أخرى، ومساحات أخرى، تتخذ فيها الحياة أشكالاً مختلفة، غير التي يراها المشاهد الغربي على شاشات التلفزيون. ويغفل أن بين الجمهور الناجي من حرب أهلية طويلة، من حصّل ثقافته ولغاته وأناقته، وتزوّج وأنجب وتعلّم وبنى بيتاً، في زمن الحرب. هكذا يقع عادل حكيم من حيث لا يدري في نظرة اختزاليّة، هو الذي عرف عرضه نجاحاً واسعاً في فرنسا وأوروبا، وكان لا بدّ أن يواجه جمهوراً على علاقة حميمة بالحرب، كي يعرى من كليشيهاته الاستشراقيّة الكثيرة. ويلتقي المسرحي هنا مع سهام ناصر، من حيث اعتباره الحرب مجرّد موتٍ متصل، لا مكان فيها للحياة، من أي وجه أتت. فهو يعالج فكرة ولا يقصُّ حكاية، والأرجح أن هذه الثقة في الافصاح عن الأفكار، هي ما يجعل النص أقل إقناعاً مما يخيّل لصاحبه. ويعاني تجهيز أمل سعادة الانشائي، من جهته، من عمومية فكرته، ومن اصراره على الحياة، وعلى التمسك بها، والقيامة من بين الأنقاض، كما لو أن جميع سكان المدينة التي تتحدث عنها، موتى ينتظرون البعث. تواضع وتجديد وفي الموقع النقيض، تميّز المبدعون الآخرون بالحدّ الاقصى من التواضع ومن التجديد، وربما من عدم القدرة على الافصاح. فأكرم الزعتري فتش في فيلمه "مجنونك" عن حكايات لا تهمّ الثقافة والمثقفين، حكايات مهملة لأشخاص مهملين، لكنها لا تفضي إلى مكان. كأن الزعتري أراد القول إنه ينبغي علينا جمع المهمل، وتنضيده، قبل أن نقول ما نريد قوله. ربما أتى الفيلم ناقصاً، لكن فضيلته، أنه لم يتعامل مع هذه القصص الحميمة، وفق رأي مسبق، أو فكرة تامة ناجزة. بل ترك لنا السؤال، وترك لنا حريّّة ادراج ما رأيناه وسمعناه في فيلمه، في أنساقنا الثقافية، أو طرده إلى غير رجعة. ومثل أكرم الزعتري، فان شخصيات لينا الصانع في "أوفريرا"، تحاول الكلام ولا تنجح. وتتوتر العلاقات فيما بينها على المسرح، وتتقاتل ويصطدم بعضها ببعضه الآخر، ثم لا تفصح عن شيء. كأن الاعياء واللجلجة يغلبان على الافصاح. تحاول صانع سبر واختبار العلاقات التي تنشأ بين أشخاص جمعتهم المصادفة أو الحرب في غرفة مقفلة. وهذان الاعياء واللجلجة هما عينُ ما ترد إليه مسرحية ربيع مروة "المقسم 19". فالمواطنون الأربعة الذين يكتشفون كاميرا مثبتة في سقف قاعة تقديم الشكاوى في قسم الشرطة، يصبحون أسرى سلطتها، ويتصرفون بناءً على ما يظنونه مناسباً أمام هذه السلطة. لكنّهم لا ينجحون في اثارة انتباه السلطة الطاغية، ويفشلون في تقدير رضاها أو سخطها، فينفجر جنونهم في محاولة يائسة وأخيرة لدفع هذه السلطة إلى التواصل معهم. لكن عرض مروّه تحديداً لا يتلخص في فحوى أحداثه. وهو ينضح بالسخرية من كل شيء : من الأصولية والديموقراطية، المعارضة والموالاة، الثقافة والجهالة، التراث والآثار. وهو يفضح أيضاً وأساساً السلوك اليومي الذي نفترض كلّ صباح، لدى خروجنا من منازلنا، أنه امتثال للسلطة الغامضة نفسها. غير أن المسرحي اللبناني الشاب لا يقدّم للمشاهد اقتراحاً بديلاً، بل يدفعه إلى تأليف سلوكه وأفكاره وشعاراته مرة أخرى بنفسه. والرؤيا السينوغرافيّّة التي تحمل توقيع طوني شكر، تستبعد أي ابهار تقني. فالاضاءة لا تتغير طوال مدة العرض، وليس هناك أي اسراف في توظيف الديكور أو استعمال الملابس. إننا هنا أمام مسرح متقشف، يحاول أن يركز كل انشائه على الفكرة، لا على إثارة الأحاسيس. ذاكرة الحرب الأليمة ووليد صادق، من جهته، لا يجد حرجاً من ضآلة التجهيز. فمنشآته المتواضعة لا تأخذ حيزاً كبيراً في قاعتي مركز غوته الثقافي. بل يبدو الفصل بين القاعتين شاسعاً وعارياً من دون أي حرج. يدور التجهيز حول مخيم تل الزعتر، ويحمل عنوان "آخر إيّام الصيفية" وهي أغنية ذائعة لفيروز، حوّرت احدى الميلشيات اللبنانيّة كلماتها، فباتت من الأغاني التي طبعت الحرب الأهليّة. ومن خلال عمله يحاول وليد صادق أن يستعيد الأغاني التي سمعها طفلاً في الحازمية، عبر تثبيتها في غلاف الشريط الذي وزّعه للزوار. كأنه عبر هذه الاستعادة يحيي جراح الذاكرة الجماعيّة، متبنّياً الانفصام المريع الذي يعانيه كل لبناني، وهو يتنكر لمسؤوليته عن الحرب، في حين أنّه لم يتحرّر من أوزارها، ولم يشفَ منها ولم يتصالح مع مناطقها المظلمة، في بلد يبلغ فيه التنصل من المسؤوليات حداً لا يمكن تصديقه... الأمر الذي يؤشر على اندماج الأفكار بالأعمال الحربية. ويعمل وليد صادق على فصل هذين الصعيدين في محاولة لتقديم تأريخٍ للحرب، شخصي وضئيل، لكنه تأريخ الميت للحي، تأريخ من لم تعد الفكرة تنقر على أعصابه. ويجهد للتخلص من الحماسة التي رافقت إشاعة الافكار، عبر تدوين الحماسة وحدها، لاكتشاف مبلغ السخف والهشاشة التي تنبني عليهما. يصوّر الفنّان نفسه وهو يطلي وجهه باللون الأسود ثم يحاول تنظيفه، ولا ينجح في محو الآثار السوداء عنه. كأنّه يقول إنه ما من أحد بريء، حتى الطفل الذي كانه، وإننا حين ننساق إلى منطق الحرب، نصير عاجزين عن الخروج منه بنظافة الأبرياء والضحايا، أو حتى التائبين. يبقى أن المهرجان أتى ناقصاً إذ حُرم الجمهور من أحد الأعمال التي كانت تشكّل عنصراً أساسيّاً في البرنامج. المقصود مسرحية فادي أبو خليل، "بوب كورن"، التي لم تقُدّم بسبب عارض صحّي أصاب الممثلة الرئيسية قبل يوم من موعد الافتتاح. وهذا نقص فادح، خصوصاً بعد الترحيب النقدي الذي لاقته مسرحية أبو خليل السابقة، وهو ترحيب استوى فيه المعترضون عليها والمتحمسون لها المشاركون سهام ناصر "الجدار"، مسرحيّة. سيناريو واخراج: سهام ناصر، عن نص صاموئيل بيكيت "في لجة العدم". تمثيل: عايدة صبرا، عصام بو خالد، برناديت حديب، فاديا التنير، نجيب زيتوني، رانية مروة، سوسن بو خالد، طوني معلوف، بديع أبو شقرا. سينوغرافيا: هشام سردار. اعداد الموسيقى: هبة قواص. تصميم الملابس: خالد المصري. تصميم الاضاءة: ماري - كريستين صوما، لودوفيك فيلون. تنفيذ الاضاءة: مصطفى يموت. مهندس الصوت: نزيه نصولي. مدير مسرح: باسم مغنية. مساعد مخرج: أيمن بيطار. إنتاج "أيلول". ربيع مروة "المقسم 19"، مسرحية. عمل جماعي من اخراج ربيع مروة. تمثيل: إيلي أضباشي، ريتا دكاش، زهدي نصار، عبلة خوري، نعمة نعمة. سينوغرافيا: طوني شكر. تصميم الاضاءة: ماري كريستين صوما لودوفيك فيلون. تنفيذ الاضاءة: سامر قدورة. تصميم وتنفيذ الكاميرا: بسام قهوجي. مساعدة مخرج: هدى الناظر. إنتاج "أيلول". وليد صادق "آخر ايام الصيفية"، تجهيز installation. "العالم الثالث، لبنان الحازمية، شارع مار روكز، بناية صادق، الطابق الثاني. غرفة الاستقبال الصالون... صالون في الحازمية خلال حصار مخيم "تل الزعتر" 22 حزيران/يونيو - 12 آب/ أغسطس 1976. لينا صانع "أوفريرا"، مسرحيّة. عمل مبني على الارتجال، اخراج: لينا صانع، تمثيل: جلنار واكيم، تانيا خوري، منيرة الصلح، هاني دعيبس، علي شري. تصميم الاضاءة: ماري - كريستين سوما، لودوفيك فيلون. تنفيذ الاضاءة: سامي حداد. مساعدة: هدى الناظر. انتاج: "أيلول". أمل سعادة "بيروت، أو تقاطعات مدينة خربة"، تجهيز. في منشآت أمل سعادة عن الحرب، تجتمع وتتحاور وتتلاقى الخشبيات مع أشكال من القماش، مع عرض فيلم، لتقدم صورة مميزة عن بيروت. أكرم الزعتري "مجنونك"، شريط فيديو. تصوير: زاهي البزري. صوت: محمد بلطجي. مساعدة مخرج وبث: مي قاسم. مدير انتاج: محمد دعيبس. إنتاج: "أيلول"، بالتعاون مع تلفزيون المستقبل 1997. عادل حكيم "المنفذ 14"، مسرحيّة. نص واخراج: عادل حكيم. تمثيل جان - كانتان شاتلان. التقنية: دومينيك كوردوبار. إنتاج مسرح "كارتييه ديفري" فرنسا.