إستضاف "مهرجان لندن الدولي للمسرح" LIFT ، خلال الشهر الماضي، تجارب خمسة عشر فناناً من لبنان، جمعت تحت عنوان عريض هو "الضحك" Laughter. وضم المعرض الذي أقيم في مبنى "بارجهاوس" جنوب شرقي العاصمة البريطانية، أعمال وعروض مبدعين شباب ينتمون الى جيل ما بعد الحرب. رجل يحفر في الأرض. تارة نراه، وطوراً يقتصر الكادر على ساعديه والجزء السفلي من جسده، والمعول والرفش، وعلى الحفرة الآخذة في الاتساع. لا يحفر الرجل خندقاً، ولا يحفر قبراً... وهو على الأرجح لا يبحث عن كنز. ففي ذلك البيت المتواضع من عين المير، جنوبلبنان، من المستبعد أن يقع المرء على كنوز منسيّة! لكن يمكن أن يجد ذكريات. كان الفنّان أكرم زعتري يجري بحثاً عن الصورة والحرب، حين وقع بالمصادفة على حكاية ثمينة صارت مادة لعمله "في هذا البيت" الذي يجمع بين الفيديو والتجهيز، وقدّم عرضه العالمي الأوّل في لندن أخيراً، ضمن تظاهرة خاصة بالفنّ اللبناني، استضافها "مهرجان لندن الدولي للمسرح". صاحب "الحكاية"، علي حشيشو كان مصوّراً خلال الحرب الأهليّة، وبهذه الصفة التقاه الزعتري في سياق سعيه الى تجميع وثائق ومواد بصريّة وشهادات. واكتشف أن محاوره كان، خلال الحرب، مناضلاً في ميليشيا يساريّة ناشطة في الجنوباللبناني. وقد احتلّت فرقته منزلاً لأسرة مسيحيّة مهجّرة، كان يشكل موقعاً استراتيجياً في خط المواجهة مع الجيش الاسرائيلي. سكن علي ورفاقه البيت ست سنوات، صار يعرف تفاصيله الحميمة، ولعلّه تماهى مع المكان. وبعد اتفاق الطائف و"حلّ الميليشيات"، كتب علي - قبل مغادرة "موقعه" - رسالة الى أهل البيت الاصليين، يعتذر لهم فيها عن احتلاله، مؤكّداً أنّه حافظ على كل شيء فيه، وأن نشاطه ونشاط رفاقه لم يكن موجهاً، في أي يوم ضدّهم، أو ضد لبنانيين آخرين، بل ضدّ العدوّ الاسرائيلي... متمنياً لهم حظاً سعيداً بعد استعادة ملكهم. وضع علي الرسالة في علبة قذيفة فارغة، وطمرها في أرض الحديقة، ومضى على عجل الى سلام أهلي مرتجل، تلاحق هشاشته اليوم الجيل الجديد بالحيرة والقلق والشك. حين عرف الزعتري بحكاية الرسالة المدفونة، حمل كاميراه ومضى الى منزل آل داغر. بعد محاولات عدّة أقنعهم بالحفر بحثاً عن الرسالة. تأرجح أهل البيت بين رفض كلّي وقبول حذر، وخضع هو - كما يروي في شريطه - لأكثر من سؤال واستجواب ومراقبة، من قبل قوى أمنية مختلفة لم تفهم عمّ يمكن لهذا الغريب، أن يبحث في حديقة ذلك البيت في عين المير؟ هل سيفهمون أكثر لدى مشاهدة العرض، عمّ كان يبحث؟ عمل الزعتري المركّب، المنقسم الى مستويات سردية وبصريّة عدّة، خطوة أولى في مشروع استعادة تلك الذاكرة الممحوّة - مثل أسطر الرسالة التي اهتدى اليها أخيراً. الرجل ذو الفيديو يبحث مثل آخرين من جيله، عن الجراح الحيّة في الضمير الجماعي، لم تلتئم كما تردد الخطابات الرسميّة، بل هي متربصة تحت طبقة سميكة من مستحضرات التجميل والشعارات والادعاءات الغيبية. تصوّر كاميرا ثابتة تطوّر عملية الحفر، ومن خارج الكادر، تأتينا الحوارات والمؤثرات الصوتية، لتنقل المناخ العام حول المشهد، أي حالة التنقيب والحيرة والتساؤل. نسمع تعليقات شربل صاحب البيت، أسئلة رجال الأمن والدورية، الجيران ربما، وصوت أكرم يقود عمليات البحث تبعاً للتعليمات التي أعطاها صاحب الرسالة. الحرب الأهليّة إذا صحّ وجود مشروع، يلتقي حوله جيل كامل في الفنّ اللبناني فإن عمل الزعتري الجديد، "في هذا البيت"، قد يحمل لواء هذا المشروع الذي يمكن تسميته ب"أركيولوجيا الحرب الأهليّة"، كونه يختصر كل عناصره الجمالية والفكرية. قد يكون من المثير أن يرصد النقد مشاغل جيل ما بعد الحرب الذي ورث تركة ثقيلة لا علاقة له بها، وها هو يتفحّص ملامحه في مرآة بيروت المهشّمة، يبحث عن نفسه بين ماض مشوش ومستقبل صعب. كأنّه يحمل على طريقته عبء الحرب ونتائجها، ما خلّفته وما تكوّنت منه وما آلت إليه... الحرب بأسئلتها المعلّقة، وجذورها البعيدة، وندوبها الواضحة في السلوك الجماعي... الحرب التي ترشح من أشكال التواصل بين الافراد، ومن طبيعة العلاقات بين الجماعات، من آليات النسيان والتجاوز والكبت والكمون، وطرق التعامل مع المدينة واللغة والصورة والجسد والفضاء الحميم والحياة العامة... وقد خصص "مهرجان لندن الدولي للمسرح" خلال الشهر الجاري حيّزاً مستقلاً لأعمال هذا الجيل معرض "الضحك" نظمته جمعية "أشكال ألوان" بإشراف كريستين طعمة، حيث عرضت ايضاً أعمال لوليد رعد، وربيع مروّة وخليل جريج/ جوانا حاجي توما ولميا جريج ومروان رشماوي ونادين توما، إضافة الى محمد سويد وغسان سلهب وجلال توفيق والفلسطيني شريف واكد. ولا تنتمي عروض هؤلاء في معظمها، الى "نوع فنّي محدد" بالمعنى السائد، بل تضيع عندها غالباً الحدود الفاصلة بين المسرح والتجهيز والفيديو والكتابة والتشكيل. وهي السمة الأساسيّة التي تميّز النتاج الابداعي ل"جيل ما بعد حرب" في لبنان. الشكل هو الأساس في التجارب التي تجاورت طيلة أسبوعين على ضفاف التيمز: فهو يجاهر بنظرة جديدة ولغة مختلفة وتعاطي آخر مع الفنّ. وينطوي على رفض ميراث الجيل السابق، تنتج عنه قطيعة مع أشكال وقوالب وممارسات ابداعية، لم تعد تتسع للحيرة وغياب اليقين. إننا أمام اجتهادات واقتراحات جمالية تقرّب اصحابها من تجارب طليعيّة عدة في العالم، من هنا - ربّما - تهاتف المهرجانات والمؤسسات الثقافية الغربية عليهم، في حين أن المكان الأصلي يكاد يضيق بانتاجهم. هويّة الفنانين الذين عرضوا في "بارجهاوس"، على مرمى حجر من متحف "تايت مودرن" اللندني، ترشح من علاقتهم بال"تعبير"، وهي علاقة تبدو طبيعية، محايدة، غير صدامية... حتّى ليخيّل للمتلقّي التقليدي أنه أمام أعمال غير منجزة، لا يمكن تصنيفها في أي سياق تقليدي. وربّما شكك بعضهم في شرعيّتها "الفنية" أساساً، لأكثر من سبب: طغيان "العادي" عليها، والشغل التجريبي المتعدد الأبعاد، وارتباك اللغة المتعمّد أو القسري، والتعاطي الموارب غالباً مع "الموضوع"، وغياب الادعاء الفكري، والابتعاد عن الاشكال المألوفة المتعارف عليها. فالمسرحية ليست مسرحية ربيع مروّه، لينا الصانع، والتشكيل يأتي من خارج اللوحة مروان رشماوي، والفيلم ليس سينما أكرم الزعتري، والصورة واهية مشوشة مكررة حتّى الهوس احياناً لميا جريج، تفتقر الى نقاط ارتكاز ايديولوجيّة. والفيديو - مثل الصورة - مشترك بين العرض والمحاضرة والتجهيز وليد رعد، جريج/ حاجي توما...، والأدب متداخل مع الفنّ نادين توما. وحتّى الفيلم السينمائي نفسه يبدو مفككاً، إذ تتداعى لقطاته في عالم مشوّش، واذا به يعيد النظر أمامنا بأدواته وعناصره غسان سلهب ومحمد سويد. وفي قاعة لا يدخلها الضوء الخارجي، فرش مروان رشماوي خريطة بيروت التي غطّت مساحة واسعة من المكان. الخريطة صنعها من الكاوتشوك، يمشي عليها الزوار، يضيعون في تفاصيلها بحثاً عن حي، عن منطقة، عن مكان... عن مدينة، عن وجودهم. أين هي بيروت؟المدينة لا تراها الا تترك مسافة نقدية بينك وبينها. يترك المشاهدين يلعبون مع تجهيزه، هم جزء منه، واحتمالات تأويله وتفسيره. سيدة مجتمع تبحث عن حي الأشرفية، وتفقد أعصابها حين لا تجدها فيخيّل اليها انّها مغيّبة. سيدتان من الجهة الأخرى تتلذذان بتحديد مواقع دقيقة في رأس بيروت. شاب بملابس عصرية يشرح لصديقته الانكليزية أين الشرقية، وأين الغربية... ويرسم بإصبعه خطوط التماس. غريب أمر هذه الحرب الاهليّة الكامنة في "لعبة بازل" من الكاوتشوك. الاقدام تدوس الكاوتشوك الأسود وتترك آثارها... تضيف بصماتها على سطح المدينة الضائعة التي يعاد تشكيلها. كما يعاد تشكيلها بالفيديو في عرض رعد - خبيز - شكر. وكما يفعل "مجنون بيروت" المهندس الغريب الأطوار وليد صادق في فيلم غسان سلهب "أرض مجهولة". الثنائي خليل جريج وجوانا حاجي توما نشرا مجموعة بطاقات بريدية بعنوان Wonder Beirutبيروت المدهشة وهي في الاصل Wonderful Beirutبيروت الرائعة، تعيد تشكيل كليشيهات سياحية من فولكلور "لبنان الجنّة على الأرض". تلاعب خليل وجوانا بصور ايام زمان، ايام الحلم والازدهار والبحبوحة وراحة البال... فخلقوا عالماً غرائبياً هاذياً، ذا أبعاد كابوسيّة تشبه نهاية العالم. شعرية الغياب وفي تجهيزهما "صور معمّرة"، يقارب خليل جريج وجوانا حاجي توما مفهوم "الغياب". في القاعة المظلمة مجموعة ألواح صغيرة نقرأ عليها نصوصاً للمصوّر الفرنسي نادار عن الأطياف المتعاكسة التي يتألف منها كل جسم طبيعي، ومقتطفات من القوانين اللبنانية المتعلقة بالمفقودين وخاصة المخطوفين خلال الحرب الاهلية اللبنانية، ومقتطفات من نصّ لافت لجلال توفيق عن ذلك الشبح المكبوت الذي يتهدد الناجين من الحروب، فإما أن يتصالحوا معه، وإما يتحولوا اجساداً بلا حياة، ونص عن اكتشاف قام به طبيب شرعي فرنسي في القرن التاسع عشر، مفاده أن قزحيّة عين القتيل تحفظ آخر صورة رآها المقتول قبل الموت. وعلى أحد الألواح صورة للمظروف الأصفر الذي وجد فيه فيلم "سوبر 8 ملم" صوّره ألفرد جونيور كتانة، وتم العثور عليه في آذار مارس 2001، وتمّ تظهيره في ايار مايو 2002. وأخيراً في وسط اللوحات شاشة صغيرة عليها صور مشوشة ممحوّة من الفيلم الذي التقطه كتانة قبل أن يختفي مخطوفاً في حجيم الحرب الاهلية 1986. انها بقايا صور ذاكرة الحرب الواهية، بصمات حياة هربت، الصورة الأخيرة في قرنية القتيل، الشبح العائد، استعادة للفقد والغياب، والفراغ الشاسع المتروك في الوجدان الفردي والجماعي، كعلامة استفهام شاهقة. ومفهوم الغياب اشتغل عليه ربيع مروّة من جهته، في "البحث عن موظّف مفقود" عرض مروّة مع لينا الصانع أيضاً مسرحيّة "بيوخرافيا" التي تلعب على ضياع الحدود بين المختلق والحقيقي، وتحمل صوت جيل يحاول الخروج من دوامة العنف والفراغ والايديولوجيا. العمل يمسرح الغياب خياراً جمالياً، ومجازاً وجودياً وسياسياً، من خلال حكاية "مفقود افتراضي": موظف فئة رابعة فقد بعد خروجه من مكتبه في وزارة المال في بيروت، ذات يوم من أيلول سبتمبر 1996... العرض بلا ممثل حقيقي، ولا مخرج حقيقي، ولا قصّة مكتوبة وحوارات. على شاشات الفيديو نتابع استقصاءات مروّة الجالس في صفوف الجمهور، مؤدياً دوره الحقيقي في الحياة، لمعرفة لغز اختفاء هذا الموظّف كمجاز لغياب العدالة، وغياب الصدق، وغياب دولة المؤسسات، وغياب الحرية. ولغياب الممثّل عن "الحلبة"، ووجوده في مكان مستتر تاركاً صورته تنوب عنه، صلة عضويّة بموضوع "البحث عن موظّف مفقود". يشتغل مروّة في عمله الجديد على شعريّة الاختفاء - أو التواري - بأبعاده الرمزية، وباعتباره الطريق الوحيد - ربّما - الى الحريّة، في مجتمع أفراده محاصرون بالجماعات والطوائف والعشائر والأحياء والمناطق. يلعب على تفاوت مستويات السرد، وتعدد زوايا النظر المتضاربة أحياناً الى الحقيقة الواحدة. وهو يمضي، من خلال عمله الجديد، في استعمال الامكانات السمعيّة - البصريّة، والتقنيات المتعددة الوسائط Multimedia، لدفع العرض المسرحي إلى حدوده القصوى، إلى اللامسرح واللاتمثيل، حيث تنعدم الجاذبية "التقليديّة" وتضيع الفروق بين الأنواع والأشكال والقوالب التي يمكن تصنيف "العرض" في خانتها. وبين المشاركين في معرض "الضحك" في لندن، لا بدّ من التوقف عند تجربة نادين توما التي قدّمت كتابها الفنّي "سيدي مايليدي" Sayy”d” Milady. وهو عمل جريء، يجمع العناصر البصريّة الى لغة البوح والتداعي، في لعبة توازيات تتوزع معها "انا" المبدعة بين ذكورة وأنوثة، وتتماهى من خلالها مع امرأة مغامرة من القرن التاسع عشر هي الليدي ستانهوب. الكتاب برسومه وصوره وشكله ونصوصه عمل فنّي متكامل، ومواجهة مع الأب ومع الذات، ومجاهرة بال"مثليّة" الجنسيّة، كهويّة مغايرة ندر أن رأينا مثلها في الثقافة العربيّة المعاصرة. سبر اللحظة الراهنة الحضور اللبناني في "مهرجان لندن" كان اشكالياً ومفاجئاً ومثيراً للجدل على أكثر من صعيد. وقد لعبت مديرتا المهرجان لوسي نيل وروز فنتون دوراً شجاعاً في فتح المجال أمام اللبنانية كريستين طعمة التي رافقت صعود أو بروز معظم الفنانين المشاركين، لخوض تلك المغامرة. كما حقق "المركز الثقافي البريطاني" في بيروت مكسباً جديداً في رهانه الطويل المدى على ترسيخ التبادل الثقافي في الاتجاهين على قاعدة التكافؤ بين العرب وبريطانيا، وتفادي العلاقة المختلة - من طرف واحد - بين مصدّر الثقافة الغرب ومتلقيها العالم العربي. عن كيفيّة اختيار الاعمال المجموعة تحت عنوان عريض يثير الاستغراب هو "الضحك"، تقول كريستين طعمة: "لقد تعبنا من صفة "نتاج الحرب" التي باتت أقرب إلى الستيريوتايب، وصارت استراتيجيّة تسويقيّة رابحة، تعطّل غالباً امكان التعاطي مع الذات من خارج المفردات الجاهزة والافكار المسبقة... وهذا يعوق محاولات سبر اللحظة الراهنة، والتطلّع الى المستقبل، واقامة علاقات أخرى، جديدة، مع الواقع المتحول. ماذا اذا حاولنا أن نكسر تلك الدائرة - دائرة الحرب - بالضحك؟". سيارات مفخخة وقناصة... بين الفنّ والتأريخ في عرضه "عنقي أرفع من شعرة" ينبش وليد رعد، أيضاً، مجاهل الذاكرة الجماعية، على طريقته، من خلال استعادة ظاهرة السيارات المفخخة التي كانت من أبرز معالم الحرب الأهليّة. هذا العرض الذي قدّم حتّى الآن في بيروت وبروكسيل وباريس ولندن، يشكّل منعطفاً في مسيرة "مجموعة أطلس". إذ يعمل رعد هذه المرّة مع الكاتب بلال خبيز والمعماري طوني شكر كلاهما معني بالصورة وبفنون التعبير المعاصرة المرتبطة بها، ويحاول أن يعطي ل"الوثيقة" بعدها الحقيقي، من خلال محاولة اعادة تركيب حادثة انفجار "سيارة فرن الشبّاك" التي تؤرخ لانفجار كبير وقع أمام بيت الكتائب اللبنانيّة في ضاحية بيروت المذكورة، يوم 21 كانون الثاني يناير 1986. و"مجموعة أطلس" التي تحمل مشروع تكوين أرشيف لتاريخ لبنان المعاصر، تبدأ من غياب هذا الأرشيف، ومن تضارب أشكال القراءة الممكنة للوثيقة الواحدة، خصوصاً حين تتعلّق بحرب أهليّة ما زالت ندوبها حيّة في وجدان الجماعة. العرض الذي يتخذ شكل محاضرة ترافقها عروض سلايد وفيديو، هو استعادة تريد نفسها باردة، محايدة، لوقائع عنيفة لم تختف آثارها من ذاكرتنا. إنّها محاولة لمواجهة ال"أمنيزيا" العامة بوثائق وخرائط، ورسوم بيانية، ووقائع دقيقة، تعيد سرد الحدث بالأرقام والحيثيات، والتذكير بخلفياته، وذكر الاطراف والشخصيات المعنية به، وعرض الصور الارشيفيّة، في لعبة كومبيوتريّة تجعل البورتريهات وصور الانفجار والأرقام والتفاصيل الارشيفية تتوالى أمامنا على شاشة كبيرة الى يسار المحاضر الذي يتلو نصّه بحياد وهدوء. "المحاضرة" هي من التقنيات والاشكال التي يعتمدها وليد رعد في معظم أعماله. إلا أنّها هنا تكاد تبدو محاضرة حقيقيّة، لا مكان فيها للاختراع والتلفيق المتعمّد، بل تقوم على عمل تجميعي واحصائي، حصيلته مادة "ريبورتاجيّة" مفيدة. يتفادى العرض أي جنوح فنّي تركيبي بقصد الايهام والتلاعب بالواقع، لكنّه ينتهي بعمل فيديو لافت، يعيد تقديم صور ارشيفيّة، في عمليّة تداع للذاكرة، تختلط بمشاهد حيّة من الزمن الحاضر، تتلاعب بملامح المدينة أحياناً. تاركة علامة تساؤل كبيرة حول الحدود الفاصلة بين الابداع والتوثيق، بين الفنّ والتأريخ. وتستقصي لميا جريج في تجهيز فيديو بعنوان "اعادة" Replay تلك اللحظات الهاربة من ذاكرة مثخنة. تنطلق من صور نشرت في مجلات وصحف الحرب: رجل يتهاوى برصاص القنص، غافلته عدسة المصوّر لحظة السقوط، ثم نراه في لقطات أخرى أرضاً وهو يستنجد... لكنّ أحداً لم يجرؤ على الاقتراب من مكان سقوطه. وامرأة حافية القدمين تركض صوب الكاميرا وهي تصرخ، وعلى وجهها ترتسم علامات الذعر واليأس والاستسلام. لميا تشكيلية ومصوّرة وفنانة فيديو وكاتبة، قدّمت أكثر من عمل حول الطبيعة الواهية لذاكرة الحرب "هنا وربما أيضاً هناك"، نصّ وفيلم وتجهيز، معرض وفيلم عن "أشياء الحرب".... وفي Replay صور الارشيف تستنطقها وتسبر أسرارها، بحثاً عن نثار حكاية. يتوزّع العرض على ثلاث شاشات، الى اليمين مشهد مكرر لرجل يسقط ثم يقف في كوريغرافيا رتيبة تحددها سرعة عبور الصور، والى اليسار مشهد امرأة تركض بقدميها الحافيتين وفستانها وصرختها المكبوتة، تركض ثم تركض ثم تركض... حتى استنفاد صبر المشاهد. وفي الوسط مشهد البحر، لقطة ابدية نسمع حفيفها، ونتمسك بانسياب الضوء فيها على صفحة الماء... ملاذاً أخيراً لراحة الاعصاب المتوترة بين عنفين وذهولين. في زاوية من القاعة، داخل محراب مضاء، الصحف التي نشرت فيها الصور الحقيقية، تبدو محور التجهيز وحلقته المفقودة.