في الوقت الذي كان جاك شيراك الرئيس الفرنسي يقوم بزيارته للمملكة العربية السعودية وقطر، كانت برناديت زوجته في مقدمة الحضور في عرض أزياء كريستيان ديور الراقية وإلى جانبها كلود عقيلة الرئيس الراحل جورج بومبيدو. وكانت برناديت، التي حرصت على وداع جيانكوفيري مصمم أزياء ديور شخصياً، بسيطة كعادتها أناقة وتصرفاً، وتماماً كالسابق وهي تنتقل من عرض أزياء إلى آخر مشجعة صناعة فرنسا الموضوية الوطنية. ومع رحيل جيانكوفيري من دار ديور بعد انتهاء عقده معها لثماني سنوات، ها هي ريح جديدة تهب على دور الأزياء الراقية فتفقد قليلاً من صيتها وكلاسيكيتها. كان جيانكوفيري حزيناً وقد وقف الجمهور يصفق له بشدة والعارضات الرشيقات كالأنسام يتهادين على البوديوم تحت قبة "الكران أوتيل" بلوحتها ونقوشها الرائعة العائدة إلى أكثر من قرنين. أثواب ألف ليلة وليلة وبنات المهراجا في الساري الهندي الذي صار موضة فرنسية. وكل شيء يحصر القامة ويبرز الاكتاف، للنهار في قماش "البية دي يول" الأسود والأبيض. جاكيت التايور طويلة للشتاء المقبل والتنورة ضيقة، والمعطف طويل ومخصور وينزلق باتساع على الأرداف ويسقط حتى منتصف الساق. وصحيح ان ليس كل العالم من الهند، كما يقول ساشا غيتري، لكن عند ديور كان الجميع يحلم بذلك. والواقع ان كبار مصممي الأزياء الراقية يعرفون كيف يوقظون المشاعر في كل عام، ومع أن أيام العروض هذا الموسم قد تحددت بأربعة فقط، فهي حركت الاعلام ككل حول البوديوم. ولكأن الكاميرات مدافع صغيرة من بعيد لكبر عدساتها، ولكأن المصورين في يوم الحشر لكثرة تدافعهم. والمصممون يتغيرون وكذلك الموضة الراقية، لكن تقاليدها تبقى هي هي. وغير رحيل جيانكوفيري من عند ديور وحلول جون غاليانو المصمم الانكليزي الشاب مكان جيفينتشي، فهناك دخول ايف سان لوران "الانترنت" وعرض تورنت في اليونسكو، ووصول عائلة فيراغامو الايطالية صاحبة الاسم الكبير في عالم الجلديات، إلى دار أونغارو كشريكة. وهذا يحدث للمرة الأولى في هذه الدار، وكأنه من دون الايطاليين المنافسين تبقى الموضة الفرنسية على عكازين اليوم. عروض قليلة ولكن... خمسة عشر عرضاً فقط، لكنها حولت عيون العالم عليها. والايطاليان فيرساتشي وفالنتينو، افتتحا مهرجان الموضة في اليوم الأول، ثوب طويل عند الأول ولا موضة فيه غير أنه يلتصق بالجسم ويقف عند القدمين باتساع قليل. وكثير من الاقمشة الشفافة للسهرات، وهذا ما جعل ليزا ماري بريسلي، زوجة مايكل جاكسون السابقة، تقول: "لا يستطيع الخروج بهذه الأثواب إلا الشهيرات من النجوم". وربما لأن الموضة للنجوم، حرص جياني فيرساتشي على أن يعرض موديلاته في فندق الريتز الشهير، وان يأتي بأشهر العارضات ليتهادين على خشبة العرض: ناومي كامبل، ليندا ايفانجليستا، كارلا بروني وكات موس، وكل ذلك في حرير وتفتا يتدفقان كالنهر، واللون السائد هو الرمادي الذي اشتهرت به أنيقات الثلاثينات. وهذا ما يناقض اناقة النهار البسيطة والفخمة في جاكيتات قصيرة تقف عند الخصر، وبياقات كبيرة من فراء الثعلب. كان فالنتينو خارقاً في رده على متطلبات العصر عبر موضته الراقية لخريف وشتاء 96 - 1997. تايور - بنطلون، وياقة صغيرة وخصر دقيق وتهدل قماش من المخمل والفلانيل وكعب مسماري. هذا الكعب الطويل جداً، بدقته أو بعرضه، هو سيد الخطوات الرشيقة المقبلة، أضفى أناقة خاصة على الموديلات الجديدة. ومع أن العرض بدأ في العاشرة صباحاً من يوم أحد يستريح فيه الفرنسيون من هموم أسبوع معجوق، فقد لوحظ وجود منى الراشد في المقدمة، تدون ملاحظات وتراقب. كل معاطف فالنتينو طويلة ومخصورة، وأثواب سهراته قصيرة في معظمها، وألوان حيادية تسود: البيج والرمادي الفاتح ولون البشرة. لكن ثوباً أحمر ختم العرض، منفوخاً، وشد التصفيق. وعرض جون غاليانو مصمم دار جيفنتشي موديلاته في ملعب فرنسي حوّله إلى غابة سوداء بأشجار الصنوبر. وهذه هي المرة الثانية التي يقدم فيها عرضاً للأزياء الراقية. ولجأ غاليانو إلى دار لوساج للتطريز ليطلب منه مطرزات تعود إلى القرن التاسع عشر. ولأنه استوحى موديلاته من قصر مالميزون في الضواحي الباريسية حيث قضت جوزفين زوجة نابليون آخر ايامها، وعرضه كان تاريخياً فعلاً، كأن الامبراطورة جوزفين بوهارنيه هي التي تتهادى على خشبة العرض أمام الجمهور المندهش والمصفق. تصفيفة الشعر شينيون، وقبعات عالية وشرائط عريضة، وتطريز خارق. ثم أثواب ترتفع أكتافها كما أناقة سيدات سنة 1900، وتنانير ضيقة تحصر الساقين طولاً، وأيضاً حتى نفرتيتي كانت هناك في ثنيات أثوابها المعروفة. وأخيراً بدت العارضات في سموكنغ فقط، من دون تنورة ولا قميص، وبهذا ابتعد غاليانو الذي ينتمي إلى مدرسة فيفيان ويستوود وجان بول غوليته المتطرفة، عند رصانة جيفنتشي الذي ذهب وفرض آخر نفسه مكانه. على أنغام الجاز على أنغام موسيقى جاز قدمتها اوركسترا راقية، قدمت دار نينا ريتشي عرض أزيائها، في صالة ديلورم في متحف اللوفر. ومن الوهلة الأولى أظهر جيرار بيبار مصمم ريتشي عن براعة تحويل ياقة موظف الامبراطورية الصينية القديمة إلى ياقة عصرية تلف العنق وتجعل المعطف يتهاوى تحتها بارز الكتفين ومشدود الخصر ومتسعاً في الأسفل. وشديدة الاناقة هذه الموضة كعمليتها تماماً. ومثلها أيضاً في الجاكيت الطويلة بقبة جيب ظاهرة وعريضة، فوق بنطلون ضاق عن عادته وأبان عن جمال الساق ورشاقة القامة. لكن ما ان تطل الامسيات حتى يطل الحلم معها عبر أثواب التفتا المنفوخة التنورة كثيراً، كأن أنيقات البلاطات في العصور الماضية قد استيقظن فجأة على خشبة العرض. كثير من الفخامة في ثوب مطرز، شفاف ويلتصق على الجسم. وكانت آن ماري ايدراك سكرتيرة الدولة لشؤون المواصلات في مقدمة من حضر هذا المهرجان الموضوي. هذا كله بخلاف اوليفيه لابيدوس، الأصغر بين المصممين، الذي عرف كيف يزاوج بين الحاضر والمستقبل، ويلقي نظرة فورية على الفضاء. ومحاولاً التأكيد عبر معاطفه الطويلة وبلوزونه الفضائي أن همه في موضته هو البحث عن التجدد في أزياء راقية. حرير ليون، المدينة الشهيرة به، إلى جانب أقمشة النازا الفضائية لسهرات كبيرة. وربما هذا التجدد يقارب ما عند جان لوي شيرر الذي صمم مجموعته برنار بيريس للمرة الرابعة، ونجح كثيراً. وقد أظهر هذا أنه ولوي شيرر توأمان لا ينفصلان. وما كان غريباً ومبتكراً عنده هو ادخال ريش ديك على موضته ملوناً اياه بالأزرق والاحمر. واستعمال الساتان كثيراً حتى في البلوزون الذي ينزلق فوق بنطلون ضيق، وحتى في الرادنكوت الطويل المرسوم يدوياً. ولم يتردد برنار بيريس في تصميم معطف كامل من فراء الزبلين ويتركه طويلاً حتى القدمين. وعاد بالذاكرة إلى السهرات الراقصة القديمة، فجعل الأنيقات يرقصن في تلال من التفتا، وعلى رؤوسهن تسريحات تموج بالشرائط الجلية والحريرية. الموهبة والمال... وشانيل وبما أن الموهبة تجذب المال، كذلك فإن المال يجذب العالم. وهذا ما طبق على ايمانويل أونغارو الذي استأثر عرض أزيائه في فندق الانتركونتيننتال الشهير، بنخبة ثرية كانت عائلة فيرا غامو الشريكة الجديدة في المقدمة، وإلى جانبها اثرياء ايطاليا. والواقع ان اونغارو لم يكن مرة أميناً على فنه الموضوي كما كان هذه المرة. قامة مستقيمة في ألوان الرمادي والأسود والأبيض، وليس من ثوب فضفاض أبداً. الثوب - المعطف طغى، وكذلك الجاكيتات الطويلة فوق بنطلونات متهدلة، وليس من مجوهرات أبداً. والعروس بدت كأنها قادمة من مراعي القرن الثامن عشر، في ثوبها - السلة المعجوق بحلاوة بأجمل الأزهار. والأزهار كانت متناثرة أيضاً في عرض كريستيان لاكروا، فوق السجاد الشرقي الفخم في "الفندق الكبير"، لكن هذا المصمم العبقري استنجد بالتاريخ خلال القرن السابع عشر، ليأتي بأنيقة البلاطات من هناك ويضعها على خشبة العرض. خصر محصور وتنورة واسعة كالسلة تسقط حتى الأرض، وياقة تسمح للعنق الجميل بالبروز. ولا أجمل أيضاً من المعطف بياقته العسكرية وأزراره المصطفة على الصدر، وبزناره وبهبوطه إلى ما تحت الركبة فوق ثوب طويل أسود. عرضت دار شانيل مجموعة أزيائها في جناح "كوكو شانيل"، في فندق الريتز وحيث توفيت في السبعينات. وبقي المصمم كارل لاغرفيلد أميناً على ذهنية "كوكو" مع تجديد وتجديد. وهذه المرة ألغى كارل لاغرفيلد التنورة القصيرة الضيقة، المعروفة عند شانيل، وأتى بسروال نهرو وكأنه للنهار، وبالتونيك الصيني المطرز بالذهب للسهرات. وكان الهمس يدور بين الكواليس عن ستمائة ساعة عمل تطلبها تطريز كل ثوب من أثواب السهرات الأربع التي عرضها في نهاية مجموعته. وكل هذا مع المحافظة على أزرار وجيوب شانيل وزنانيرها المعروفة، وعلى حقيبتها التي جعلها هذه المرة تبدو كالكيس. ووحدها هناي موري عرفت كيف تزاوج بين الشرق والغرب في موضتها الجديدة. فهذه اليابانية العريقة التي انتقلت من جادة مونتينيه إلى شارع الفوبور سانت هونوريه، المقابل تقريباً لقصر الايليزيه، أثارت في تصاميمها اليابان القديمة العريقة، أثواب من الساتان المدروز مربعات والمطبوع بأزهار فلاحية، وتايورات من الفلانيل بلون رملي، وجاكيت طويلة، ثم كومبينيزونات فوق بنطلونات متهدلة، وبعدها القمصان الحريرية التقليدية والأثواب الموسيلينية للسهرة. ورقة الشجرة عند لوي فيرو، لم يتغير الاسلوب الموضوي مع ابنته دومينيك التي سلمها المشغل وراح يراقب أنواره من بعيد. لقد انطلقت دومينيك من ورقة الشجرة، ورسمت موضتها. ثوب طويل يصل حتى الأرض ويغطي تماماً الحذاء بكعبه العالي، إلى ثمانية سنتمرات، لكن هذا الثوب من لونين أسود وأبيض، وكل لون يشكل ورقة متداخلة في ورقة أخرى، فتبدو القامة معها ورقة شجرة تلف الجسم من العنق حتى القدم. ومن هذا المنطلق، كل ثوب في مجموعته ينافس الطبيعة، وكذلك التايور، وعن طريق استخدام القطع اللاصقة المدروزة. عرض إيف سان لوران مجموعته المؤلفة من 91 ثوباً وتايوراً ومعطفاً، في القاعة الامبراطورية في فندق الانتركونتيننتال. وكان الغالب على ألوانه الأسود والزهري. وكان الحضور مختاراً على الكراسي المخملية الحمراء والمذهبة. وما استأثر بالانتباه عند إيف سان لوران ليس موديلاته الأنيقة - البسيطة، خصوصاً في الثوب - الكيس، القصير، لكن وجود كلوديا شيفر بين العارضات. ووجود كلوديا على خشبات عروض الأزياء ليس فلتة العصر، لولا أنها اضربت هذا الموسم عن العرض إلا لإيف سان لوران فقط. وخلاصة موضة سان لوران هي البساطة المتناهية مع الجاكيتات الطويلة المخصورة، وفساتين السهرة المخملية التي تنساب برقة على القامات الشديدة النحولة. وختمت كلوديا شيفر العرض بثوب العروس الأبيض المنفوخ، لكن بقبعة مستديرة سوداء بدل الشوال. وكانت حصة العارضة ستيلا تينان، منافسة كلوديا الجديدة، بحجر الياقوت الأحمر، الذي يجلب السعادة، وعادة يقدم إيف سان هذا الحجر إلى عارضته المفضلة. وبينما كان اللغط يدور في الكواليس حول خليفة جيانكوفيري عند كريستيان ديور، وكانت الألسنة تتناول من بين الأسماء المرشحة اسم جان بول غولتيه، كان هذا يجلس إلى جانب باكو رابان في أثناء عرض أزيائه ويردد: هذا رائع، رائع! والحق ان عرض باكو رابان كان أكثر من مدهش ومثير في موضته المعدنية التي بدأها بعشرة أزياء لمصمم مجهول حتى الآن، ومن هولندا، هو عزيز بقاوي. والاسم هذا عربي طبعاً، لكن الجنسية هولندية، ولا شيء أكثر من ذلك غير اعطاء باكو رابان الفرصة لهذا الشاب ليؤكد هويته الفنية في عالم الموضة. والباقي عند باكو يتلخص في أثواب منحوتة من معادن دائرية وشبكية، وكأنها صممت للمتاحف فقط، ولكم بدا التناقض بين هذا المصمم المعدني وبين بيار بالمان الكشميري والدانتيلي، على يد مصممه العتيد اوسكار دي لارنتا. والعرض جرى على خشبة مسرح تعج بالزهور، أما الأناقة فأكثر من فخمة بكثير، معطف مخملي طويل للسهرات، وتايور من الكشمير فوق بنطلون أو تنورة للنهار. أما للمناسبات الاستثنائية، فقد اختار أوسكار دي لارنتا الدانتيل الأسود لها، مع تسريحة قصيرة وقبعة تولية. يبقى أن خمسمئة ألف طلب سجل عبر الانترنت لمشاهدة عرض إيف سان لوران، بينما كان لاكروا يقول: "ليست الخياطة أكثر من موسيقى صغيرة".