الايطاليون بدأوا عروض الأزياء الجاهزة لربيع وصيف 1995 في ميلانو في ظل اجواء ملبدة بالغيوم الاقتصادية والنفسية. فالفضائح المالية لاحقت الموضة الايطالية منذ اسبوع تقريباً، ولم يهادن القضاة موسم العروض الابتكارية التي جرت أمام ألفين من المحظوظين والمحظوظات في قصر أورسيني. ثمانية آلاف متر مربع لقاعات تعود الى القرن الثامن عشر، جدرانها مذهبة وسقوفها لوحات جميلة. وجميع النساء اللواتي يعملن في الموضة في ميلانو، من صحافيات وبائعات ومبتكرات، ارتدين تايوراً أسود وقميصاً أبيض. وقد فعلن ذلك بهدف التميز المهني، لكن أيضاً تماشياً مع تغير ما حدث في مدينة ميلانو، ألا وهو الميل الى الجدية وارتداء الرصين، وهذا في وقت شد الأنظار الى القاضي دي بييترو الذي استدعى الى مكتبه أقطاب الموضة الايطالية. ومنهم جياني فرساتشي الذي اعترف بأن الألف وعشرين مليار لير ايطالي كان الرقم الذي غطى أعماله الموضوية لسنة 1993. وهو رقم لا يحتاج الى أن يكون موضع شبهات بالنسبة الى المئة والثلاثين مخزناً للأزياء التي تحمل اسمه، وللملياري لير التي دفعها الى مصلحة الضرائب. كذلك الأمر بالنسبة الى ماروشتا مانديللي كريزيا، وأرقام أعمالها الموضوعية تجاوزت الخمسمئة لير، وقد صرحت للصحافة بأنها دفعت الى زوارها من مصلحة الضرائب ثلاثمئة مليون لير متوجبة عليها ولم تتهرب منها. ومثلها جيورجيو أرماني الذي يعمل في مجال أزيائه مئتا وخمسون شخصاً، الذي دفع ثلاثة وأربعين مليار لير ضريبة سنة 1993 عن ثروة أعماله الأزيائية البالغة 1150 مليار لير. وعلّق البعض على هذه الأرقام الهائلة الألف لير يعادل 3.35 فرنك فرنسي بالقول: "ماذا يعني مبلغ مئة مليون لير بالنسبة الى أرماني؟ انه ثمن عشاء يقيمه لمعارفه وأصدقائه". القصير والطويل من ايطاليا بين هذا الرأي وذاك عن الفضائح المالية بصورة عامة التي تطيح بالرؤوس الكبيرة في ايطاليا وفرنسا وأوروبا، كانت الموضة لا تزال بعيدة عن هذا اللغم. ولهذا حرص اقطاب الموضة الايطالية على الظهور في عروضهم على مستوى صيتهم الفني. وهكذا انقسمت ايطاليا الى قسمين: موضة القصير وموضة الطويل الذي يغطي الركبة. كانت مجموعة أرماني حلماً من الألوان لامرأة مثالية تحيا أناقتها في العمق. وحتى البنطلون كان من الكريب الصيني، والكريستال على القمصان كان يحمل لون الزهر. وشدد فرساتشي على التايور المخصور بتنورة موروبة وتعلو الركبة. وأوقف موشينو الطول عن الركبة في ثوب سهرة يشد القامة بلونيه الأسود والأبيض. وابتكر تروساردي المعطف الأبيض الرجالي الذي يغطي الركبة بأكثر من شبر طولاً، في حين أن غوتشي دفع بالمرأة الى الستينات حين حصر الخصر بزنار وضيّق الثوب وتركه يصل الى الركبة فقط. وكما الفضائح المالية في عالم الموضة الايطالية كانت من كل لون، كذلك كانت الابتكارات من كل طول، ولكل ذوق. عارضات سنة 2000 وإذا كانت الفضائح المالية خيمت على الأناقة الايطالية فإن الموضة الباريسية استطاعت نقل الأنظار والأقلام والنخبة الى العاصمة الفرنسية، والى متحف اللوفر الجديد بالذات، حيث قاعات الموضة الأربع راحت تتناوب على استقبال عروض أكثر من سبعين مبتكراً للأزياء الجاهزة على مدى عشرة أيام متواصلة. وحملت العروض الجديدة للربيع والصيف المقبلين أكثر من مفاجأة وانقلاب وتغيير. وأتى على رأسها حدث المصمم جيانفرانكو فيري في دار كريستيان ديور والذي اعتبره النقاد حدثاً انقلابياً. ففي اليوم الأول لعروض الأزياء الجاهزة هذه، فُتح الستار عن سبع وعشرين عارضة شابة تتراوح أعمارهن بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة من العمر، في عرض كريستيان ديور. شابات يتنافسن جمالاً ورشاقة وجنسية وفطرية في الخطوات. كن يرتدين أثواباً وتايورات وبنطلونات وقمصاناً بكل ألوان الأسود والأبيض المختلطة. مقلمات ومربعات وسادة ومتداخلة، وانفجرت القنبلة فعلاً. وبعد انتهاء عرض ديور جاء دور لملمة الشظايا الاخبارية. وقال جيانفرانكو فيري: "إنهن عارضات أزياء سنة 2000 وخليفات، أو بالأحرى منافسات، الشهيرات من أمثال كلوديا شيفر وكارلا بروني وكارين مودلر وليندا ايفانجيليستا وناومي كامبل وكات موس وكرستن ماك نيماني وهيزر ستوارت وايت وناديج وسواهن. صحيح ان ليس لديهن أي خبرة في عروض الأزياء، غير أن ظهورهن على خشبة العرض جاء تحت عنوان التغيير والمستقبل الأزيائي. وكانت وكالة العارضات، وهي وكالة النخبة، أجرت مسابقة لاختيار عارضات شابات في بلدة بياريتز في الجنوب الغربي الفرنسي، وهذه الوكالة بالذات كانت اختارت العارضات الشهيرات اليوم: سيندي كروفورد وكارين مودلر وتاتيانا بوليتز وستيفاني سيمور. وجرى اختيار العارضات الجديدات من خمسة وأربعين بلداً. وواحدة منهن تدعى ناتاليا سيمانوتا لم تستطع أن تكون على الخشبة هذه المرة لأنها لم تبلغ الخامسة عشرة من عمرها، لكنها حضرت العرض الى جانب ليز توبون زوجة وزير الثقافة الفرنسي وصوفيا لورين وماتيلدا ماي وكلير شازال أشهر مذيعة أخبار فرنسية. كان الحدث الثاني في عروض الأزياء الجاهزة الربيعية والصيفية هو نزول العارضة السمراء كاتوشا الى ميدان التصميم. وفي عرضها الأول للموسم المقبل تبرعت زميلاتها بعرض موديلاتها مجاناً: كارين مودلر وناديج وهيزر وحتى ماربيسا. وكان عند نينا ريتشي مفاجأة صاعقة باعطاء تصميم مجموعتها الأزيائية الجاهزة الى مريام شيفر التي عملت عند جان بول غولتيه سبع سنوات. لم يعد جيرار بيبار سيد الساحة عند ريتشي. وربما بقي مختصاً بالأزياء الراقية التي تحمل سمة الرصانة والتقليد والفخامة دائماً. وما غيرته مريام أنها أكثرت من القبعات والمجوهرات وجعلت الحذاء الرياضي "الاسبيدري" يلتحم بالتايور المخصور الجاكيت والضيق التنورة التي راحت تقف ما فوق الركبة بقليل. هكذا ألقت دار ريتشي العريقة في جادة مونتينيه مرساها على شاطئ الرومانطيقية غير المنتظرة. جديد جينكو شيمادا كان نزول أليسون ايستوود، ابنة كلينت ايستوود، الى ساحة عرض الأزياء لأول مرة. ففي حديقة غناء لعبت بنات حواء دورهن بمهارة وهن يرتدين الموسلين، الكتان الأبيض المزهر بالتوليب والجاكيتات القصيرة والتنانير المرتفعة عن الركبة. وعلى هذا الشكل جاء حلم كارل لاغرفيلد يتبلور واقعاً عبر الأثواب الخفيفة التي برعت كلوديا شيفر في عرضها باسم دار كلويد، ألوان عاجية هادئة ودانتيل القرن التاسع عشر. وليست هناك مشكلة في الطول، لأن لاغرفيلد لعب لعبة الأطوال كلها، وجعل الثوب الواحد طبقات أحياناً عبر الموسلين والحرير لأثواب الأمسيات. وعلى مبدأ كل يحمل من بلده طقوسه، هكذا فعلت اليابانية راي كواكيبو في مجموعتها التي تحمل اسم "كوم دي غارسون"، أي "مثل الصبيان". جاءت بيابان رجالية وألبستها على قامات نسائية لوحظ فيها دقة القصات وجمالية الخياطة. كل شيء رجالي للصيف، لكنه يحمل كل رهافة الأنوثة وغنجها. وعن التاريخ الياباني البعيد استوحى يوجي ياماماتو مجموعته الربيعية والصيفية لعام 95. ثلاثون إمرأة في سواد سرن بخطى ثابتة على مسرح جامعة السوربون وعلى عكس بقية العروض التي جرت في متحف اللوفر الجديد. كيمونو قاسي المظهر يغوص في جذور اليابان التاريخية الى ما قبل ألف ومئتي سنة، والمصمم وضع نصب عينيه في هذا تكريم مدينة كيوتو التي ستحتفل بعيد تأسيسها بعد قليل. الجميع في اللوفر والسوربون كانت اسماء المبتكرين والمبتكرات تلعب دورها في جلب الحشود الى قاعات العرض. أسماء تضج وأخرى أقل ضجة. غير أن عروض الأسماء الخفية الى حد ما فرضت ذاتها جمالاً واختلافاً. دوروتيه بيس قدمت صيفاً من الذهب لابنة العشرين عاماً. تنورة فوق الركبة وصرعة في الألوان اللامعة والفاقعة. والربيع اختاره التركي الشهير عصمت أوزبك يموج بياضاً واستوحى لباس مباريات السيف والترس ليقدم موضة استعراضية فيها أقنعة المتبارين على وجوه العارضات الجميلات، ولوحظ أن أوليفيه غيلمان الذي عمل لحساب موضة باكو رابان، قد بحث عن القماش الذي يداخله البلاستيك. وهكذا تحولت الأنظار في العرض الى تلك الأقمشة الغريبة التي شكلت الموضة بحد ذاتها. واختلط الرجالي بالنسائي عند بودي برووا. فهذه أنزلت الى الساحة مجموعتها الرجالية الأولى، وعلى خشبة العرض تهادت الموضتان بقصات كلاسيكية للرجال وبأثواب الممرضات للنساء مطرزة بتطريز انكليزي. واتجه ماريو شانيه الى الأقمشة اللماعة، في الجاكيت التي حملت ياقة بيضاء فوق كولونات سوداء تنتهي بأحذية حمراء. لكن اليوم الثالث للعروض أطل مع تنافس ثلاثة أسماء كبيرة: كلود مونتانا، كريستيان لاكروا وسونيا ريكييل. مونتانا لعب في موضته المقبلة لعبة الدب والدمية. الدب هو مونتانا بالذات الذي لم يترك بلوزونه "الكاوبووي" يوماً، ومن الجلد طبعاً، والذي يتمكن من تصميم هذا القدر من الأناقة الرائعة والدقيقة. وعلى الرغم من تأخر موعد عرضه ساعة وربع تقريباً، فالجميع تمنى فعلاً ألا ينتهي تهادي العارضات على الخشبة. الألوان بيضاء وزهرية، التنانير قصيرة بثنيات، منفوخة كالزهرة فوق "الجيبون"، مخصورة حول الخصر الدقيق. وباختصار، كانت العارضات كالدمى التي كانت الملكات الأوروبيات تتهاداها قديماً ويتناقلن الموضة عبرها. وحتى أثواب السهرة كانت قصيرة عند مونتانا وفي ألوان قوس القزح. فخامة متعالية الأناقة لكن من دون أي تطريز. مونتانا فضل القصات تبرز شخصية الأنيقة، فلا تتحول الأنظار عنها الى بريق الأحجار التطريزية. ولم تكن مجموعة كريستيان لاكروا بنمط واحد، بل متعددة مثل نجوم تهرب من أمكنتها في مساء من أمسيات حزيران يونيو وتتجمع في كرة كريستيالية تُفجر الأنوار. لقد أدار لاكروا الرؤوس فعلاً بمئات ألوانه وأقمشته، في جاكيتات قصيرة وبتأكيد على أن المرأة هنا لا تحب الا ما يبرق. لكن بقي الأخضر لوناً سائداً، أما جديد القصات فبرزت في الأكتاف البارزة المكورة. لم يغب التطريز أبداً عند لاكروا كالعادة، وأي امرأة تستطيع أن تجد موضتها عنده، في القصير كما الطويل، في الضيق كما الواسع، وان بقيت الجاكيت القصيرة الضيقة عند الخصر هي سيدة الساحة. وهذا يتعاكس مع سونيا ريكييل التي جعلت البنطلون الواسع والجاكيت المرتخية، سيّدي الساحة الموضوية في عرضها. وشهدت سونيا المتحدية دائماً في التأكيد على أنوثة المرأة، على الثوب الأسود الذي أعاد بعض تفاصيل الأناقة الهوليوودية. كثير من العقد على الأثواب، ربما في شيء من المبالغة، وكذلك الأمر في استعمال الأقمشة الساتانية. الصيف حار على هامش العروض الكبيرة المذكورة، توقعت كورين كوبسون أن يكون الصيف المقبل حاراً، فعرضت مجموعتها من هذا المنطلق وكانت جميع الموديلات خارجة عن المألوف. ألوان كاكية، أقمشة من القطن والأطوال شبه مفقودة. ومع أن العارضات كن من النخبة، غير أن تسريحاتهن كانت قاسية وحمرة الشفاه لونها برتقالي. استعراض على طريقة لاغرفيلد وأمام أنظار فانيسا بارادي الجميلة التي كانت تحضر العرض وتجذب الكاميرات كثيراً. ولعب هيلموت لانغ لعبة اللون الأخضر أيضاً مع ادخال النايلون الى أقمشته وتصميم الثوب الواحد على شكل ثوبين ارتدتهما العارضة في وقت واحد. صرعة أيضاً للتميز أكثر منها للابداع. وفي وقت واحد تقريباً كانت الشابة لوليتا لابيكا تعرض مجموعة أزيائها في قاعة لومير، بينما كان لاغرفيلد يقدم عرضه في القاعة المجاورة. لهاث بين العرضين، لكن على اختلاف في الأسلوبين. فقد فكرت لامبيكا بالعرائس وهي تصمم مجموعتها التي ارتدتها عارضات شابات جداً تباهين بألوان الربيع الزهرية والزرقاء والبرتقالية، بالدانتيل الكثير والورود، وبأثواب فقط تعلو فوق الركبة ككل. رومانطيقية الى أبعد حد بدت فيها العروسات من العارضات بالعشرات، ودانتيل القرن التاسع عشر نزل الى الساحة بلونه العاجي، أما القبعات فامتلأت بالورود الملونة وحملت الحشد في القاعة على التصفيق والحلم بزواج جديد. لكن كارل لاغرفيلد، في العرض الخاص به، أتى باستعراض موضة لا بموضته. قماش من الليكرا المقلم يلتصق بالجسم والقصير فوق الحد والألوان ماجت في تنانير من الساتان للسهرات، كأن لاغرفيلد لم يكن يهمه إلا أن يبالغ في اطلاق صرخة موضة على شاكلته تتحدى العصر المجنون الذي بدأ يفقد الكثير من قيمه السابقة. غير أن ما فعله لاغرفيلد لموضته الخاصة لم يجرؤ أن يفعله لموضة شانيل الذي تابع على تصميم أزيائها. شانيل تزداد شباباً فعلاً معه عبر التايور المعروف بأزراره الذهبية وبسلاسله التي ابتكرتها "كوكو" في أوائل القرن العشرين لدارها الشهيرة اليوم من دون أن يمسها مرور الزمن، طبعاً، هناك تغيير في الألوان لتناسب الربيع والصيف والتنورة علت عن الركبة لتساير الموضة المقبلة التي أجمع المبتكرون والمبتكرات على إنزالها مشبعة بالتجديد والخفة. كذلك كانت مادونا في عرض جون غاليانو الذي جاء بتصاميمه من فيلم جيمس دين. وعبر فيفيان ويستوود نزلت الموضة الانكليزية الى الساحة بفرض التنورة القصيرة بالاجمال. لكن سيروتي جاء بخطوط تعطي حياة الى القامة الرشيقة، وذلك عبر طول يسقط تحت الركبة ويماشي حركة الجسم. وغلب اللون الكحلي والأبيض على بقية الألوان، ومع رفض سيروتي لاستخدام أي زنار. تبقى بقية العروض التي تتالت على عشرة أيام متواصلة وتوزعت على أكثر من سبعين مصمماً ومصممة للأزياء الجاهزة الربيعية والصيفية، مهرجانات متشابهة ومتعارضة. كل واحد له لمساته الخاصة فيها، غير أنها تنطلق من مبدأ متفق عليه وراء الكواليس، ألا وهو اعادة الحلم الى الموضة وبعث الفرح فيها لتحدي الأزمات والفضائح. هذا كله مع بقاء العارضة كلوديا شيفر في قمة الاستغلال لشهرة اسمها. وليس فقط ان الحوار الصحافي معها مدفوع، بل أن حضورها أحد عروض أزياء مصمم ايطالي شهير كان ثمنه خمسة وعشرين ألف دولار. فهل العالم مجنون، أم ان الموضة صارت تستوحي من الجنون ما يعيد النشوة الى الأقلام التي تستمد منها مادة وفيرة؟.