سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الجنوبيون لا يملكون مقومات الدولة وانفصالهم هزيمة لهم . جنوب السودان : ثرواته ، صراعاته القبلية، عاداته وتقاليده وتلك المرأة التي تخنق رئيس القبيلة اذا مرض
تسلطت الاضواء مجدداً على مشكلة جنوب السودان بعدما تمكنت القوات المسلحة السودانية من السيطرة على مدينة توريت، مقر قيادة العقيد جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي ضوء عزم الرئيس السوداني الفريق عمر البشير على مواصلة عملياته العسكرية لاستعادة معظم أو كل المدن والقرى الجنوبية. وقد انقسمت حركة قرنق على نفسها منذ نحو عام بخروج جماعة "لام اكول" او ما عرفوا باسم "جماعة الناصر" والتي تدعو الى انفصال جنوب السودان عن شماله. وكان المؤتمر الذي عقد اخيرا في ابوجا نيجيريا بين وفود تمثل الحكومة السودانية، واخرى تمثل فصائل حركات التمرد تحت رعاية الرئيس النيجيري ابراهيم بابانغيدا، هو آخر المؤتمرات السياسية التي استهدفت وضع حل لمشكلة الجنوب السوداني. وظهر في هذا المؤتمر اتجاه لدى الجنوبيين الى الانفصال عن الشمال في اطار حل المشكلة على اساس فيدرالي او كونفيدرالي. وفي ضوء ذلك ظهر خلاف بين الشماليين والجنوبيين على نوعية القوانين التي سيستند اليها نظام الحكم: هل ستكون قوانين اسلامية او علمانية؟ الشماليون يتمسكون بالقوانين الاسلامية مع منح الجنوبيين حرية الاختيار، بينما يطالب الجنوبيون بقوانين واحدة يخضع لها السودان كله شماله وجنوبه وهي القوانين العلمانية. وهكذا تأخذ المشكلة هذا المظهر في ملامحها الخارجية، بينما هي في الواقع اعمق من ذلك. والمهم في هذا كله ان فكرة الانفصال بدأت الآن تطل برأسها، وظهرت للمرة الاولى في البيانات الرسمية مما زاد اهتمام السياسيين والمعنيين بالشؤون السودانية بقضية جنوب السودان، وطرح هؤلاء اسئلة متعددة: هل يمكن ان ينفصل جنوب السودان عن شماله ويصبح دولة مستقلة؟ وفي هذه الحالة ما مصير هذه الدولة ومستقبلها؟ وهل لديها امكانية الاستمرار؟ وكيف ستكون العلاقة بينها وبين جارتها التوأم في الشمال، وهل تقيم معها علاقات ديبلوماسية واقتصادية ام يظل الصراع العسكري مستمرا لمحاولة اعادة الجزء المتمرد المستقل الى اصله في الدولة الواحدة، ام ان ما يحدث في جنوب السودان هو استمرار لظاهرة تفتت الدول كما هو الحال في اوروبا الشرقية، واثارة النعرات العرقية والقومية؟ وما يلفت النظر ان نغمة الانفصال كانت تتردد على ألسنة الشماليين في اواخر عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري، وكان يرددها بعض السياسيين في الشمال في مجالسهم الخاصة كنوع من "الحل السهل" لمشكلة الجنوب، لكنهم كانوا لا يجرؤون على الجهر بها، بينما كان الجنوبيون يتباهون بأنهم ليسوا "دعاة الانفصال" وكان المتشددون - عرقيا - منهم يدعون الى الفيدرالية الى حد ان حزباً سياسياً جنوبياً اطلق على نفسه اسم "الحزب الفيدرالي". ويبدو الان، ان تردد نغمة الانفصال في بيانات رسمية تصيب الحكومة السودانية بالرعب. فالحكومة تتهم كل من يرددها بالخيانة، وهي على حق في مخاوفها ذلك انه لم تجرؤ حكومة سودانية سواء قبل استقلال السودان عام 1956 او بعده على الدعوة الى فصل الجنوب عن شماله. واية حكومة تدعو الى هذا الفصل تحكم على السودان بالاعدام. فانفصال الجنوب عن الشمال يشجع جماعات اخرى على الانفصال ايضاً: سكان جبال النوبة في غرب السودان من جهة وسكان جبال الانجسنا في الشرق من جهة اخرى، فيصبح السودان مجموعة من "الشظايا" العرقية والقبلية يصعب توحيدها بعد ذلك. فهل ما يحدث في اثيوبيا يراد له ان يتكرر في السودان؟ هذا اكثر ما تخشاه حكومة الفريق عمر البشير. فكرة انفصال الجنوب عن الشمال في السودان تطرح الكثير من الاسئلة، وهذا يقتضي منا ان نبحث في اوضاع الجنوب من ناحية السكان والقبائل والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وطبيعة هذا والكيان الجغرافي - السياسي. السودان بشماله وجنوبه ارض متصلة تبلغ مساحتها مليوني كيلومتر مربع، وتتسم بالتنوع المناخي والقبلي واللغوي، بل وتعدد الاجناس العرقية. ووحدة السودان الحقيقية هي في تعدده، وتلك هي المعادلة الصعبة التي تتحكم في السودان وتكون مشاكله السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي ضوء هذه الحقائق فان جنوب السودان يحتل طرفا في التعددية السودانية، وهذا الطرف يحتوي ايضا على الكثير من الجزئيات التي تمثل لونا آخر من التعددية داخل الكيان الاقتصادي والاجتماعي والقبلي واللغوي لجنوب السودان. تقدر مساحة جنوب السودان بنصف مليون كيلومتر مربع اي ربع مساحة السودان كلها، ويقع في المنطقة المدارية بين خطي طول 3 - 35 شرقا، وخطي عرض 4 - 12 شمالاً، وتحده خمس دول افريقية هي اثيوبياوكينيا، واوغنداوزائيروافريقيا الوسطى وأهم مداخله الى الشمال ميناء كوستي النهري. وترتبط الاقاليم الجنوبية الثلاثة بخطوط السكك الحديدية وهذه الاقاليم - او الولايات - هي الاستوائية وعاصمتها جوبا، واعالي النيل وعاصمتها ملكال وبحر الغزال وعاصمتها داد. رئيس القبيلة تخنقه امرأة سكان الجنوب من القبائل ذات العرق الزنجي والاصل الافريقي، ويبلغ عدد سكانه نحو 5 ملايين نسمة وهو يعادل نحو ربع سكان السودان. من بين هؤلاء مليون نسمة تدين بالاسلام، ومليون نسمة اخرى تدين بالمسيحية وبقية السكان من اصحاب "الاعراف الكريمة" كما نص على ذلك الدستور السوداني، وهي الجماعات التي ليس لها دين سماوي. وفي عادات القبائل فان الفكرة الروحية تبدو في علاقة القبيلة بكبيرها مثلما هو حادث في قبيلة "الشيلوك"، وهي من اكبر القبائل في الجنوب السوداني بعد "الدتكا" و"التوير" وتتركز في اقليم اعالي النيل، فرئيس القبيلة له سلطة روحية، فهو المركز الذي تخضع له القبيلة كلها، وهو الذي يمثل القوة والسلطة، وهو الذي يملك الارض ومن عليها، فهو الذي يمثل الرمز الديني والسياسي للقبيلة. لذلك فالويل كل الويل اذا تعرض رئيس القبيلة للوهن او الضعف، واذا حدث ومرض رئيس القبيلة، ولم يعد يقوى على اداء عمله فان مصيره المحتوم ينتظره، اذ تأتي اكبر نساء القبيلة سنا وتدخل عليه وهو في سرير المرض وتخنقه حتى الموت. وفي تلك اللحظة يقام احتفال ضخم لتنصيب الرئيس الجديد، وتغلق ابواب الكوخ على الرئيس القديم ليتحول كوخه الى مقبرة من دون اي احتفال جنائزي. ويظل هكذا لمدة ستة اشهر حيث يقام له احتفال جنائزي ويدفن في مقبرة خاصة. والويل كل الويل لرئيس القبيلة اذا انهزم امام خصمه، فلا احد يبكي عليه، ولا احد يدافع عنه، وانما يصفقون للرئيس الجديد. فالشعار عندهم هو: "من لديه القدرة فهو الرئيس وهو سيد القبيلة". وتتعدد القبائل في جنوب السودان وليس هناك عدد محدد لها واهم هذه القبائل هي قبيلة "الدنكا" التي تنتشر في كل الولاياتالجنوبية باستثناء اقليم الاستوائية، وتأتي بعدها قبيلة النوير ثم قبيلة "الشيلوك" ثم قبيلة الزاندي النازحة من غرب افريقيا. اما اقليم الاستوائية فيضم سبع قبائل اساسية هي اصغر القبائل واقلها حجما وعددا في الجنوب ومن هذه القبائل التابوسا، واللاتوكا، والماري، والزاندي، و"الدادينكا". وتتعدد اللغات المحلية في الجنوب فلكل قبيلة لغتها ولهجتها، واهل الجنوب يتحدثون اللغة العربية العامية الركيكة، اما اللغة الانكليزية فهي لغة المثقفين ولغة الادارة الرسمية. وتمثل القبيلة عنصرا مهما في تاريخ جنوب السودان وتطوره الاجتماعي والسياسي. والصراع مستمر بين القبائل. والقبيلة التي تنتصر على قبيلة اخرى يصبح لها الحق في امتلاك سكانها والتصرف فيهم كيفما تشاء وتعاملهم معاملة الرقيق والغنائم. ومن هنا ظهرت تجارة الرقيق في القرن التاسع عشر، مما شجع الكثيرين من الاجانب، سواء كانوا عربا او اتراكا او اوروبيين، على الدخول في تجارة الرقيق. وتقول المصادر التاريخية ان الذي كان يسهل لهؤلاء التجار الحصول على الرقيق هم السكان انفسهم، فكانت القبائل الغازية تساهم في هذه التجارة. والصراع بين القبائل لا ينتهي، وهو الذي يهدد استقلالية الدولة واستمراريتها، ومن حسن حظ الجنوبيين ان ذوبانهم في القبائل الاخرى في الشمال والغرب وحّد بينهم كجنوبيين في مواجهة الشماليين واخذت المواجهة طابعا عرقياً. الشماليون هم العرب والجنوبيون يمثلون الزنوج. وبدرس الاوضاع داخل القبائل في جنوب السودان تبدو حدة الصراع بين قبيلة "الدنكا" وقبيلة "التوير"، اما قبيلة الشيلوك فبرغم كبر حجمها الا انها اكثر القبائل الجنوبية ميلا الى السلم. وتذكر الوقائع والاحداث انه بعدما قاد جون قرنق تمرده من خلال "الكتيبة 105" في مدينة بور في اقليم اعالي النيل عام 1983 حيث تمكن من السيطرة على الموقف وتكوين "الحركة الشعبية لتحرير السودان" حاول ان يضم اليه ابناء التوير، فرفض بعضهم بحكم كونه من ابناء قبيلة الدنكا، ودارت معارك بينهم اسفرت عن قتل صمويل جاي نوت وهو من ابناء قبيلة "التوير". واذا كان قادة "الحركة الشعبية لتحرير السودان" يحاولون ان يبعدوا عن انفسهم صفة "القبيلة" بدعوى ان الحركة تضم بين اعضائها اشخاصا ينتمون الى مختلف القبائل والى الشمال والغرب، فان ذلك لا ينفي حقيقة الصراع القبلي في الجنوب، بل يمكن القول ان معظم اعضاء حركة "انيا-تيا 2" التي تعادي حركة جون قرنق والتي استخدمها الجيش السوداني لضرب قرنق واطلق عليها اسم "القوات الصديقة" ينتمون الى قبيلة "التوير". كما ان الصراع السياسي الذي ظهر بين جوزيف لاجو قائد حركة التمرد الاولى في الجنوب قبل اتفاقية اديس ابابا 1972 وبين ايبل الير احد كبار السياسيين الجنوبيين، كان صراعا قبليا. فجوزيف لاجو من قبيلة صغيرة هي قبيلة المادي في اقليم الاستوائية، بينما ينتمي ايبل الير الى قبيلة الدنكا، وقد عمل الرئيس الاسبق نميري على تأجيج الصراع بين لاجو وايبل الير ولعب فترة من الوقت على هذه الصراعات بين الجنوبيين انفسهم. ويكشف الكتاب الذي وضعه يونا ملوال وزير الاعلام السوداني الاسبق، وهو من قبيلة الدنكا والمناصرين لايبل الير، عن مدى الكراهية التي يكنها ابناء الدنكا لجوزيف لاجو، ابن قبيلة المادي الصغيرة، وهذا الكتاب صدر عام 1983 باللغة الانكليزية بعنوان "الشعب والسياسة". ثروات الجنوب لكن هذه القبائل الجنوبية، مع الخلافات والنزاعات الدائرة بينها، تتوحد وتبدو كياناً واحداً يحمل سمات مشتركة أمام النقيض الآخر. فهذه القبائل تفخر بأنها تحمل صفات "الزنوجة" الاصيلة ولم يتسلل اليها عرق اجنبي كما حدث لأبناء الشمال الذين هم اصلاً زنوج صاهروا العرب البيض وتنصلوا من زنوجيتهم. ويقول احد هؤلاء الجنوبيين، ويدعى بولين ويعمل صحافيا ان الصادق المهدي رئيس الوزراء السوداني الأسبق هذا فيه عرق زنجي، فجدته مقبولة، ومقبولة هذه اهداها الجنوبيون الى جده عبدالرحمن المهدي، ولم يكن لها اسم، فأخذها على انها هدية وقال: "مقبولة" اي هدية مقبولة، فصار اسمها مقبولة. ويردد بولين هذه الحكاية اكثر من مرة وهو يضحك حتى تظهر من بين فكيه اسنانه المكسورة. وكسر الاسنان تقليد قبلي، فمن عادات بعض القبائل كسر السنتين الاماميتين للدلالة على اصل القبيلة. وهناك قبائل تضع نوعا من العلامات على الجسد سواء على الكتف او على الجبهة، كقبيلة الشيلوك تضع على الجبهة حبات تبدو كالعقد، وقبيلة التوير تضع نوعا من الخطوط وبعض القبائل تخلصت من هذه العادات. وحتى عام 1930 لم تكن القبائل في جنوب السودان تعرف الملابس، فكانت تكتفي بسترة من الجلد وسط الجسد، ويظل بقية الجسد عارياً. ومنذ عام 1930 بدأ الجنوبيون يستخدمون الملابس والاقمشة ويرتدي المتعلمون منهم حلة كاملة، اما الذين لم يحصلوا على اي قدر من التعليم فهم اشباه عرايا داخل الغابات. ويروي احد الوزراء الجنوبيين انه قبل ان يصل الى قريته ويدخل على اهله في الغابة فان عليه ان يخلع بدلته ولباسه المتحضر ويدخل على اهله عاريا مثلهم والا اعتبر منعزلا عنهم ومتكبرا عليهم فيبتعدون عنه. وهكذا تكاد تكون عادات وتقاليد وثقافة القبائل في جنوب السودان واحدة. اما اذا انفصل الجنوبيون فان العلاقات الكامنة بينهم ستظهر على السطح ليتجدد بينهم صراع الماضي وهذا من شأنه ان يضعف الجنوب ويجعله مطمعا لدولة افريقية مجاورة من الدول الخمس التي تحيط به. هذا عن الوضع القبلي والاجتماعي. اما عن الوضع الاقتصادي فلا يختلف الامر كثيرا فاقتصاد الجنوب مرتبط باقتصاد السودان ككل، وقد حرم الجنوب من كثير من مشروعات التنمية باستثناء بعض المشروعات الصغيرة، وبخاصة في مجال الكهرباء التي كانت تمولها الحكومة الالمانية، ومشروعات اسكانية مولتها حكومة الكويت، وعدد من المستشفيات والمدارس. ورأت الحكومات السودانية المتعاقبة ان تولي اهتمامها بالشمال وتعطي اهمية ثانوية للجنوب. ويعللون ذلك بسببين: الاول ان اوضاع الجنوب غير مستقرة والسبب الآخر ان الجنوب ظل خلال فترة الاحتلال البريطاني مهملا مثله في ذلك مثل سائر المناطق السودانية ولم تكن فيه مشروعات سوى ما تقوم به الكنائس التبشيرية من تعليم، وتدريب على الزراعة والصناعات اليدوية كجزء من الخطط التبشيرية وليس كمشروعات تنمية. وهناك سبب ثالث في تقديري، وهو ان السياسيين الجنوبيين والسلاطين لم يهتموا بمشروعات التنمية بل بتطوير وتنمية مصالحهم الشخصية. والجنوبيون مولعون بالمناصب الحكومية والروتين الوظيفي، وتمثل الوظيفة الحكومية لهم طموحا يسعون الى تحقيقه. وقد ادرك الرئيس الاسبق نميري نقطة الضعف هذه في الجنوبيين فولى كثيرين منهم في مناصب وزارية وحكومية واستخدم هذه الورقة بينهم لاحكام السيطرة عليهم. وقد كسب نميري كثيرين من الجنوبيين في صفه بسبب ما نعموا به من مناصب حكومية في عهده. والاقليم الجنوبي غني بالمواد الطبيعية من معادن واراض خصبة وثروة حيوانية. فقد اكتشفت الشركات الاميركية وشركة شيفرون بشكل خاص البترول في المناطق الجنوبية وبالتحديد في منطقة "بانتيو" وهي تقع في المناطق الفاصلة بين الشمال والجنوب. وكان نميري اثار مشكلة بعد اكتشاف البترول في هذه المناطق باعتبارها تابعة للشمال، واعتبرها الجنوبيون اراض تابعة للجنوب ولهذا قرر انشاء ميناء جديد على البحر الاحمر ومصفاة جديدة للبترول في الشمال ينقل اليها البترول المكتشف للتصدير. ولعل هذا الخلاف بين نميري والجنوبيين حول كيفية الافادة من البترول هو احد الاسباب التي ادت الى اندلاع الحرب الاهلية في الجنوب مرة اخرى عام 1983. والجنوب غني بالمعادن مثل الذهب والحديد والمنغنيز واليورانيوم ولكن المشكلة هي كيفية استخراج هذه المعادن وعدم وجود بنية اقتصادية من شبكة طرق ومواصلات تساهم في الافادة من هذه المواد اقتصاديا. وفي الحرب الاهلية الاولى كان الجنوبيون يحصلون على الاسلحة من زائير في مقابل الذهب الذي كانوا يستخرجونه من المناطق الجبلية جاهزا ولم يبذلوا جهدا في تنقيته فقد كانت مياه الشلالات المتدفقة على الجبال تقوم وحدها بهذه المهمة. وتكثر في جنوب السودان زراعة الفاكهة خصوصا المانغو والباباي وهذه المنتجات لا تستغل اقتصاديا لعدم وجود المصانع الخاصة بتصنيع المنتجات الزراعية. والفواكه لكثرتها يتم التخلص منها بحرقها. وتكثر زراعة الذرة بوصفها مادة غذائية رئيسة ومنها يصنعون مشروبا غذائيا يسمى "المريسة". وقد واجهت حكومة نميري مشكلة عندما سنت تلك القوانين التي سميت "قوانين الشريعة الاسلامية" لمنعها هذا المشروب باعتباره من انواع الخمور، واحتج الجنوبيون على ذلك لانهم يعتبرونه نوعا من الغذاء الشعبي الخاص بهم. لا مقومات دولة في الجنوب وفي الجنوب تكثر الابقار الا ان السكان لا يستفيدون منها اقتصاديا، فالبقر في الجنوب يمثل شيئاً مهماً للسكان فهو دليل على الخير والثراء، ويقدمونه كنوع من انواع المهور في الزواج، وتتباهى الاسر في الجنوب بعدد الابقار التي تمتلكها وافرادها لا يأكلون لحومها الا في حالات الضرورة. كذلك تكثر الحيوانات البرية في الغابات وهذه تمثل مناطق سياحية تجذب الزوار والاجانب مثلها في ذلك مثل دول افريقية اخرى، الا ان هذه المناطق غير مستغلة سياحيا نظرا الى تدهور الاوضاع الامنية من ناحية، وصعوبة المواصلات سواء كانت برية او جوية او نهرية من ناحية اخرى. وفي ضوء ذلك يمكن القول ان جنوب السودان غني بثرواته الطبيعية الا انها ثروات غير مستغلة نظرا الى غياب وضعف البنية الاقتصادية من طرق ووسائل مواصلات ونقل، وعدم وجود المصانع والايدي المدربة لاستغلال هذه الثروات. لذلك فان سكان الجنوب يعيشون على ما تنتجه الغابات من فاكهة وعلى ما يحصلون عليه من معونات غذائية من الجمعيات الخيرية والتطوعية في العالم، وما تقدمه الاممالمتحدة بسبب ظروف الحرب في الجنوب، بل ان سكانه يعانون من المجاعة ويضطرون الى الهجرة الى الشمال او الى مناطق الحدود المتاخمة هربا من المعارك وبحثا عن مصدر للرزق كي تستمر الحياة بدلا من الموت جوعا. وكما يعاني الجنوبيون من قلة مشاريع التنمية فانهم يعانون ايضا من ندرة المدارس وقلة فرص التعليم ولذلك فتحت الجامعات في الدول المجاورة ابوابها لهم وخاصة جامعة كمبالا في اوغندا التي تخرج فيها جون قرنق. وتقدم الجامعات الاوروبية والاميركية منحاً لابناء الجنوب للحصول على ارقى الشهادات العلمية ويصل عدد الجنوبيين الحاصلين على مثل هذه الشهادات اكثر من ألف شخص وقد ادركت مصر ففتحت الباب لأبناء الجنوب وقدمت لهم منحاً خاصة في الجامعات المصرية وخاصة جامعة الازهر، مما ساعد على انتشار اللغة العربية في هذه المناطق وانتشار الاسلام ايضاً. وفي الجنوب جامعة واحدة هي جامعة جوبا، ويبلغ عدد الطلاب فيها نحو 600 طالب وهي تخلو من بعض الكليات المهمة والدراسة بها غير مستقرة بسبب سوء الاحوال الامنية. ومع ما يتردد الآن عن وجود اتجاه لدى بعض الساسة الجنوبيين وفي مقدمتهم لام اكول لفصل الجنوب عن الشمال فان مقومات الدولة لا تنطبق على الجنوب. فالمدن الثلاث للولايات الجنوبية الثلاث متشابهة وهي جوبا عاصمة اقليم الاستوائية، ودارو عاصمة اقليم بحر الغزال وملكال عاصمة اقليم اعالي النيل، فأي منها ستكون عاصمة الدولة الجديدة؟ ان هذا في حد ذاته من شأنه ان يضع بذورا للصراع الداخلي في هذه الدول بالاضافة الى صراع القبائل. كذلك فان جنوب السودان لا منافذ لديه على العالم الخارجي فهو مرتبط بالخرطوم بوصفه منطقة اقليمية في دولة السودان، مطاراته وموانئه الرئيسية تابعة للسودان واذا انفصل فانه يتحول الى دولة مغلقة. ويرى بعض خبراء الشؤون الافريقية ان هذا لا يمنع من استقلال الدولة فهناك دول في افريقيا مغلقة مثل افريقيا الوسطى ورواندا. وانا لست مع هؤلاء القائلين بهذا الرأي لان انغلاق الدولة يقلل من السمات والضرورات الواجبة لاستقلاليتها، والا فانها ستجد نفسها منجذبة الى دولة اخرى للانضمام اليها. وفي حال جنوب السودان فان الانجذاب الى دولة مثل زائير او كينيا اقرب الى الاحتمال، وبالتالي فان انسلاخ او انفصال الجنوب عن الشمال في السودان لا يشكل مزية للجنوب. ان قيمة الجنوب الآن انه جزء من السودان ويسعى الى تأكيد حقوق حرم منها على مدى سنين طويلة، وحصوله على هذه الحقوق انتصار له وانتصار للسودان ككل، اما انفصاله كما يطالب بعض الجنوبيين فهو هزيمة للجنوب نفسه اكثر من كونه هزيمة للسودان، او للنظام الحاكم في السودان. ويصبح الجنوب في هذه الحالة مثل العربة التي تركتها القاطرة في منتصف الطريق: اما ان تبقى هكذا معوقة لحركة الطريق، او تأتي قاطرة اخرى وتجري بها الى مستقبل غير معلوم. * خبير مصري في الشؤون السودانية.